نجيب محمد البهبيتي في مواجهة معسكر طه حسين!
حينما أخرج طه حسين (1889 – 1973) كتابه “في الشعر الجاهلي” عام 1926 كان يدري أنه يفتح صفحةً جديدةً من المساجلات الأدبية والنقدية والفكرية في دنيا العرب والمسلمين حول الانتحال؛ وأنه أشعل أتون أشرس وأطول وأهم معركةٍ شهدها العصر الحديث؛ فالكتاب بقيت آثاره ترشح في كل جيل؛ ولعل عكوف الناقد المخضرم المصري نجيب محمد البهبيتي (1908 – 1992) كان ثمرةً يانعةً من ثمار الكتاب “الطَّحْسَنِيِّ” العتيق.
عكف البهبيتي المولود في قرية بهبيت الحِجارة بالغربية بدلتا مصر، دارس الأدب العربي في كلية الآداب جامعة فؤاد الأول في الثلاثينات من القرن العشرين على يد طه حسين وغيره، على سبر أغوار هذه القضية المفصلية، ومطالعة مصادرها في دواوين الشعراء الجاهليين، وفي أمهات كُتُب الأدب والنقد واللغة؛ لا بل ساح في دفاتر التاريخ العربي والإسلامي والنقوش القديمة لكي يربط المقدمات بالنتائج، والكلام بما يُشبِهه من كلامٍ على أمل الوصول إلى نتائج منطقية وعلمية وتاريخية وأثرية موثوقة. فأتقن العربية، وبجوارها صار من أرباب اللغات: الإنجليزية والفرنسية والإيطالية واللاتينية والألمانية، واطَّلع على أفكار المستشرقين في مظانّها؛ فأمسك بمفاتيح العصر الجاهلي، والشعر الجاهلي، وتاريخ هذه الحقبة الزاهرة؛ فخرج على الدنيا بأسفاره الباهرة: “تاريخ الشعر العربي حتى آخر القرن الثالث الهجري”، و”الشعر العربي في محيطه التاريخي القديم”، و”المعلقة العربية الأولى”، و”المدخل إلى دراسة التاريخ والأدب العربي”، و”المعلقات سيرة وتاريخاً”، و”أبوتمام الطائي حياته وشعره”، و”اتجاهات الشعر العربي حتى آخر القرن الثالث الهجري”، و”البيئة التي نشأ فيها الشعر الجاهلي وتياراته الكبرى”، و”دفاعًا عن جميلة بوحريد: بطلة العرب في الجزائر”.
نبوغ البدايات والنهايات
تعلَّق البهبيتي بالنبوغ منذ أنْ أمسك بالقلم، وفي رحاب الجامعة المصرية القديمة أظهر عبقريته في التحصيل والدرس والنجابة؛ فكان الأول على دفعته في كل عام متفوِّقًا على زميليه: حسن ظاظا، وسهير القلماوي. نال البهبيتي إعجاب أساتذته والمستشرقين الذين يُدرِّسون في الجامعة؛ لكنه اصطدم بأكبر عقبة كأداء وقفت في طريق حياته! جاءته الضربة من أستاذه طه حسين؛ خصمه في الأفكار والمناهج، والواقف على رأس مدرسة أخرى تأتم بالاستشراق؛ نابذها البهبيتي العداء، وخرج على أعرافها بآرائه الجديدة؛ فلم يؤازره فيها أحدٌ من الأساتذة خوفًا من بطش طه حسين وسطوته؛ فما زاده تعنُّت طه حسين معه إلا الإصرار على إنجاز مشروعه النقدي والفكري الكبير!
ألقى طه حسين برسالة البهبيتي للماجستير “أبوتمام الطائي حياته وشعره” عام 1934 في درج مكتبه بالكلية ثماني سنوات بلا سببٍ إلا لتأديب هذا المارق عليه! فلم يُثنِ ذلك البهبيتي؛ بل ظفر بالماجستير بعد لأْيٍ في النهاية عام 1942؛ وأنجز أطروحته للدكتوراه “تاريخ الشعر العربي حتى آخر القرن الثالث الهجري”بعد عواصف مُرعِدة، وزوابع مُهلِكة من طه حسين وتلامذته؛ فنالها بإعجابٍ وثناءٍ ومشقةٍ بالغةٍ عام 1950.
ومن العجائب؛ أنَّ البهبيتي تعرَّض لحملةٍ جائرةٍ من المضايقات زمن الثورة المصرية عام 1952؛ فخرج من الجامعة ضمن حملة التطهير ظلمًا وعدوانًا وافتئاتًا إلى المغرب منفيًّا حتى مات هناك بعد أربعة عقودٍ من الطرد الغليظ! فهل كان لطه حسين دورٌ في تلك الجريمة النكراء؟ أصبح البهبيتي في المغرب أستاذًا لكرسي الأدب القديم بجامعة محمد الخامس بالرباط، وأسَّس فيها أجيالًا من العلماء الذين يأتمّون بآرائه ويحملون فكره، كما قام البهبيتي كذلك بالتدريس في جامعة بغداد على فتراتٍ من حياته، وله هناك جمهورٌ عريضٌ من التلامذة والمريدين حتى صار علامةً فارقةً في الديار المغربية والعراقية، بعد أن طردته الديار المصرية!
حديث الانتحال
يصف البهبيتي ما لقيه من اضطهادٍ وإجحافٍ على يد أستاذه الكبير وزملائه وتلامذته؛ فيقول بعين التحدي الظافر الواثق كنتُ “مُواجِهًا في طريقي الطويل.. أشد العَنَت وأعنف الخصومات، وأحط وسائل الكيد التي تمرَّس بها قومٌ ثَقِفوها.. ولقد كانت ثمرة هذا النضال الرهيب، كتابين اثنين” أنجزهما وقتها في الأربعينات!
ثم يتحدث بالمزيد من التوضيح عن السطو الذي تعرض له في كتابيه قائلًا “فلقد سُلِخَتْ من هذا الكتاب (يقصد تاريخ الشعر العربي)، ومن صِنوه (أبوتمام الطائي) كُتُبٌ بتمامها.. وما كان ذلك ليؤذيني، وماكنتُ لأضيق به أو أغضب له لو أنَّ الأمور جرتْ مجراها الطبيعي المألوف.. لكنَّ هذا النقل عن الكِتابَين خرج على صورة الانتحال، والغصْب النّاهب، والسرقة التي لا تكاد تتنكَّر، وتُخْفِي وجهها الوقاح! كان هذا في الحقيقة هو الواقع المؤسِف الذي يحمل على الرثاء والحزن والغضب جميعًا! الرثاء للأساتذة الذين أظلُّوا السرقات، وعاشوا عليها. والحزن؛ لأنَّ التردي العلمي قد بلغ حدَّ الاستهانة بالناس وبالتاريخ وبالعقول، ثُمَّ كافأ الذين حُمِلَ إليهم هذا الخِداعُ أصحابَه بالترقية والتقدير، وبالمنصب المشرِّف على التحكم في عقول جيلٍ يُرَبَّى على الطريقة نفسها، ويُلَقَّن الانتحال أسلوبًا عمليًّا يسير عليه في بناء نفسه!”. ويزيد البهبيتي الأمر بيانًا وكشفًا؛ فيؤكد أن “السرقة العلمية قد استحالت إلى وضعٍ طبيعيٍّ مألوفٍ، يُقْدِم عليها صاحبُها هادئ البال، مُطمئنَ النفس”!.
قصة مصادر الشعر الجاهلي
ومع تقديرنا الكبير، واحترامنا الشديد لقامة الدكتور ناصر الدين الأسد العلمية، ولمؤلفاته، إلا أننا نرصد هنا بحياديةٍ تامة ما كتبه أستاذه نجيب محمد البهبيتي عنه وعن كتابه “مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية”، وما اتهمه به في كتابه “تاريخ الشعر العربي حتى نهاية القرن الثالث الهجري”، والصادر عن مكتبة الخانجي ودار الفكر بالقاهرة، طبعة – 4 عام 1970. فما نخطه لا دخل لنا فيه، ولكنه عرضٌ أمينٌ وموضوعيٌّ للمعركة والقضية كما ذكرها البهبيتي، ولو كان الدكتور الأسد تعرَّض لها دافعًا عن نفسه هذه الاتهامات؛ لكنّنا نقلنا ردوده ودفوعه كما كتبها؛ إحقاقًا للحق، ولكنه للأسف آثر الصمت على الكلام! إذن؛ فنحن على الحياد التام بين الطرفين حينما نعرض للموضوع من أساسه.
يبدأ البهبيتي تجلية الأمر؛ فيقرِّر حقيقةً مؤكدةً في كتابه في صفحة 12: “قلتُ: إنَّ هذا الكتاب (تاريخ الشعر الجاهلي حتى نهاية القرن الثالث الهجري) قد سُلِخَتْ منه كُتُبٌ برمتها، وإنَّ أصحابها لم يُشيروا إلى الأصل الذي أخذوا عنه أية إشارة، حتى كأنَّ الكِتاب لم يكن، ولم يُعرف! ومِنْ هذه كِتابٌ دعاه صاحبُه ‘مصادر الشعر الجاهلي’! وقد انصبَّ صاحبُ هذا الكِتاب على الأبواب الأولى من الكِتاب الثالث من بين الثلاثة كُتُب التي قسمتُ إليها كِتابي (تاريخ الشعر العربي حتى آخر القرن الثالث الهجري)؛ فأخذ من الباب الأول: طلائع العصر العاطفي ما قاله عن: الشعراء الرواة، وما قاله عن الراعي وذي الرُّمَّة، وعن جرير والفرزدق وغيرهما.. وستجد كلَّ ما قاله عن كِتابة الشعر الجاهلي مُتَّصِلًا دون انقطاعٍ، وهو القسم الذي استبدَّ بالشطر الأكبر من كِتابه مُسْتَقًى من الباب الثاني من هذا الكتاب الثالث نفسه من كتاب (تاريخ الشعر العربي) فيما بين صفحتي (192، و203)! وستجد في الصفحة (200) ما يُلخِّص القضية الكبرى من هذا البحث بعد استخلاصها من مقدماتها المنطقية نتيجةً حتميةً لها؛ إذْ أقول: فالأُمِّيَّة في العرب أُسطورة، والرواية الشفوية منفردة للشعر العربي أُسطورة كذلك يُكَذِّبها ما بيَّنّا، وإنما كانت هذه مقترنةً بها توضحها، وتحفظها من أنْ يُصيبها ما يُصيب الكتابات من تغيُّر المنطوق والمفهوم كما حدث في كتابات الأمم الأخرى”.
عرض البهبيتي للقضية
ويضرب البهبيتي مثالًا عمليًّا للنقل والأخذ منه؛ فيقول في صفحة 14: “وستجد في (مصادر الشعر الجاهلي) النص الآتي منقولًا من كتابي هذا، يقول الطبري: ‘وقد حدَّثتُ عن هشام الكلبي أنه قال: إني كنتُ أستخرج أخبار العرب، وأنساب آل ربيعة، ومَبالغ أعمار مَنْ عَمِلَ منهم لآل كِسرى، وتاريخ سنيهم مِنْ بِيَع الحِيرة، وفيها مُلكهم وأمورهم كلها’. ستجد هذا النص منقولًا، ولكنه مُحَرَّفٌ، معدولٌ به عن دلالته التاريخية إلى دلالةٍ تافهةٍ؛ إنْ دلَّتْ على شيءٍ؛ فعلى جهل الناقل لها بقدر دلالتها التاريخية؛ لأنه تصيَّد النص من كتابي معزولًا عن دلالته التاريخية التي لا يهدي إليها إلا الاطِّلاع الكافي على تاريخ المنطقة للاهتداء بمنطق تاريخها على الواقع الذي يمكن أن يدلّ عليه هذا النص في المرحلة التاريخية التي اختاره للدلالة عليها هشام الكلبي. فلقد كان غريبًا كل الغرابة على هذا المتطفِّل على التاريخ أن يتصور أنه كان لدولة المناذرة سِجلاتٌ رسمية، تشتمل على كل ما تشتمل عليه سجلات الدولة بمعناها الحديث.. فلمّا جاء إلى هذا النص الفذ في دلالته وفي صدقه لم يستطع إدراك معناه، كما صرفه عن نقل هذا المدلول الأصيل تحريه أحيانًا التماس المفهوم المُغاير للدلالة على القضية المنقولة مبالغةً في تنكير المَوْرِد للتمويه على القارئ؛ فنقله كما وَهِمَ مُكتفيًا فيه بالقول: إنَّ هشامًا كان ينقل أخباره عن حِيطان معابد الحِيرة!”. ويستمر البهبيتي في كشف ما في كتاب الأسد من أخذٍ منه؛ فيقول: “ولو وجد مَنْ يُرشِده على اتساع دلالة النص لَعرفَ أنه يستحيل تحقُّق هذا المعنى الذي توَّهمه حتى لو أفرد كل معبدٍ من معابد الحِيرة من الأخبار التي أشار إليها هشام في هذا النص! ولكنَّ القصة كانت قصة اختطافٍ للنص ومحاولة مكشوفة للنجاة به في غير إلمامٍ، ولو خفيفٍ بتاريخ المنطقة يسعد بفهم دلالة النص التاريخية!”.
ويصل البهبيتي إلى حقيقة الحقائق حول عمله السابق المأخوذ منه وعمل الأسد اللاحق عليه الآخذ منه؛ فيقرر أنَّ “عملية تلمُّس النص الشاهد من عند باحثٍ متقدِّم قد خلَّصه من مرجعه القديم بالقراءة المستقصية للمرجع، وبَعْدَ تفسيره له على ضوء ملابساته في المرجع القديم، والإفادة في ذلك عمّا عاصره أو سبقه من أصولٍ ومَظان، عملية النقل الارتجالي هذه للنصوص بعد إنضاجها، وتقليبها على وجوهها، هذه العملية مقترنة بنقل اسم المرجع من هامشة البحث السابق أو مع اختيار صفحات طبعةٍ أخرى، أو الاكتفاء بنقل مضمون النص، أو خُيِّلَ للناقل أنه مدلوله قد أصبحت تَكِئةً مطروقةً سائدةً في أبحاث هذا الزمان: زمان البحث الأعرج! وهي في حقيقتها من أخطر وأخبث طرق الانتحال”!.
أمثلة الأخذ والنقل
ويضرب البهبيتي أمثلة من صفحات كتابه مأخوذة منه ومبثوثة في كتاب “مصادر الشعر الجاهلي” هي صفحات: 20، 31، و46 و 192، 197، 198، 199، و201 ومن صفحة 203 إلى صفحة 213، لينتهي إلى الحكم الجازم والقطعي بأن “كتاب (مصادر الشعر الجاهلي) انتحالٌ مُمَطَّطٌ لِما جاء في كتاب (تاريخ الشعر العربي) عن الشعر الجاهلي متصلًا بكتابته وروايته وطرق انتقاله، ووسائل التحقق من صحيحه على ضوء خصائصه. ‘مصادر الشعر الجاهلي’ كتابٌ يمشي في أعقاب ‘تاريخ الشعر العربي’ يتلمَّس مواقع قدمَيه، وليختطف بعضَ ما في يديه، ثم يُحاول أن يهرب بالغنيمة متوهِّمًا أنه لن يناله القصاص! وهو لم يأتِ بجديدٍ ليضيفه إلى ما جاء في ‘تاريخ الشعر العربي’، يمكن أن يُعتبر ابتكارًا أو زيادةً في النتائج التي حقَّقها كتاب تاريخ الشعر بل إنه قصَّر تقصيرًا كبيرًا في سَوْق بعض ما أخذه من هذا الكتاب.. بل إنه اهتبر هبرةً من الكتاب المتكامل تكوينًا؛ فبدتْ شِلوًا قطيعًا داميًا فيما كان جسدًا متناسبًا منسجم التكوين. على أن لكتاب ‘مصادر الشعر الجاهلي’ دون ريبٍ ميزةً ينفرد بها من بين الأبحاث التي انتحل أصحابها ما راق لهم من ‘تاريخ الشعر العربي’، وتلك الميزة هي ثِقَل الظِّل!”.
ويؤكد البهبيتي قائلًا: “وليس يقف الأمر في انتحال ‘مصادر الشعر الجاهلي’ عند هذا الحد من النقل المباشر للقضايا والنتائج والمنهج والعبارات والشواهد، ولكنه يتجاوزه إلى صورةٍ أخرى من الانتحال؛ فالطريقة التي اتخذها في تجريد الأحكام التي وردت في كتاب ‘في الأدب الجاهلي’ (لطه حسين)، من حشو الأسلوب المُمَطَّط، هي الطريقة التي كنتُ أتَّبِعها في الدرس معه (الأسد؛ فالبهبيتي كان أستاذًا له في كلية الآداب جامعة فؤاد الأول) ومع زملائه، نقرأ الصفحة أو الصفحات من الكتاب، ثم أُكَلِّف طالبًا أو طالبين بتلخيص ما قرأناه تلخيصًا يضع الفكرة أو الرأي عاريًا تحت الأعين.. ثم نجمع بين الرأيين المتناقضين، أو المنطقين المتعارضين، ونُحيلُ الحكم على الشاهد من الشعر الجاهلي، أو النص القديم.. وبهذه الطريقة التي سرنا عليها عامًا كلامًا استطعنا أنْ نتبين الزيف والتهافت القائمين في الكتاب. انتحل كتاب ‘مصادر الشعر الجاهلي’ هذه الطريقة، وأخفى أنه درس على ضوئها كتاب ‘في الأدب الجاهلي’ عامًا دراسيًّا كاملًا مع زملاء له” على يد البهبيتي في كلية الآداب جامعة فؤاد الأول.
محمود شاكر: الأسد قرأ عليَّ كتاب البهبيتي
ويؤكد البهبيتي قائلًا: ثم إنه (الأسد) يصنع هذا، وكتابي في السوق (عام 1950) قبل أن يخرج بمنحوله بما يتجاوز الأعوام الستة (عام 1956)؛ فلا يُشير إلى الأصل الذي أصاب منه ما أصاب من قريبٍ أو بعيدٍ. يصنع هذا، وهو الذي قرأ على الأستاذ محمود شاكر (أبوفهر) في داره بمصر الجديدة كتابي (تاريخ الشعر العربي)، وشرحه له الأستاذ، وأمدَّه بما يُعينه على إتمام رسالته.. وأن الذي أخبرني بهذا هو محمود شاكر نفسه.. عندئذٍ أمكن أن تُدرك الدوافع الدافعة إلى الإغضاء عن الإشارة إلى الكتاب المُنْتَحَل إغضاءً تامًّا. فلقد كان الطالب يعرف تمامًا أن ذكره الاتصال بالكتاب (تاريخ الشعر العربي) اعترافٌ منه بأنه استقى منه كل ما هو متصل بموضوع رسالته، وهو الجوهري والعمود الفقري في رسالته: من باب كتمان القاتل معرفة قتيله”!.
ويتحدث البهبيتي عن طرق الأخذ والتعمية في النقل؛ فيقول: “وقد قدَّمتُ نماذجَ من هذا الأخذ، والطريقة التي تم بها. وربما قنعتُ بالإشارة، وعمدتُ معها على المثل المشهور؛ كأن أقول في ص 202: ‘فالتقليد في رواية الشعر الجاهلي جرى على الكتابة أولًا، والحفظ ثانيًا، وربما ظهر أثر ذلك واضحًا في الخلاف بين روايات المعلَّقات الجاهلية؛ فإنه خلاف قراءةٍ لا خلاف سماع’.. فيلقطُ صاحبنا الحكمَ ليسجِّله، ثم ينطلق إلى المثل يطلبه من هنا ومن هناك؛ فيُعدِّده، ويُسوِّد به الصفحات بعد الصفحات زعمًا منه أنه بهذه الوسيلة سيُثبت للأغرار أنه أول من سبق إلى هذه الجزئية من جزئيات حكمٍ عام وهكذا! وشرُّ ما في هذا الانتحال أنَّ صاحبه لا يقنع بالتماس غفلة قارئه وخلو ذهنه من الموضوع، ولكنه يتجاوز هذه المنزلة إلى تضليل متعمد لقارئه!”.
وينتهي البهبيتي بحكمه الفصل في هذه القضية والكتاب؛ فيُصدر أمره الباتّ القاطع الحاسم الفصل: ‘مصادر الشعر الجاهلي’ يمضي كله في كبرى قضاياه وصُغراها في متابعة أبوابٍ وفصولٍ وعباراتٍ من كتاب ‘تاريخ الشعر العربي’ متابعة نقلٍ وتأثُّرٍ، لم يكشف صاحبه لنفسه عن حقيقةٍ واحدةٍ جديدةٍ يمكن أن نضمها إلى ما جاء في الكتاب”!.
تجاهل متعمد
الغريب؛ أن البهبيتي تجاهل اسم الأسد؛ فلم يذكره في كتابه مطلقًا؛ وإنما ذكر اسم كتاب الأسد مرارًا وتكرارًا متهكِمًا متندِّرًا، كما أن الأسد لم يردّ على اتهامات أستاذه البهبيتي في مؤلفاته أو مقالاته أو أحاديثه، واكتفى بتجاهل الأمر، وكأنه لا يعنيه، مع أنه يعني كل مَن قرأ مؤلفات البهبيتي ومؤلفات الأسد، وقضية الشعر الجاهلي والاستشراق.
والأغرب الأفدح الأفظع؛ أن البهبيتي تعرَّض لأكبر عمليةٍ من التجاهل المقصود، والطمس المتعمَّد من تلامذة طه حسين في الجامعات المصرية والعربية؛ فلم يُشِر إليه إلا القليل من المتخصصين في الأدب الجاهلي من المنصفين الموضوعيين؛ ولم تُناقش آراؤه المبتكرة، ولا نظرياته غير المسبوقة في أي أطروحة للماجستير أو للدكتوراه حتى الآن! مع أنَّ دراساته جديرةٌ بالتسجيل فيها؛ فهو رائد الشعر الجاهلي ومُنَظِّره الأول على الصعيدين العربي والعالمي؛ فقد أرجع عمر الشعر الجاهلي في ضوء النقوش الأثرية الحديثة، والمصادر التاريخية واللغوية الموثوقة إلى ألف عامٍ قبل الإسلام خلافًا لِما أشاعه المستشرقون وتلامذتهم من أنه يصل إلى مائتي عام قبل الإسلام على أكبر تقدير، وهي حقيقةٌ ثابتةٌ لم يقلها أحدٌ قبله!