شاشات الأوهام
بقدر ما اجتاحت المدَنية حياتنا بمختلف مناحيها، فصرنا لا نتخلى مثلا حتى عن الحليب المجفف والمساكن الفخمة التي لا تخلو من مظاهر البذخ والأبّهة والإنترنت واللوحات الرقمية، بقدر ما نحن في حاجة اليوم إلى تعلم تقنيات العيش في الغابة كما كان الإنسان الأول، من جمع ثمار الأشجار وصيد الحيوانات لأكل لحومها إلى التحكم في تقنيات إشعال النار بفرك حجرين، فالزمن الذي نعيشه اليوم لا يؤتمن جانبه، والمستقبل قد يحمل في جيبه الكثير من المفاجآت غير السارة، وما ينبئك بذلك مثل خبرات التاريخ، فعلى الأقل، قد أثبتت الكثير من الأزمات والكوارث والحروب التي عرفها العالم تباعا، خاصة في الحالة السورية (لمن مازال يذكر الصور المؤلمة لأطفال وسكان مضايا وحلب)، وأخيرا مع اشتعال أزمة فايروس كورونا الذي حاصر العالم وقض مضاجعه، أن الإنسان أصبح مجبرا على الصيد وعلى جمع الحشائش ليعتاش عليها ويقاوم الموت جوعا، رغم أننا جزء من حضارة القرن الحادي والعشرين المُترف، حتى أنه بات قويا الآن، المسوغ الذي قاد إلى التفكير في استعمار الفضاء والبحث عن مكان جديد للعيش، بعيدا عن كوكب الأرض الذي استهلكت مقدراته بشكل متوحش، ودمرت بيئته ومجالاته الحيوية بلا رحمة، وأصبح الإنسان، في الشرق والغرب، رهناً للحروب واسعة النطاق والتجويع الممنهج والفقر والأمراض والأوبئة والفايروسات الفتاكة التي تنتقل بسهولة بين أطراف الكوكب، بما يشبه عملية إبادة كونية، وهي كلها عوامل تعقد مأزق الإنسان وتهدد وجوده بشكل مخيف، حيث لا يبدو المستقبل مبشرا.
طبعا، العقول التي صممت طرائق العيش في الكواكب البعيدة، وعلى الأرجح ”المريخ” الذي أعطى إشارات مهمة على إمكانية العيش فوقه، ستقلل من نسبة وجود البشر، حيث سيكون الأمر متاحا لأثرياء العالم والعلماء والقيادات العسكرية والسياسية، لاسيما الأميركيين، وسيكون للروبوتات والذكاء الاصطناعي حظ وافر في صناعة الحياة الجديدة وتسييرها.
إن مشكلة الجيل الذي يرضع يوميا الأوهام التي تسوقها المسلسلات والأفلام التي تبثها وسائل الإعلام الجماهيرية، ومنصات التواصل الاجتماعي المليئة بالزيف، التي تدفق كمّا هائلا من المحتوى المفرط في تقديم صور العيش الرغيد ونمط حياة المجتمع المخملي الذي لا يتوافر في بيوت المشاهدين والمستخدمين، مما يجعل من هذا الجيل جيلا فصاميا هشا، غير قادر على مواجهة صعاب الحياة ومشاقها وتحدياتها الواقعية، لاسيما ظروفها الطارئة زمن الحروب والأزمات، فهذا الجيل المسكين الذي ربته وسائل الإعلام، أصبح رهينة أحلام اليقظة التي يستحيل تحقيقها، فتراه لا يدّخر جهدا في التقليد الأعمى لما ترسمه هذه الوسائل الإعلامية من نمط معيشي مبهر وباذخ، وإن كانت الوسيلة لذلك غير أخلاقية وتتنافى مع القيم التي تربى عليها في بيئته الحقيقية، مع أن ذلك كمن يلهث وراء سراب في صحراء قاحلة، متخليا طبعا لأجل ذلك عن العمل والكسب الحلال بعرق الجبين، منصرفا عن اكتساب الحرف والمهن اليدوية الخاصة بالحياة اليومية التي قد تعينه على البقاء حيا في عالم متغير موغل في الوحشية.
في المجتمعات التي رأس مالها الإنسان، جيل يعيش راهنية دائمة في الشاشات وحاضرا لا أفق له سوى نفسه، ملتحما بجهاز الهاتف النقال الذي أضحى امتدادا لجسده، وتنتابه لوثة من الذعر إزاء ابتعاده عن هذا الجهاز، أو ما يسمى في علم النفس الرقمي بظاهرة “Nomophobia”، فتراه منكبا على الشاشة والواقع الافتراضي بشراهة زائدة غير آبه لواقعه الحقيقي متجاهلا لمخاطبه الحاضر والماثل أمامه، فعلى الأرجح، قادت مواقع التواصل الاجتماعي إلى كتابة نهاية التجربة الإنسانية، أو إفقار التجربة المعيشة بتعبير “فلتر بنيامين”، فذوبان الحدود الشعورية، صارت سمة لصيقة بإنسان العصر الرقمي، سمة ملازمة للواقع الافتراضي كما الواقعي، تجد هذا الإنسان يشارك في تأبينية أو يعلق على منشور وفاة بغير أن يبدي أيّ مشاعر حزن، ثم يخرج فيجد احتفالا صاخبا ينخرط فيه من أجل الفرجة، أو يضغط زر الإعجاب على صورة احتفال دون أن يحصل على قسط من الفرح النابع من القلب؛ و في غمرة الفرجة، تأتي سيارة تصدم شخصا من بين الحضور، يلتفت إلى المشهد ليستعلم عن الحادث دون أن يتألم بصدق لمقتله، ثم يمضي ليصادف الكثير من المواقف و يمر على العديد من المنشورات ويتفاعل معها جميعا بنفس الطريقة.
للأسف، نحن لم نعد قادرين على عيش اللحظة بالمشاعر الحقيقية المتساوقة مع طبيعتها، فنفرح من القلب في لحظة الفرح، ونحزن من القلب في لحظة الحزن، ونضحك من القلب في لحظة الضحك؛ لقد تسرب البرود إلى المشاعر الإنسانية بشكل كبير جدا فقدت معه حرارتها الطبيعية، حتى صار جوهر الإنسان اليوم مهددا في عمقه.
في بعض الدول الغربية، صار أمرا ثابتا منذ سنوات عديدة، تعليم الطلاب اكتساب حرفة من الحرف، كالنجارة والحدادة مثلا، جنبا إلى جنب مع تعليمهم الرياضيات والفيزياء والعلوم الدقيقة والتربية الإعلامية، فإذا خرج الطالب من المدرسة ولم يفلح في دراسته، فهو مسلح كفاية لمواجهة الحياة بوسيلة كسب تعتمد على جهده دون الحاجة إلى أن يكون عالة على مجتمعه، بل أكثر من ذلك، هناك العديد من الدورات التدريبية التي يتم من خلالها تنظيم مخيمات متخصصة في تعليم الشباب طرق العيش في البراري والغابات، وفي ظروف قاسية لم يألفوها في عالمهم المديني، حتى يكون بمقدورهم التأقلم مع هذه الظروف إذا جابهوها في مرحلة ما من حياتهم، “فليس كل شيء ثابث، وكلّ في تحول”، على قولة لافوازييه، حتى أن العديد من المجتمعات تبنت برامج متخصصة لنقل شباب من طبقات راقية تعيش في أوروبا، إلى أدغال أفريقيا و شوارع الهند العامرة بالفقراء، للعيش مع عائلات مضيفة في ظروف قاهرة ميزتها الفقر ومظاهر البداوة، وتخلو تماما من مظاهر الحضارة أو أيّ وسيلة من وسائل الراحة والترفيه، وتعليهم حتى كيفية كواء الملابس بطرق تقليدية والعيش على خبزة واحدة طيلة يوم كامل، وحلب البقر والماعز وغيرها من النشاطات اليومية المميزة للحياة التقليدية المعدمة.
أما في مجتمعاتنا العربية، فلربما كان العكس تماما، فقد انساق هذا الجيل وراء المظاهر الخداعة التي يتفنن الإعلام والمؤثرون الاجتماعيون في الميديا الجديدة في عرضها وسحر أعين الناس بها، كما ركن للاستهلاك المفرط وغير العقلاني لكل شيء بلا وازع أو ضابط، حتى صار جيلا بليدا وعليلا، جيلا يعيش أحلاما رومانسية خالية من الواقعية، جيلا مكسور اليدين لا يقدس العمل والانتاج فهو غير قادر على تدبر أموره ولو كانت بسيطة، على خلاف الأجيال السابقة التي تربت في بيئة صعبة وقاسية، عاشت الكثير من صنوف الحروب وأشكال الحرمان في أبشع صوره، فجاعت وحفيت وجُهّلت، وفي أحسن الأحوال درست تحت ضوء الشموع، في مدارس وكتاتيب مبنية من الحجارة وأسقفها من أغصان الأشجار، وكانت تنتقل مشيا أو ركوبا على ظهور الخيول والحمير، وتعيش في بيوت من طين وقش، تقتات على شربة من اللبن وكسرة من الشعير وبعض الحشائش المزروعة أو النباتات المتروكة في الطبيعة، لكنها برغم ذلك أخرجت من رحمها رجالا ونساء شيدوا دولا وصنعوا أمجادا، بإقبالهم على الحياة الواقعية الخالية من الأوهام، بشغف ورغبة، وهذا يستدعي من الأجيال الجديدة التي تربت في كنف الإعلام والشاشات، أن تدرك حاجتها إلى الاستيقاظ من أوهامها التي تشكلت بفعل الإعلام غير العقلاني والمنصات الغارقة في تسطيح الوعي وتمييعه، فمثلما كان وضع المنهج التجريبي، من أعظم إنجازات العقل البشري في العلم والبحث، والذي أرساه علماء مسلمون كجابر بن حيان والخوارزمي وابن الهيثم، قبل أن ينسب فيما بعد لفرنسيس بيكون، فإن القاعدة التي تقول” غيّر أفكارك، يتغيّر واقعك” هي واحدة من أعظم ما وصل إليه علم النفس الحديث.
كما أن المعنى الحقيقي للاستيقاظ، ليس فقط ذلك المقرون بالنوم كحاجة بيولوجية روتينية؛ بل إنه يعني أن تستيقظ هذه الأجيال من غفلتها وجهلها بالحياة وتصاريفها، أن تستفيق من الأوهام الكثيرة التي عاشت وكبرت وهي تعتقد أنها واقع محتوم ومسلّمات غير قابلة للزحزحة، أن تفتح أعينها وتنظر أبعد من أكوام الأخبار والمعلومات المضللة والصور المزيفة التي تتوارى خلفها الحقائق، في عالم مرتهن إلى الإصبع، الإصبع التي تلاعب الشاشات وتقوم بالنقر على مختلف الأيقونات التي تزخر بها مواقع التواصل الاجتماعي، التي تعد أحد أهم تجليات الحياة دائمة الاتصال في العصر الرقمي(digital era) الذي يستمد هذا التوصيف من الجذر الاشتقاقي للكلمة اللاتينية(digitus) والتي تعني إصبع.