نظرية الدّولة الإيجابية
صدر كتاب “مفهوم الدولة” للمفكّر المغربي عبدالله العروي، في طبعتهِ الأولى سنة 1981 عن المركز الثّقافي العربي، ويضمُّ بين دفّتيه سبعة فصول. قام الأستاذ عبدالله العروي في هذا الكتاب بجهدٍ نظريّ يستحقُّ عليه لفتة إشادةٍ وتنويه، إذ أطلّ من خلاله على جواهر الفكر السياسي الأوروبي، واعتمد، في دراسته هذه، على أيقونات الفكر السياسيّ الحديث، لأن هؤلاء الأيقونات يعدُّون من أهم من نظّروا للدولة بإسهابٍ كبير قلّ نظيره، بدءاً بهيغل، مبيّناً أسباب اختياره له، ثم نقد ماركس وفيورباخ لنظرية هيغل في الدولة، ثم مع التيار الوضعاني ورائده الأبرز ماكس فيبر، قبل انتقاله إلى سرد أفكاره وتطلّعاته فيما يخص الدولة عند العرب وذلك اللغط الذي يتبعها. إنّ ما يميز الأستاذ عبد العروي هو جمعهُ بين تقنيتين: أوّلاً، تقنية التحليل الدقيق لمختلف الرؤى والأفكار، وثانياً تقنية النّقد برؤية فاحصة وموضوعية.
يبيّن عبدالله العروي أنّ مسألة الدّولة لم تُدرَس جيّدا إلّا مع بعض الاستثناءات من المفكرين والباحثين، إذْ هناك فرقٌ شارخ بين التفكير في مشاكل الدّولة وتقديم نظرية للدولة؛ أي أنّ هناك فرقا بين التفكير والتّنظير. أعطى عبدالله العروي تعريفاً موجزاً للدولة”هي تنظيمٌ اجتماعيّ، فهي اصطناعية، لا يُمكنُ أن تتضمّن قيمة أعلى من قيمة الحياة الدُّنيا كلّها. تتعلّق القيمة بالوجدان الفردي، إذْ يتّجهُ نحو الغاية المُقدّرةِ له”. إنّ الدولة تكون مقبولة ويحتضنها الأفراد إذا كرّست وقتها لخدمتهم، وتكون مرفوضة ولا شرعية، سيّئة، وليدة الطبيعة الحيوانية في الإنسان؛ إذا منعت الفرد من أن يلبّي الدعوة الموجهة إلى وجدانه أو ضايقته. وتكون شرّاً باطلاً إذا تعامت عن الهدف الأسمى الذي يتطلّب تنفيذ قانونٍ معيّن. نفهم من كلّ هذا تركيز عبدالله العروي على خدمة الدولة للفرد، والسّهر على تنظيم شؤونه حياته وسيرها بشكلٍ اعتياديّ.
قام عبدالله العروي بمقارنة متميّزة بين مدرستين (مقالتين) أساسيّتين:
ـ المدرسة الأخلاقية: هذه المدرسة تَعتبر الدولة أداةً مُصطنعة تساعدُ الفرد على تحقيق غاياته ومتطلّباته وتكرّس نفسها لخدمته. إنّ تحدُّث الشّريعة عن الأخلاق معناهُ أخلاق الفرد حيث لا وجود لأخلاق الدّولة، كما أنّ خطاب الشّريعة للدّولة بصفتها وسيلةً لتبليغ الدّعوة إلى الفرد.
ـ المدرسة الطّبيعية: تقرُّ هذه المدرسة بأنّ غاية الإنسان الأولى هي المعرفة والرّفاهية والسعادة. الإنسان هو وليدُ الطبيعة، هي ملاذه الأوّل والأخير، وهي التي تسدُّ حاجاته، وقوة الإنسان هنا تكون برفقة الجماعة، ففي الحاضر تنشأ عن التعاون، وفي الماضي نشأت وانبثقت عن طريق العادات والثّقافة واللغة. إن الدّولة، في هذه المدرسة، “هي ظاهرة من ظواهر الاجتماع الطبيعي. تولّدت حسب قانونٍ طبيعي” ([1]). إذا بقيت الدّولة خاضعة وتابعة لهذا القانون كانت معقولة، وبالتالي لا تناقض بينها وبين المجتمع، أو بينها وبين الفرد. إذا حصل أيّ تناقض فذلك راجعٌ لسببٍ غير طبيعي ناتج عن خطأ إنساني متعمّد وبذلك تنشأ وتتأسس الدولة المستبدّة التي تمارسُ قهراً وحيفاً على المحكومين. القولُ بأنّ الدولة ظاهرة اجتماعية فإنّنا أكّدنا تلقائياً رفضنا لتصوّر خروج الفرد من الدولة، والرّفض أيضاً للتمييز بين الدّولة والمجتمع. يُؤكد عبدالله العروي على أنّ التفكير في الدولة هو تفكيرٌ في كائنٍ لا وجود له، شبح ووهم، تفكيرٌ يصلح لمواضيع شتّى سوى لموضوع الدّولة.
نستشفُّ من هنا أنّ الدولة الطبيعية، كما ورد في كتاب “مفهوم الدّولة” للأستاذ عبد العروي، تخدمُ المجتمع بالدرجة الأولى، بقدر ما تخدمُ الفرد، وأهدافها كلّها سامية تتطلّع إلى مستقبلٍ مزدهر. إذن فالدولة الطبيعية تعيش تجانساً واتّساقاً بينها وبين الفرد والمجتمع. في مقابل الدّولة الطبيعية؛ نجد الدّولة الفاسدة (اللاّطبيعية، اللّاشرعية) التي تتصف بصفات تجافي وتتنافى كلياً مع الدولة الطبيعية. الدّولة الفاسدة مناقضة للمُجتمع ومبنيّة على العُنف والاستعباد (مؤامرة ضدّ الإنسان).
كلتا الدولتين، في نظر عبدالله العروي، تنفي التناقض داخل الفرد وداخل المُجتمع، وترى التناقُض فقط بين الفرد والمُجتمع من جهة وبين الدولة من جهةٍ ثانية. ولم تفلح هذين الدّولتين في إدراك الدّولة إدراكاً موضوعياً رغم الجهد النّظري الجاد، وبقيتا على عتبة فكرة الدّولة دون التطرّق إليها.
انتقل عبدالله العروي للحديث عن أسطورة الدولة التي ابتدعها إرنست كاسيرر، وأوّل من أحياها هو ميكيافيلي بعدما واجه فكرهُ بعض الصعوبات، قبل أن يكتسح الحقل السياسيّ في القرن الثّامن عشر بعد أن احتضنهُ هيغل وبيّن أهدافهُ ورؤاه. وانتصر هيغل وميكيافيلي بعد قرون عديدة من الصراع المحتدم والمتواصل بين الأسطورة والمنطق. ولعلّ من أهم الأسباب التي جعلت ميكيافيلي يضعُ ورود الانتصار على رأسه هو انهيارُ نظريّة الحقّ.
يوضّح عبدالله العروي الاختلاف الحاصل بين التاريخ والفلسفة. الأول، أي التاريخ؛ يحدّثنا في فتراتٍ معينة عن تناقضٍ بين قانون القلب وقانون الدّولة، بين الوعي الذاتي والقاعدة القانونية الخارجية، أمّا الفلسفة؛ الباحثة عن الحقيقة العقلية؛ فتهدفُ إلى كشف معنى الدّولة – في ذاتها – لا عن الدّولة الفُضلى.
في هذا الكِتاب خصّص عبدالله العروي جزءاً كبيراً منه للحديث عن نظرية الدولة عند هيغل، باعتبار أنّ هيغل يعدُّ مرجعاً أساسياً للتنظير للدولة لا يُمكنُ إغفاله أو القفز عليه. اعترف هيغل بالتناقض بين الفرد والمجتمع لكنه لم يعترف بديمومته. كما أكّد أيضا هيغل أنّ كلّ دولة تجهلُ حريّة الوجدان هي دولةٌ ناقصة، والدولة أيضاً التي تجهلُ الذات وتتجمّدُ عند تناقضها مع الذّات هي ناقصة، في حين إنّ الدولة الكاملة، المعقولة، فهي التي تعترِفُ بحرية الذّات وتعملُ على غمس الذات في المبدأ العام التي تتركُ الفرد حرّاً.
يقول هيغل في ردّه على المدرسة الأولى “إنّ الكيان السياسيّ الذي يستحقُّ اسم دولة هو الّذي يحتملُ التناقُض ويتجاوزه، بل يجعلُ منه وسيلة للحفاظِ على الوحدة” ([2]). أمّا ردّه عن المدرسة الثانية؛ يقول عبدالله العروي “لجأ هيغل إلى مفهوم التضحية. لو كانت المصلحة هي ركيزة للدّولة لكن من التناقض مُطالبتها بتضحية الفرد في سبيلها. لأنّ الدولة ليست مبنيّة على مصلحة الفرد وليس هدفها الدفاع عن المُجتمع المدني” ([3]).
إنّ الدولة هي الغاية القُصوى للأسرة وللمُجتمع المدني، وتمثّل كذلك ضرورةً خارجية ومتعالية. وتكمنُ قوتها في وحدة الغاية العامة مع المصالح الخاصة، ورمزُ تلك الوحدة هو أنّ الأسرة والمجتمع يتحمّلان واجبات تُضاهي الحقوق التي يتمتّعان بها. يُعطي هيغل تعريفاً جوهرياً للدولة “هي الفكرة الأخلاقية الموضوعية إذ تتحقّق، هي الروح الأخلاقية بصفتها إرادة جوهرية تتجلّى واضحة لذاتها، تعرف ذاتها وتفكّر بذاتها وتُنجزُ ما تعرف لأنّها تعرفهُ”. إنّ هذا التعريف، على حدّ قول عبدالله العروي، هو تعريفٌ معقّد بالغ التجريد، لكن تعقيداته تأتي من التصاقه بالواقع. وتعريفٌ يقف على النّقيض من المدرستين المذكورتين سلفاً، لأنّه تعريف لا ينطبق على هذه الدّولة أو تلك إنّما ينطبق على الدولة عبر التاريخ.
إنّ نظرية هيغل في الدولة تشكّلُ تجاوزاً فعلياً للنّظريات التي سادت قبله. رغم تقدمها إلّا أنّها أثارت انتقادات من نوعٍ آخر، صدرت عن “الماركسيين” ممّا أدّى إلى تعديل مفهوم الدولة. كما جاء في كتاب مفهوم الدولة؛ إريك فايل اعتبر نظريّة هيغل علمية حول الدّولة كما هي الآن ستكون باستمرار ما دامت ضرورية للإنسان. يحاولُ إريك فايل أن يُصالح هيغل، في آنٍ واحد، مع كانط وماركس. ويبدو لي هذا مستحيلاً، باعتبار أنّ نظرية هيغل في الدولة هي تجاوز كبير لأخلاقيات كانط (أخلاقية الوجدان الفردي)، وماركس وجّه نقداً لاذعاً لنظرية هيغل بخصوص الدولة (هو موضوع الفصل الثاني من الكِتاب)، وبالتالي ففكرة إريك فايل ضربٌ من المستحيل، وحتى الهيغيليين أنفسهم لم يوافقوا عليها.
يُعرِّف هيغل الدولة قائلاً “لا تستحقُّ أنْ تسمى دولة بالمعنى الحرفي. إنَّها مجتمع، مجموعة إنسانيّة، كيانٌ غير مكتمل، وليس دولة عقلية”. يُعَقِّبُ عبدالله العروي على هذا التعريف قائلاً؛ بأنَّ علماء الاجتماع والمؤرِّخون غير راضين أبداً على هذا الحكم. السؤال الذي يتبادرُ إلى الذهن: ماذا يقصدُ هيغل بكلمة دولة؟ لا يعني بها شكلاً من أشكال النِّظام – تنظيماً بين التنظيمات الاجتماعيّة – بل يعني بها مفهوماً منطقيا شائكاً ومُستعصياً، يركِّبهُ من خلاصة التاريخ. لم تكن الإمبراطورية الجرمانية متوحِّدة من أجل الدفاع عن حدودها ومُمتلكاتِها، ولم يكن بالإمكانِ أبداً مقارنتها مع فرنسا كبلدٍ يانع أنتج لنا التنوير، ولا مع إنجلترا كقوّة اقتصادية وصناعية صاعدة آنذاك، ولا حتى مع روسيا كقوة عُظمى. من هذه النُّقطة المحورية والهامّة انطلق تفكيرُ هيغل، حيث اعتبر فرنسا “دولة”، لكن ألمانيا لم تصل بعد للاكتمال لتصبح دولة بالمعنى الحقيقي. إنَّ هيغل يتكلَّم عن الدولة حسبَ مُقتضياتِ مفهومها، لا عن الدولة القائمة. وبذلك سيُعطي تعريفاً بسيطاً للدولة:” دولتي هي الدولة – في – ذاتها”. كثيرون انطلقوا من هذا التعريف وظنُّوا أن هيغل أراد تحقيقَ نظريته في النظام البروسي، لكن في هذا ادّعاءٌ كبير. هيغل رغم إعجابهِ الشديد بالثورة الفرنسية، وانبهاره بأطوارها وبالتحوّل الذي أحدثته، فقد وجَّه لمبادئها نقداً لاذِعاً؛ أبرزُ هذه المبادئ هما اللِّيبرالية وهي حركةٌ فكرية تقومُ على الحريَّة والمساواة، ثم الديمقراطية. يؤخذ على الدولة الهيغيلة كونها تتحكَّمُ في العقيدة والوجدان بواسطة القمع، وتتدخل في كلِّ نشاطٍ مادي أو ذهني، وتُعادي الفرد وتَعتَبِرُ نفسه شريرة. نَقْدُ هيغل لا يمكنُ أن يكون لائقاً إلا باستبعاد مفهوم الدولة ذاته كما تفعلُ الفوضوية الماركسية.
كان هيغل هو نقطةُ التقاءٍ بين القديم والجديد، فنظرية الدولة هي نقد أدلوجة الوجدان الّتي تأخذُ شكلين: ديني ميتافيزيقي عند القدّيس أوغسطين (منطق النّقد الدّيني)، والثاني أخلاقي ونقدي عند كانط، الذي واجه الملكية المُطلقة وكان ليبرالياً وضعانياً. هل يمكن اعتبار نظرية الدولة عند هيغل هي نقدٌ للأخلاق والمُثُلْ؟ للأسف الشديد، هذا لم يثبت عند هيغل بتاتاً. نظرية هيغل مبنية على الواقع، ومع هذه الفكرة ستنبثق لنا النظرية الماركسية الفوضوية.
تعوّدنا على كتابات عبدالله العروي المرهقة، التي يصعبُ فهمها بسهولة، لكن هذا لا يمنع من كسر ذلك الحاجز والانفتاح على أعماله واقتحامها. اتّسمت كتابة العروي عن الدولة الإيجابية باسترسال مُركّز لأهم أفكار وتصوّرات هيغل حول الدولة، انطلاقاً من السياق الذي عاش فيه. واستعرض أيضاً ردّ هيغل على المدرستين: الأخلاقية والطبيعية، وقام بالتفصيل في ردوده بمنتهى الدقّة. يلخِّصُ عبدالله العروي في هذا الفصل رأي هيغل في الدولة، باعتبارها هي “الفكرة الأخلاقية الموضوعية”.
الهوامش:
[1] عبد الله العروي، مفهوم الدولة، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط 10، 2014، ص 17.
[2] مفهوم الدولة، المرجع سابق، ص 30.
[3] المرجع نفسه، ص 31.