تحطيم سرديّة القاهرة المحفوظية في "ماكيت القاهرة"
لا أعرف حقيقة لماذا تذكرت وأنا أقرأ رواية طارق إمام الجديدة “ماكيت القاهرة” ـ القائمة الطويلة لجائزة “البوكر العربية 2022” ـ قصة بناء محمد علي باشا وأولاده مدينة القاهرة التاريخية قبل نحو مائتي عام، وهي المدينة التي يُفترض أن “ماكيت القاهرة” مكتوبة في وداعها، ففي النصف الأول من القرن التاسع عشر فشل محمد علي باشا في استعادة استقلال مصر عن السلطان العثماني، وقد انتهت طموحات الباشا الألباني الخاصة إلى الاستعاضة عن الدولة العثمانية التي كانت تنهار حينذاك، بغيرها ولو على نحو مُصغّر، فكانت مدينة القاهرة، التي كبُرت ونمَت وهي تتوق إلى مدينة أخرى، وجرت محاولات تثبيت روح الحداثة المستوردة فيها خلال قرنين من الزمان، إلى أن أصبحت “القاهرة” الآن على أعتاب إعلانها مدينة من الماضي بدأت حكاياتُها وأشباحُها الغريبة تتسلل بخفةٍ إلى شرايين الأدب.
لا أعرف إذا كان سبب هذا الربط بين مدينة الرواية “القاهرة 2045” ومدينة الباشا الذي رحل عام 1848، هو فقط أنهما تأسستا كهيكل مصغر “بديل” عن مدينة أخرى أكبر وأكثر حقيقيَّة، سواء في ذلك مدينة الرواية التي فرضتها قواعد اللعبة الروائية، أم مدينة الباشا الذي كانت تحكمه قواعد اللعبة الاستعمارية في تعاملاته مع الدول الكبرى، وفي النهاية انتهت مدينة الرواية إلى خلاء وصحراء ولا شيء.
على أيّ حال، أنا ممن يعتبرون تجربة طارق إمام الروائية واحدةً من أكثر التجارب الجديدة إدهاشاً وتعبيراً عن جيل جديد في الكتابة، تخلَّص من إرث “الحكاية المحفوظية” بزمانه ومكانه التقليديين، وبات قادراً على أن يخلط في كتاباته الأمكنة والأزمنة خلطاً عجيباً يقول الكثير عن واقعنا بطريقة تختلف عن أسلوب “الحكاية المحفوظية” وسرديتها الواقعية المتقنة زماناً ومكاناً، بحيث يتخطى طارق إمام الماضي في الرواية إلى الحاضر في لحظة كتابة الحدث، فيما يوحي زمن المستقبل بسرد القصة في اللحظة الراهنة، في عملية تجريبية متشابكة الجذور، تأخذ القارئ إلى تفاصيلها التي لا تتوقف عند طرح أسئلة تشبه ـ إلى حدٍ كبير ـ أسئلة واقعنا الحي.
على غير المعتاد في أعماله السابقة، تنطلق رواية طارق إمام الجديدة “ماكيت القاهرة” ـ الصادرة عام 2021 عن “منشورات المتوسط” إيطاليا ـ من لحظة محددة في الزمان والمكان، بانطلاق “ثورة 25 يناير 2011″، في “ميدان التحرير” التي شهدها قلب العاصمة المصرية، مقدمةً وداعاً روائياً غير تقليدي للمدينة التاريخية “القاهرة”، التي وصلت في نهاية الرواية إلى أن أصبحت صحراء جرداء مبلطة أرضيتها بكتاب واحد، يتكرر بشكل لانهائي من النسخ، وعلى الرغم من أن “القاهرة” لا تزال عاصمة مصر إلى اليوم، إلاَّ أن الرواية نعتها كمدينة غابرة مُطفأة لم تعد مدينة الأيام الخوالي، بل جاءت ـ في هذه الرواية ـ مدينة فقدت هيبتها أمام ماكيت مصغّر لها، بحيث تضاءلت تدريجياً إلى أن صارت صحراء نحو عام 2045.
بهذه الرواية، يُدشَّن طارق إمام على ما يبدو ـ ونحن على أعتاب اقتراح عاصمة جديدة لمصر ـ موجةً من الروايات التي يمكن أن تُكتب مستقبلاً عن تلك المدينة البالية التي تُدعى القاهرة القديمة، والتي شاءت الأقدار أن ينتهي دورها التاريخي في اللحظة التي انتفضت فيها ضد نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك 2011، ومن ثم تدور “ماكيت القاهرة” حول حياة ـ أو فَنَاء ـ عدد من صناع مشروع فني بعنوان “ماكيت القاهرة”، وهم مجموعة من النخبة الثقافية، ينضمون للعمل ضمن إنجازات “جاليري شغل كايرو” الغامض، الذي يسعى لاستعادة مدينة منتهية الصلاحية، عبر استنساخ المدينة بدقة في ماكيت مُصغّر يمكن التجول فيه خلال عدة دقائق.
من خلال عمل هذا الجاليري يظهر في الصورة “مبادرة جرافيتي القاهرة العنيف”، ومشروع “تحدي 24 ساعة كوميكس”، وهي مشروعات تشير إلى مدى تمسك السلطة وقتها بإدارة الذوق العام، وهي الظاهرة التي عانت منها القاهرة ـ واقعياً ـ وعانى منها عدد من الفنانين والرسامين، الذين كانوا يؤكدون برسومهم الجدارية المعبِّرة قرب الميادين العامة في القاهرة أثناء الثورة على تلك الطاقة الهائلة الكامنة في الفن، تحت شعار مستعاد “يحيى الفن الهابط”، وطبعاً طاردت السلطات هذه الرسوم بالمحو دائماً، كما تم القبض على عدد من هؤلاء الفنانين.
هنا لا يتناص طارق مع روايتين عالميتين مثلما فعل في مغامرته الروائية السابقة “طعم النوم” 2019، لكنه يتناص هذه المرة مع الواقع، مقدماً أكثر من حكاية داخل الرواية، بمعنى أن العالم يدور داخل صالة واسعة تمتلئ بالمرايا، يتلصص فيها الراوي ـ الذي ينتمي إلى النخبة ـ على القاهرة كمدينة قديمة محتضرة، وعلى المشروع كعمل حداثي غامض ومثير للريبة كونه مشروعا غير ربحي ينتهي بالتدمير الذاتي للأعمال الفنية، جنباً إلى جنب تدمير القاهرة كلها، فهناك دائماً من يتلصص على أصحاب المشروع وتحديداً مديرته “المسز” ـ التي تمثل السلطة الأمنية أو السياسية ـ والتي تتلصص بدورها على سكان الماكيت وصنّاعه وكائناته الدقيقة، كما أن سكان الماكيت أنفسهم سرعان ما يتحولون إلى متهمين ومن ثمّ إلى سجناء بصورة ما، لكنهم يستطيعون التلصص على بعضهم أيضاً، رغم اختلاف الأزمنة بينهم، كأن الحكاية تدور داخل متوالية ثلاثية يحكمها منطق الانكشاف والتعري عبر ثلاثة أمكنة وثلاثة أزمنة:
يُسهم “أوريجا” في تنفيذ “ماكيت القاهرة” 2020 الذي ينتج ساكنيه وبينهم “نود”، ونود تصور ماكيتاً أصغر داخل ماكيت أوريجا، هو القاهرة 2011، الذي يمثل “بلياردو” أحد شخصياته، عبر الدوائر الثلاث المتداخلة يستبدل التعاقب الزمني الأصلي للحكاية بتداخل مكاني، يجعل الحكايات الثلاث تتحقق بالتوازي.. لتنهض قصة أسرة واحدة في علاقتها بـ “جاليري شغل كايرو” عبر ثلاثة أزمنة”، هكذا يلخِّص طارق تيماته في “تعقيب” ينهي به الرواية.
ترنيمة الوداع
الحق أنها المرة الأولى للكاتب طارق إمام التي يجعل فيها من مدينة القاهرة أرضاً لحكاياته، كما أنها المرة الأولى ـ أيضاً ـ التي يُلامس فيها بروايته الواقع “السياسي والاجتماعي” لحدث تمَّ في زمان مُحدد، وفي مدينة محددة، سبق أن احتلت مكانتها المركزية في الأدب العربي، خلال القرن العشرين منذ شغلت حكاياتها “صاحب نوبل الرواية العربية” نجيب محفوظ، ابن أحياء “مصر القديمة”، والذي حفر صورتها وشخصياتها في رواياته: “أولاد حارتنا” و”زقاق المدق”، و”ملحمة الحرافيش” و”الثلاثية”، كأعمال كلاسيكية تعتبر “القاهرة القديمة” مِعقلاً لأحداثها ومجالاً لحركة شخوصها، ومحفوظ هو الاسم الأشهر بين رواد الرواية المصرية الذي اهتم بالقاهرة، إلى جوار كاتب كبير آخر مثل يحيى حقي، ابن حي السيدة زينب العريق وصاحب الرواية الأشهر “قنديل أم هاشم”.
طبعاً لا أقصد أنه يمكن دراسة “ماكيت القاهرة” بوصفها النقيض الأدبي لأعمال نجيب محفوظ، فطارق لا يتعمَّد أن يهدم نمط “الحكاية المحفوظية” التقليدي، لأنه انهدم من تلقاء نفسه بسقوط الأبنية الاجتماعية وأنماط العلاقات التقليدية التي كانت سائدة في عصر محفوظ ومدينته، هنا يشبه طارق نفسه ومستقبله بحيث يخلط الأزمنة التي تدور فيها الحكايات خلال النصف الأول من القرن الحالي مستشرفاً نحو ربع قرن من المستقبل، فيجعل المجال مفتوحاً لتفاعلات “ما بعد حداثية”، لم تكن سائدة في عصر محفوظ، وبالطبع لم تكن جزءاً من حكايته، حيث يدخل “ماكيت القاهرة” فاعلون غير موجودين في المكان، من خلال الهواتف أو “الحوائط التي تتحول إلى شاشات متصلة بكاميرات مراقبة ـ مثلاً”، في عمل تقوم بنيته على الحكايات المتداخلة لأبطاله الفنانين المغتربين والمفقودين بصورة ما: “أوريجا” و”نود” و”بلياردو”.
طبعاً يبدو من العبث مقارنة القتل عند محفوظ مثلاً في “ملحمة الحرافيش”، بقتل بطل “ماكيت القاهرة” والده طفلاً برصاصة من إصبع خياله، وبينما كان القتل في زمن الفتوات يتضمن مصفوفة من القيم الموروثة يُفترض أن يرعاها الفتوات، جاء في “ماكيت القاهرة” مجانياً وسهلاً و”سائلاً” لدرجة أنه صار في متناول خيال الأطفال أيضاً، فقد قتل الطفل والده بمجرد التفكير في ذلك، بحيث يمكن أن تلمح بسهولة مفهوم سيجموند فرويد عن “عقدة أوديب” المستوحاة من “أسطورة أوديب” الإغريقية، وهي العقدة النفسية التي تصيب الذكر بحب والدته والغيرة عليها من أبيه، إلى درجة قتله، لكنه قتل يتوافق مع الموقف من “الحداثة البرانية” أو الهجين، والتي فرضت قسراً على المصريين وأنتجت ـ بالتالي ـ نمطاً من الاختلالات تظهر في الكثير من لحظات الرواية، فهذا الرجل الذي قتله طفله لم يكن في الحقيقة والده البيولوجي، بقدر ما كان والده الاجتماعي “إذا صح التعبير”، أما والده البيولوجي فهو مجرد شبح يسكنُ في مرآة.
في حين تحمل الرواية في عنوانها اسم المدينة القديمة، وتعتمد على الكثير من معالمها في الواقع الحي، لكن المكان الذي يسكنه “جاليري شغل كايرو” في “قصر شامبليون” قرب ميدان التحرير لا يبدو مكاناً واقعياً في الرواية، في الواقع هو كتلة غامضة و”منسية”، تشيع جواً من الغرابة، ويمكن أن تدور فيها أحداث رواية عجيبة فعلاً، فالقصر لايزال مهملاً، شاهداً حياً على تلك الثمرة الواقعية النادرة التي ينطلق من غرابتها خيالُ الكاتب.
المفارقة، أن ذلك القصر الأثري الذي تدور فيه حكاية طارق إمام والذي تدور في حديقته حكاية “جاليري شغل كايرو” وتنبثق داخله تلك النسخة المصغرة من المدينة، لا يمثل كمكان في رواية طارق سوى وسادة يتكئ عليها فقط، كلما احتاج إلى ذلك، لكنه يخوضُ في سردية أخرى تخصه، حيث تحول هذا القصر إلى سجن بشروط ميسرة، تقوم عليه مؤسسة عقابية تشترط إدارة الأجساد التي تسكن فضاء القصر والتلصص عليها، حيث السلطة لا تستطيع أن تتعامل مع الإنسان سوى كجسد فقط، لكي تتمكن من السيطرة عليه، ليصبح جسدًا خاضعاً، وهكذا يتم اختيار مجموعة من الفنانين الذين حضروا الثورة وأسهموا فيها بطريقة ما ـ بكل ما يحملون من نفور وكراهية للقيود ـ لإقامة مشروع فني داخل هذا “القصر ـ السجن”، بتحديد إقامتهم فيه طوال مدة المنحة، مستغلاً هذه المساحة العبثية ـ التي تشبه كثيراً مآلات الربيع العربي ـ داخل اللعبة الروائية التي يقدمها.
معزوفة ضد القباحة
أكثر من مدينة قبيحة يقدمها طارق أولاً في “القاهرة القديمة” ـ منتهية الصلاحية ـ التي يهرب منها الفنانون ساعين إلى الاختفاء في ذلك “السجن الصغير” الذي تحكمه “المسز”، ثم المدينة المصغرة التي تتسم بالقباحة والنفور أيضاً، كونها صورة طبق الأصل من مدينة أكبر قبيحة بدرجة أسوأ، تحمل سمات تعرفها المدن الملعونة التي تقع في الواقع على الأطراف الجنوبية للرأسمالية، المدن التي تعيش ـ مثل غيرها من مدن هذه الفئة ـ تحت وطأة كل ما في “الحداثة” من هيمنة وتكريس للتشابه والتناسخ المفرط في الأزياء والألوان والبنايات، مدينة تعرف معنى “الاستغلال” و”عدم التكافؤ” المفروضين من قبل منظري العولمة على مُدنِ الأطراف المظلومة، القاهرة هنا مدينة رأسمالية تعيسة مُبتلاة بقيم “الحداثة البرانيَّة” غير الأصيلة، وفّرت فيها سياسات النيوليبرالية قبل العام 2011 وبعده أجواء الاغتراب والتفكك الاجتماعي والقتل والعاهات والمطاردات التي تسيطر على أجواء الرواية، حيث زاد الاحتقان السياسي على أرضية مطالب اجتماعية ذات ميول وهتافات يسارية قبل الثورة، وحين انفجر الناس ضد الفساد في 2011، ردت عليهم الرأسمالية العالمية بتولية أحزاب اليمين “الإخوان المسلمين” في مصر السلطة، وبدعمٍ أميركي كريمٍ وصريح.
وعلى عكس مخملية “القاهرة المحفوظية” جاءت قاهرة طارق إمام مكاناً ضيقاً وخانقاً يصلح لقضاء عقوبة مشددة أو مدينة تشبه “مستعمرة للمغتربين”، مكان تضيع فيه الذات بسهولة ويبدو فيه الإنسان إما يتيماً أو ضحية، مكان يشبه مخلفات الحروب، الجميع فيه مصابون ومتألمون، وتنفجر في شوارعه الواجهات الزجاجية كأنه بلد في حالة حرب “حيث الحرب هي نشاط الإصابة المتبادل من أجل إنتاج نتيجة غير تبادلية مُلزمة للجميع، بسبب قوة التأكيد الواقعية التي تُظهرْها الأجسادُ المصابة”، على نحو ما عبّرت إلين سكاري في كتابها المهم “جسد متألم صُنع العالَم وتفكيكه”، ما أريد قوله هنا أن مدينة طارق إمام تريد ـ بدورها ـ أن تعبّر عن درجة خسارتها للحرب (أو لمعركة التحديث) بكل ما فيها من أجسادٍ مُصابة وأرواح مُحطّمة.
في كل الأحوال يبدو إنسان هذه الرواية عاجزاً ولا منتميا بالفطرة، بغض النظر عن مقهى “عيني” المُخصص للعميان، هناك مدينة تشعر الإنسان بالاغتراب حتى في بيته، يقول واصفاً “نود”: “شعرت نود بتوتر وهي تتعامل مع نفسها كشخص لا ينتمي للقاهرة، لكن عزاءها أنها كانت دائماً شخصا طارئاً على غرفة، ضيفة حتى في بيت الأهل”، كما يعيش إنسان هذه الرواية نهاية عصر وبداية عصر جديد، بحيث يبدو الجميعُ عرايا أمام ماضيهم، أمام صورهم ومقاطع الفيديو المسربة لهم والملتقطة من كاميرات المراقبة التي أصبحت في كل مكان.
ورغم هرب الفنانين من الشرطة في القاهرة باللجوء إلى العمل في الماكيت الذي يبدو خارجاً عن سيطرة الدولة، اكتشفوا عند خروجهم أنّ القاهرة أصبحت خواء وتحولت إلى صحراء، كأن الماكيت الذي كان سجناً طوال الرواية تحول إلى “جنة” ما في نهايتها، حين أصبح من يخرج منه لا يجد إلا تلك الصحراء الجرداء التي وصل إليها حال القاهرة.
في مستوى آخر يتحدث طارق عن القاهرة باعتبارها المدينة الغارقة في القبح والدمامة، حد أنها باتت تكره الحب وتلفظ العناق، يقول “لماذا تكره القاهرة العناق، لماذا ترفضه إدارات الفنادق ومالكو الشقق المؤجرة وحارسو العقارات والضباط والشيوخ؟ وأيّ مدينة هذه التي يقشعرٌّ جسدها الهائل من التحام جسدين قزمين في غرفة”.
الاغتراب بجميع مستوياته ممثَّل في الرواية، بدءاً من أسماء الشخصيات التي تبدو منتمية إلى ثقافة محلية أخرى، وقد جاءتنا من المستقبل: “أوريجا” و”نود” و”بلياردو”، أما “المسز” فهي تمثل السلطة بقدرتها على الظهور في نسخ كثيرة، يقول عنها “إنها سلطة نهائية وتامة، لا سبيل للنظر في عينيها، ولا يمثل جسدها صغر أم كبر، سوى غلاف رقيق وهش لتوحشها العميق القادر على ابتلاع العالم في قدرته على الخلق والبناء، والتدمير والمحو”.
أما الكاتب “منسي عجرم” فهو صاحب كتاب عجيب يتعرف فيه القراء على قصص حيواتهم كاملة بين سطوره، وبالتالي له القدرة على تغيير كلماته مع كل قراءة جديدة، والنسيان نوع من الاغتراب يتمثل في شخصية “مانجا” رسامة الكوميكس العشرينية التي تملك ذاكرتين واحدة لشخص غيرها والثانية لها لكنها لم تعد تتذكرها، كما يتمثل الاغتراب أيضاً في هؤلاء اليتامى الذين لا يكبرون أبداً، كما يبدو واضحاً في المدينة التي توفر لجميع المحتجّين والهاربين نصيبهم من القنّاصة؟.. والرواية عامرة ـ فوق ذلك ـ بنماذج المغتربين عن عالمهم وواقعهم، بل والمتفاعلين مع العالم الآخر عوضاً عن واقعهم، مثل “نود” تلك المرأة التي أحبت شبحاً يظهر لها في مرآةٍ وأنجبت منه طفلاً، لكنها قتلته ـ فيما بعد ـ برصاصة أخرى من خيالها.
(“ماكيت القاهرة” للروائي طارق إمام “منشورات المتوسط” طبعة أولى 2021)