الأيديولوجيا وأصفادها
الأيديولوجيا (Ideology) مصطلح يوناني مؤلف من كلمتين: idea وتعني فكرة، وlogos بمعنى علم والترجمة الحرفية لكلمة أيديولوجيا هي علم الأفكار، وكان الفيلسوف والاقتصادي الفرنسي دي تراسي Detracy أول من استخدم هذا المصطلح عام 1796؛ للدلالة على الأفكار، وعملية نشوئها، وقوانين الفكر الإنساني.
وبعد مضي وقت قصير منذ أن تسلم نابليون بونابرت السلطة في فرنسا، وقف دي تراسي، وغيره من الفلاسفة والاقتصاديين، موقف المعارضة منه، وذلك؛ نتيجة خيبة أملهم في الإمبراطور الجديد، فكان أن نعتهم نابليون – تقليلًا من شأنهم – بالأيديولوجيين؛ قاصدًا أنهم يتبنون أفكارًا وهمية غير قابلة للتحقق، وفاقدون للقدرة على النشاط المفيد؛ فصار لكلمة أيديولوجيا معنى الذم، وبهذا المعنى استخدمها ماركس في كتابه “الأيديولوجيا الألمانية”.
والأيديولوجيا – تعريفًا- هي بنية من الأفكار المعبرة عن غايات عملية، يعتقد أصحابها بأنها تعكس أهداف أمة أو طبقة أو فئة من الناس، في مرحلة تاريخية محددة، وتنطوي – هذه البنية – على الوسائل الضرورية للنشاط العملي؛ من أجل تحقيق الأهداف التي تطرحها.
إنها ذات قدرة على الإقناع، والإيمان بحقيقة أفكارها وإيمان -كهذا- هو الذي يحفّز الفاعلية النشطة للبشر، ويوجد لديهم عصبية وحماسة شديدتين إن قوة الجانب الإيماني في الأيديولوجيا لا يكترث للجانب المعرفي، على الرغم من أنها تصاغ صوغًا نظريًا مفهوميًا في خطاب متماسك.
والقول بأن الأيديولوجيا وعي زائف، بالمطلق، لا ينفي قدرتها الجدلية، من جهة، ولا ينفي اعتقاد أصحابها بأنها معرفة صحيحة، من جهة ثانية.
والغاية من الخطاب الأيديولوجي غاية عملية، وليست علمية أو معرفية، لكن الأيديولوجي يسعى دائمًا لإظهار “علموية” خطاب غاياته، وفي كل الأحوال، إذا كانت الحقيقة العلمية حقيقية لذاتها، ومحكومة بطريقة إنتاجها والتحقق منها، وذات نتائج عملية غير مباشرة، فإن المعرفة الأيديولوجية ذات ارتباط لا تنفصم عراه بالوظيفة العملية التي تنشدها الأيديولوجيا.
ومن هنا؛ وقعت الشبهة في الأيديولوجيا بأنها معرفة قادرة على قلب الأمور رأسًا على عقب؛ إذ أنها، بدواعي أهدافها العملية، تصوغ المعرفة؛ حتى لو كانت هذه المعرفة خطأً.
ولما كان المجتمع – بوصفه كلية – ينطوي على الاختلاف والتعدد بين فئاته وطبقاته وأفراده، فإن كل مجتمع يحتوي عددًا من الأيديولوجيات التي تعكس الاختلاف والتعدد، ومن هنا؛ تبرز الصراعات الأيديولوجية من حيث هي التعبير الفكري عن “الصراعات الاجتماعية”، والتناقضات الطبقية والسياسية والمصلحية، وتأخذ الصراعات الأيديولوجية صورة النقد المتبادل في ما بين الأيديولوجيات، وتغدو كل أيديولوجيا نقدًا للأيديولوجيات الأخرى، فينشأ الانغلاق الأيديولوجي المميز لكل أيديولوجيا؛ حتى صارت، وتصير، كلمة الأيديولوجي نعتًا لذم كل تفكير ينزع نحو التعصب.
إن فهم الأيديولوجيا، استنادًا إلى شروط إنتاجها، لا يعني أن الخيارات الأيديولوجية للأفراد تعود دائمًا إلى انتماءاتهم الطبقية والاجتماعية؛ إذ أن الأيديولوجيا، بما تنطوي عليه من طابع رمزي مؤثر، قادرة على كسب تأييد فئات اجتماعية متنوعة، من جهة، ومن جهة أخرى، فإن للأيديولوجيا استقلالًا نسبيًا، ومن الصعب تفسير انتشارها بأساس اقتصادي، فحسب؛ فهناك عوامل كثيرة، قومية وأخلاقية وفلسفية واجتماعية وثقافية، تساهم في جعل الأيديولوجيا مستقلة نسبيًا عن أساسها الطبقي – الاقتصادي، فضلًا عن الدور الذي يقوم به المؤدلجون أنفسهم، ومدى تأثيرهم عبر الخطاب الشفهي المكتوب في أفراد المجتمع، ذلك أن هؤلاء المؤدلجين يطرحون أهدافهم، بما هي أهداف كلية معبرة تعبيرًا شاملًا عن المجتمع.
واستقلال الأيديولوجيا النسبي هو الذي يفسر استمرارها، وانتقالها من جيل إلى آخر، على الرغم من تغير الشروط التي أنتجتها، كذلك يفسر أدوارها المختلفة التي تقوم بها في المراحل التاريخية المتعاقبة؛ فالأيديولوجيا الواحدة – ذاتها – تقوم بوظائف متناقضة عبر التاريخ، وهذا ما ينسحب على كل الأيديولوجيات من دون استثناء، ومن ثمّ؛ فإن معيار تمييز أيديولوجيا محافظة من أخرى تقدمية معيار تاريخي، قبل كل شيء، وليس معيارًا قيميًا؛ فالأيديولوجيا المحافظة التي تدافع عن واقع متعين آيل إلى الزوال، ومناقض لمنطق سيرورة التاريخ، لم تنشأ – في الأصل – أيديولوجيا محافظة، بل مرت في مرحلة الأيديولوجيا التجديدية، أو التقدمية إن انتصار حاملها الطبقي، وتحوله إلى قوة مهيمنة اجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا، وسعيه إلى تثبيت ذاته بوسائل القمع المتنوعة، مصادرًا منطق التغير، هما اللذان يحولان الأيديولوجيا التي كانت تعبر – من قبل – عن طموحات فئات صاعدة إلى أيديولوجيا محافظة.
إن هذا التحديد المجرد للأيديولوجيا لا ينفي وجود معايير لتصنيفها في تعييناتها المختلفة، فهناك معيار الشمول الذي يصنف الأيديولوجيات على أساس مصالح الفئات التي تعبر عنها، ودرجة العصبية التي توجدها، كالأيديولوجيا القومية التي تعلن أنها تعبر عن مصالح أمة بكاملها، وكالأيديولوجيا الطبقية التي تعكس مصالح طبقة محددة، وكالأيديولوجيا الدينية التي تستمد أطاريحها من دين جماعة من الناس.
وهناك المعيار الأخلاقي الذي يصنف الأيديولوجيات على أساس النزعة الأخلاقية السائدة فيها، كتصنيفه الأيديولوجيا العنصرية التعصبية، ومثالها الأيديولوجيا الصهيونية، والأيديولوجيا النازية، والأيديولوجيات الفاشية.
وهناك المعيار العملي، حيث تصنف الأيديولوجيات وفق أساليب فاعليتها، كالأيديولوجيا الثورية التي ترى ضرورة تغيير الواقع تغييرًا جذريًا بفعل ثورة اجتماعية، وكالأيديولوجيا الإصلاحية التي ترى ضرورة التدرج في إصلاح المجتمع؛ للوصول إلى الأهداف المنشودة.
ولقد شهدت السنوات الأخيرة مناقشات في الفكر الاجتماعي حول مسألة مهمة، ألا وهي: هل يشهد عصرنا الراهن نهاية الأيديولوجيا؟ للإجابة عن هذه المسألة، يجب أن يميز بين مصير أيديولوجيا محددة، ومصير الأيديولوجيا بعامة.
إن لكل أيديولوجيا محددة عمرًا معينًا، والمقصود بعمر الأيديولوجيا المحددة ذلك الزمن الذي باستطاعة هذه الأيديولوجيا، أو تلك، أن تمارس في أثنائه تأثيرها في البشر، وتستمر في مد معتنقيها بطاقة روحية، تدفعهم إلى فاعلية نشطة، وتقيم في ما بينهم عصبية مشتركة.
إن أيديولوجيا ما تموت وتنتهي من أداء وظيفتها في حالين: في حال انتصار حاملها الاجتماعي، وبروز التناقض بين الأيديولوجيا، والممارسة العملية على نحو صارخ، فما إن يبرز تناقض كهذا، حتى تكف هذه الأيديولوجيا عن إنجاب القناعة بمنظومتها الفكرية، وبأهدافها العامة.
أو في حال مرور وقت طويل على وجودها، من دون أن يحرز حاملها الاجتماعي انتصارًا ما، فتزول بزوال شرط تكونها التاريخي، وتصاب بالموات البطيء.
وفي الحالين تخلي الأيديولوجيا المنهارة المكان لولادة أيديولوجيا جديدة.
أما القول بنهاية الأيديولوجيا العامة، وإن البشر المعاصرين قد تحرروا منها، فهو قول يجانب الصواب؛ فنهاية الأيديولوجيا أمر محال، وآية ذلك أن وجود الأيديولوجيا، واستمرارها، مرتبطان بوجود مصالح وأهداف لدى البشر، وبطريقة التعبير عن هذه المصالح والأهداف، ولما كان من المحال زوال أهداف البشر ومصالحهم، فمن المحال زوال الأيديولوجيا.
ومن هنا؛ نفهم قدم الأيديولوجيا في التاريخ، وذلك قبل أن ينشأ مصطلح الأيديولوجيا؛ فجدة المصطلح لا تنفي قدم هذه الظاهرة.
الغطاء الأيديولوجي للمصالح
وليس مفهوم المصلحة بمفهوم مرذول، فالمصالح منها ما هو سامٍ ومنها ما هو وضيع. فأن يجعل المرء من مصالح العرب بوصفهم بشراً يتمنون العيش في دولة واحدة، ديمقراطية علمانية قوية تحقق الكرامة للإنسان وتحرر العربي من الشعور بالدونية تجاه الغربي هدفاً نسعى إليه، فهذا من قبيل المصلحة السامية.
وأن يدافع الفقراء من عمال وما شابههم عن مصالحهم أمام همجية رأس المال فهذا دفاع عن مصالح مشروعة. أما أن يدافع شخص عن نظام فاسد دفاعاً عن فساده ومصلحته بالفساد فهذه مصلحة وضيعة.
لا تظهر المشكلة بين الأيديولوجيا والمصالح السامية بل تظهر في إطار المصالح الوضيعة وتغيراتها الأيديولوجية الزائفة.
فأصحاب المصالح الوضيعة لا يقدمون خطاباً أيديولوجياً مباشراً دفاعاً عن مصالحهم الوضيعة، بل يغطون مصالحهم الوضيعة بأيديولوجيا مناقضة في ظاهرها للمصالح هذه، بل ويصل بأصحاب المصالح الوضيعة أن يقدموا أيديولوجيا إنسانية كغطاء أيديولوجي للمصالح الوضيعة.
فلا يقول لنا أصحاب الفساد الطفيليون وغيرهم إن الدافع هو الربح ونهب جيوب الناس، بل يقولون إنهم يخدمون الإنسان ويسهرون على راحته ورفاهه وتأمين حاجاته.
وهنا تظهر الدعاية للسلع بوصفها الأيديولوجيا الكاذبة، الغطاء الأيديولوجي الذي ظاهره حسن وأهدافه وضيعة.
وفجأة يتحول بعض السوقة من أصحاب الامتيازات السلطوية وغيرها إلى كائنات غيورة على أوطانها الصغرى فترفع الشعارات التي تظهر حبّها وانتماءها وتضحيتها من أجل جزء من الوطن العربي الكبير على أنه الوطن المقدس الذي لا بد من أن يكون أولاً.
هذه الأيديولوجيا الزائفة والمنحطة أخلاقياً إنما تدافع عن مصالح ضيقة لمجموعة من النهابين والهباشين والخائفين على سلطتهم التي تحمي هبشهم ونهبهم وحسهم الأخلاقي الوضيع.
ولعمري إن الأقنعة الأيديولوجية في هذا الوطن صارت من الكثرة ما يشي بانحطاط أخلاقي عام.
الأيديولوجيا والشباب
يخضع الشباب بعامة ـ أكثر من الفئات العمرية الأخرى ـ للتأثير الأيديولوجي. وآية ذلك أن الشباب يعيشون مرحلة تكون الوعي والخيارات السياسية والمستقبلية، كما أن الشباب هدف أول لكل الاتجاهات الأيديولوجية، سواء كانت اتجاهات أيديولوجية سياسية، أو اتجاهات أيديولوجية سلطوية، أو اتجاهات أخرى.
فالأحزاب السياسية في كل أنحاء العالم، تنظر إلى الشباب بوصفهم قلب الحركة السياسية الفاعلة، وبالتالي تسعى لأن تنسب أو تضم العدد الكبير منهم، وهذا طبعاً لا يتم إلا بعملية ضخ أيديولوجي يبرز أهمية الأفكار والأهداف التي يطرحها الحزب السياسي.
وشركات العالم التي تنتج السلع: الأزياء، والموضة بعامة، تضخ أيديولوجيتها عبر الصور المتحركة أو عبر الدعاية والإعلان لكي تستقطب العدد الأكبر من جيل الشباب.
وهناك ما يمكن أن نسمّيه الأيديولوجيا المستترة، ألا وهي نمط الحياة الذي تسعى قوى إعلانية وإعلامية كثيرة لفرضه على عنصر الشباب بوصفه العنصر الأكثر قابلية لذلك.
تنقلنا هذه المقدمة العامة إلى أثر الأيديولوجيا بالمعنى الذي أشرت إليه في الشباب العربي. فلقد جاء حينٌ من الدهر تقاسمت الأيديولوجيات القومية والشيوعية والدينية ـ ولاء الشباب العربي. ولسنا نحتاج إلى العودة لمثل هذا الواقع القديم.
ما يهمنا الآن الكشف عن أي الأيديولوجيات ذات الأثر الفاعل في وعي الشباب، لاسيما أن هذا الوعي يتحول إلى سلوك، ولماذا كان الأمر على هذا النحو.
تشهد الساحة الأيديولوجية العربية الآن غلبة التيار الأيديولوجي الديني الإسلامي، والملاحظ أن هذه الغلبة لا تتم وفق الولاء لحزب سياسي إسلامي فقط، بل في إطار اتساع أشمل من ذلك بكثير، وهناك اتفاق حول هذا الرأي لديّ جميع الباحثين.
ففي المغرب العربي من مراكش إلى تونس تتسع دائرة الولاء لحزب الرفاه والتقدم المغاربي وجبهته الخلاص الإسلامي الجزائرية والحركة الإسلامية التونسية بكل أطيافها، وإذا كانت هذه الجهات سلمية في خطابها وممارساتها فإن هناك تيارات عنفية ما زالت تغري الشباب في الانتساب لها.
والملاحظ أن مصر مكان انطلاق حركة الإخوان المسلمين تعود مرة أخرى لتكون الدولة التي ينمو فيها التيار الإخواني وما شابه ذلك، بعد أن اعتقد أنه تيار قد صار من الماضي. ناهيك من أن دول الخليج العربي عموماً تشهد توسعاً في الاتجاه الإسلامي غير المنظم، ويتحول العراق إلى مكان تتسع فيه دائرة الأيديولوجيات الدينية. وكذا الأمر في الأردن وسوريا وفلسطين ولبنان.
والملاحظ أن الجمهور الأساسي لهذه الأيديولوجيات هو من جيل الشباب. فالمظاهرات والمقاتلون لا يكونون غالباً إلا من عنصر الشباب. ولهذا تشهد المنطقة العربية تظاهرات وحالات عنف مادتها الشباب وغالباً من أجيال جديدة.
والحق أن تأثير الأيديولوجيا الدينية يظهر بأشكال متعددة:
1 ـ عودة الشباب لممارسة الشعائر الدينية في الجوامع.
2 ـ لبس الحجاب الشرعي لدى الفتيات.
3 ـ كثرة الفضائيات الدينية.
4 ـ انتشار دُور النشر التي تعنى بنشر الكتب ذات التوجه الأيديولوجي الإسلامي.
5 ـ ردود الفعل القاسية والمباشرة على أيّ سلوك يستشف منه أن فيه نيلاً من الدين أو أيّ فكرة أو نص يعتقد أن فيه تجديفاً.
6 - انفجار الحركات الأصولية الإسلامية العنفية في بلاد الربيع العربي.
تتعزز هذه الأيديولوجيا يوماً بعد يوم عبر وسيلتين: الأولى انهيار النظام السياسي السلطوي في الوطن العربي والذي ينظر إليه على أنه نظام بالأصل غير ديني ولكنه فشل من حيث قدرته على إنجاز تنمية أو مناخ إحساس بالكرامة.
والثانية: وسائل الإعلام والأموال الطائلة التي تبدد في هذا الاتجاه، وأقصد اتجاه نشر الأيديولوجيات الدينية.
هاتان الوسيلتان لا تفسّران لنا الأسباب الكاملة لانتشار الأيديولوجيا الدينية على هذا النحو. ولهذا نرى أن أسباب انتشار الأيديولوجيا الدينية هي ما هو آت:
أولاً: الفقر والبطالة التي يعاني منها الشباب العربي وانسداد آفاق المستقبل أمامه.
والحق أنه ليس هنا أسهل من حرف الفقر والبطالة إلى شكل من أشكال التعويض الإلهي. تبرز هذه الظاهرة أكثر فأكثر ما تبرز في أحياء المدن الفقيرة وبخاصة تلك الأحياء ذات المنشأ الفلاحي ـ القروي. فحزام المدن العربية اليوم هو حزام القوى الدينية والمكان الأفضل لانتشار الأيديولوجيا الدينية بين الشباب الفاقد الآمال.
هنا يضاف إلى هذا السبب الذي ذكرناه بوصفه وسيلة ألا وهو عجز السلطة السياسية المطلقة: السياسي العسكري الاقتصادي والتنموي.
والأيديولوجيا الدينية بعد أن أمّنت الأغلبية من الشباب فإنها لم تعد تخشى الانتخابات الديمقراطية بل صارت تدعو لها في برامجها السياسية. وهذا ما يزيد من إغرائها أمام الشباب. إن فكرة الخلاص الديني لا تنتصر إلا في إطار انهزام الخلاص الأرضي.
ولهذا نرى أن أيديولوجيات الخلاص الأرضي غير المرتبط بالخلاص الإلهي لا تجد لها موقعاً كبيراً في عالم الشباب العربي. بل قل إن الأيديولوجيات القومية والشيوعية والليبرالية قد أخلت المكان للأيديولوجيات الدينية من دون أن تنتهي طبعاً من واقعنا العربي. إن جيل الكهول هو المادة الأساسية لهذه الأيديولوجيات، من دون أن نعدم وجود جمهور من الشباب واقعاً تحت تأثير الأيديولوجيات المترنحة.
في مقابل هذه الأيديولوجيات الفاعلة وبخاصة كما قلت في أوساط فقراء المدن وفئاتها المتوسطة وفي الأرياف، فإن فئة الشباب ذي المنشأ الطبقي المتوسط والفني والتي تقطن المدن وبعض ضواحيها وقراها، غير ملتفتة إلى الجانب السياسي ـ الأيديولوجي ولهذا فهو يعوض عن فقره السياسي الأيديولوجي المباشر بالميل نحو نمط الحياة الأميركية ـ الأوروبية والتي تمتلك أكبر مؤسسة إعلامية فاعلة في العالم وبخاصة بعد ظهور الفضائيات وأجهزة الكومبيوتر ومواقع الإنترنت. إن تأثير هذا النمط من الحياة أوسع ومتعدد بدءاً من الأزياء مروراً بالأغاني وانتهاءً بالطقوس والأكل والتسلية.
وخطورة هذا النمط ـ بوصفه أيديولوجيا مستترة ـ كبيرة على مستقبل الانتماء الوطني، ومستقبل الهجوم الكبير على منطقة تعج بكل أشكال الصراعات والتناقضات.
ولعمري إن السلطة السياسية التي تجد من مصلحتها تعميم هذا النمط من الحياة كي يعزف الشباب عن عالم السياسة تحفر قبرها بيدها. وذلك لأن الفرص المتاحة للأيديولوجيا الدينية كي تستقطب الشباب أكبر بكثير من فرص نمط الحياة الأميركية وأيديولوجيتها المستترة، لاسيما أن أيديولوجيا السلطة التي تعاني من التناقض بين الخطاب المعلن والممارسة العملية لا تستطيع أن تستقطب إلا النزر اليسير من أوساط ذات علاقة خاصة بالسلطة، رغم ما تحاول أجهزة السلطة في الوطن العربي أن تظهره من علاقة حميمة بين الحاكم والمحكوم.
حسبنا أن نعرف طبيعة العلاقة بين الإنسان وميديا السلطة لندرك مدى الطلاق البائن الحاصل بين الجانبين. إذن، نحن الآن أمام ثلاثة أشكال من الأيديولوجيات المتفاوتة في درجة التأثير على الشباب العربي.
ولو تأملنا أدوات نشر الأيديولوجيات في أوساط الشباب وطريقة عمل فاعليها لوجدنا: أن الأيديولوجيا الدينية هي التي تملك الأدوات الأهم وذات التأثير العاصف: الجامع، البرنامج الديني متعدد الأصول، الكتاب التراثي، حلقات الشيوخ.
تليها أدوات الأيديولوجيا المستترة: المسلسل التلفزيوني، الدعاية بكل أشكالها، السلعة.
فيما أدوات نشر أيديولوجيا السلطة بين الشباب كثيرة جداً، ولكنها غير فاعلة: مؤسسات الإعلام الرسمية، المدرسة، الاحتفالات الدائمة.
ولكن يجب أن نلاحظ أمراً هاماً جداً ألا وهو أن حرمان المجتمع من تكوين شخصية سياسية يكون فيها عنصر الشباب هو العنصر الفاعل والأساس، يحرم الشباب من الخيارات الحرة وبجعلهم أسرى أيديولوجيا دينية، لا أحد باستطاعته منع أدواتها من الفعل، كما يجعل جزءاً من الشباب هارباً إلى العالم النموذج الغرب.
وهذا بدوره يخلق ازدواجيات الحياة اليومية في وطننا العربي والتي تعبر عنها بالثقافة: السلوك، الزي، الأكل، العمل، التربية.. إلخ. ومن هنا فإننا لا نعيش تنويعات متعددة ناتجة عن ثقافة عامة، بل نعيش حضور ثقافات متعددة داخل المجتمع الواحد، وهذا ما يجعل المجتمع في حالة من التوتر المستتر، ويزيد من حالات التعصب التي قد تظهر لاحقاً في أشكال من العنف، يقوده الشباب.
الخرف الأيديولوجي
ما الخرف الأيديولوجي؟ لغوياً الخرف من الفعل الثلاثي خرف: فسد عقله من الكبر أو انقطعت صلته بالواقع. وانقطاع الصلة بالواقع يخلق أشكالاً متعددة من السلوك المرضي أو اللاسوي في أحسن الأحوال.
إنّ تعريف الخرف بوصفه انقطاع الصلة بالواقع يوكد ما نذهب إليه من تعريف الخرف الأيديولوجي.
فالخرف الأيديولوجي لا يصيب الأيديولوجي الذي يبلغ من العمر عتياً وظل متمسكاً بأيديولوجيا فقدت صلتها بالواقع، وليس وقفاً على الجماعات المعنّدة في أوهامها الأيديولوجية وإنما يصيب الجميع من كل الأعمار والأزمان.
والحق إن العالم العربي الآن يعاني من عدة أشكال من وجود الخرف الأيديولوجي ومن النتائج الكارثية لخرف كهذا لأن الأيديولوجيا مرتبطة بالسلوك. ولا نستطيع أن نقف عند كل أشكال الخرف الأيديولوجي في مقالة صغيرة ولهذا سنقف عند بعض الأشكال.
فلو تأملنا الأيديولوجية الدينية – الإسلامية التي أسس لها البنا قبل 76 عاماً واستطالاتها وتعيناتها فلا شك أننا واجدون نموذجاً فذاً للخرف الأيديولوجي. فحكم الحاضر بترسيمات ومفاهيم وقوانين وأعراف عالم قديم أمر مستحيل منطقيا وواقعياً ومعرفياً. ولأن الواقع ليس بمقدوره أن يستمرأ أمراً كهذا ولّد هذا الخرف الأيديولوجي حركات عنفيةً تسعى لتكسير رأس التاريخ مستغلة الخرف الأيديولوجي للدكاتاتوريات التي حكمت انطلاقاً من عقلية الاحتلال واحتكار القوة.
بل إن الحركات المسلحة التي أخذت أسماء كحزب الله وأنصار الله وجند الله وبوحي من الخرف الأيديولوجي الإيراني والتي تحمل السلاح وتنظم نفسها تنظيماً فاشياً ما هي إلا صور فاقعة من صور الخرف الأيديولوجي.
وليس يقل الخرف الأيديولوجي الشيوعي المستمر بصورته القديمة رغم انهيار التجربة السوفييتية أو أشباهها في أوروبا الشرقية. أقول المستمر عند بعض الأفراد والأحزاب القديمة عن الخرف الأيديولوجي الأصولي الديني.
ولكن من حسن حظ الواقع أن النتائج السلبية لخرف كهذا لا تتعدى الكتابة والمواقف السياسية السلمية.
وآية ذلك أن الشيوعية مهما أخذت طابع الدين الدنيوي تظل في الوعي ابنة الأرض وخالية من المقدس، ولهذا خضعت للنقد من أصحابها أنفسهم.
أما أشكال الخرف الأيديولوجي المستترة فحدث ولا حرج، وهي مستترة لأنها لا تظهر إلا في الممارسة وليس في الخطاب. وهي لا تقل خطورةً عن أي أيديولوجيا معلنة إن لم تكن أخطر من المعلن.
فالاعتقاد بأن العالم ثابت وخارج السيرورة والتغيير وتصعير الخد للتاريخ هو خرف يصيب بعض الجماعات الحاكمة التي لا تسمع نواقيس التاريخ وفاقدة لحس الشم التاريخي، فتقودها هذه الحال إلى العماء التاريخي.
ولسائل يسأل: كيف السبيل إلى التحرر من الخرف الأيديولوجي أو الشفاء منه؟
لا سبيل إلا سبيل واحد: الإصغاء إلى نداءات الواقع والإحساس بالواقع. ورؤية حركة الواقع وهذا يحتاج إلى المعرفة والعلم والوعي التاريخي وإلى شجاعة الوجود.
والعلم دون وعي علمي بالعالم يظل ناقصا، والوعي العلم دون وعي تاريخي لا يكون فاعلاً والوعي التاريخي دون الاعتراف بقوة الواقع وملامحه القانونية لا ثمرة له.
أيديولوجيا الخصوصية
ينتمي مفهوم الخصوصية إلى حقل الثقافة والاجتماع والسياسية والقيم، إنه مفهوم يشير إلى الاختلاف الواقعي لتعينات كل ما سبق، يشير إلى اختلاف التطور التاريخي للتجمعات البشرية. وليس لأحد أن ينكر خصوصية الإقطاع الشرقي العثماني عن خصوصية الإقطاع الأوروبي في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، كما لا أحد بقادرٍ على نفي اختلاف تطور المجتمع الروسي في القرن التاسع عشر عن المجتمع الانكليزي.. وقس على ذلك اختلاف قيم أوروبا عن قيم جنوب شرق آسيا.. إلخ.
عند هذا الحد يظل مفهوم الخصوصية أداة معرفية لفهم المجتمعات واختلافها.
غير أن هذا المفهوم، ما أن ينتقل إلى حقل الأيديولوجيا، حتى يفقد هذه الوظيفة، أي المعرفية، ويتحول إلى أداة تزييف للواقع، ومبررٍ لأهداف ومصالح متعددة. وأسطع حالة من حالات تحول مفهوم الخصوصية من مفهوم علمي ـ اجتماعي، إلى مبرر أيديولوجي، هو تحوله عندنا في بلاد العرب. وباستطاعتنا أن نرصد الحالات الآنية لمثل هذا التحول الذي أطلقنا عليه: أيديولوجياً الخصوصية.
أولاً: الخصوصية في أيديولوجيا السلطة، فلقد بات من المتفق عليه أن السلطة في الوطن العربي سلطة استبدادية منبَته. مع الاختلاف الكمي في درجة الاستبداد، أما من حيث النوع فالاستبداد واحد.
كما بات من المتفق عليه أيضاً أن الديمقراطية حالة إنسانية عامة، وهي الصورة المثلى حتى الآن للنظام السياسي. وقد أخذت بلدان كثيرة غير أوروبية بالنظام الديمقراطي كبلدان أميركا اللاتينية التي عاشت الاستبداد لفترة طويلة، وكذلك بعض بلدان جنوب شرق آسيا وغربها، وبعض بلدان أفريقيا ـ وما أدراك ما أفريقيا ـ وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على أهمية النظام الديمقراطي على المستوى الإنساني ككل.
غير أن السلطة الاستبدادية في بلدان العرب تحتج دائماً بمفهوم الخصوصية لتأكيد الاستبداد الذي تمارسه، فتتحدث عن اختلاف التطور بيننا وبين أوروبا، واختلاف القيم والعادات.. إلخ. إذّاك يصبح الاستبداد حالة طبيعية ناتج بالضرورة عن الخصوصية. ولعمري إنه أبشع أنواع الاستغلال للخصوصية وأوقحه.
يضاف إلى هذا القيل الأيديولوجي المعادي للديمقراطية باسم الخصوصية، قيل آخر، يسوقه مثقفو التجزئة وحراس السلاطين، مفاده أن هناك خصوصيات لكل قطر عربي تمنع قيام الوحدة، أو أيّ شكل من أشكال الدولة الأمة.
ولو تأمل أيديولوجيو الخصوصية هؤلاء للخصوصية داخل أوطانهم بالذات، لكفوا عن هذا المقيل، لأنهم سيتوصلون حتماً إلى استحالة وجود القطر الواحد نفسه.
فالمتأمل لخصوصية طرابلس الشام واختلافها عن خصوصية بيروت الشرقية لدعا إلى الانفصال، وإقامة اتحاد بين حمص وطرابلس الشام وإلى الوحدة بين جبل لبنان ووادي النصارى في سوريا. وقس على ذلك خصوصيات شرق الأردن المتماثل مع حوران وجبل العرب.. وتشابه شمال شرق سوريا مع شمال غرب العراق.
ولمن لا يعلم فإن شمال روسيا يمتلك من الخصوصية المميزة عن جنوبها أكثر بكثير مما يمتلك المغرب من خصوصية تميزه عن فلسطين، بل إن لهجة القلمون صعب فهمها على الحوراني من لهجة أهل تونس. ولو أن الخصوصيات حالة تلغي فكرة الدولة الواحدة لما كانت الدول القائمة دولاً أصلاً.
ثانياً الخصوصية في الأيديولوجيا الإسلامية، ما أن يطرح مثقف عربي ضرورة التنوير والحداثة والديمقراطية والعلمانية وتحرر المرأة والتجديد والدخول في روح العصر حتى ينبري الأيديولوجي الإسلامي إلى القول: وماذا نفعل بخصوصيتنا وقيمنا وديننا وهويتنا، ثم يروح متهماً خصمه بالتغريب والعدمية وما شابه ذلك من أوصاف، وكأن الهوية قد قُدّت مرة واحدة والى الأبد.
أبو الخصوصية الدينية هذا إذا ما غربلته فلن تجد في نمط حياته ما ينتمي إلى الهوية التي يدافع عنها، والى الخصوصية التي يتوهمها، كل ما هناك نوع من التفكير المنبت.
وهكذا يتحول الاختلاف والتنوع من ثراء واقعي للحياة وللفكر إلى أيديولوجيا ضد الحياة والفكر ومصالح الأكثرية.
ولعمري إن الخصوصية هي أكثر المفاهيم التي تحولت إلى مفهوم أيديولوجي سالب للحرية والتقدم.
القطيعة مع الأيديولوجيات
حين يتأمل البشر ماضيهم البعيد أو ماضيهم القريب، أو واقعهم المعيش، فإنهم يقيمون مع هذا كله علاقة ما، علاقة ذم أو مدح، علاقة تبنٍّ أو إنكار، علاقة حبٍّ أو كُره. غير أنّ كل هذه العلاقات لا تُفضي إلا إلى مواقف، وليس إلى فهم وتفسير وتجاوز. والنقد في حقيقته عملية فهم وتفسير وتجاوز، وهذه مهمة من أعقد المهام وأصعبها من جهة؛ وهي مهمة تقوم بها نخبة توافرت لديها العدة المعرفية المنهجية من جهة ثانية. كما يتطلب هذا تجاوز القيل النقدي اليومي القائم على المناكفة والذمّ والذي يحلو لبعض الأقلام أن تمارسه، ويبدو أن ليس باستطاعتها ممارسة سواه.
ففي قراءتنا للخطابات الأيديولوجية العربية التي لم ينج منها مثقف عربي في مرحلة مراحل حياته، والتي مازال هناك نمط من المثقفين العرب غارقاً فيها، سنجد بأنّ الأيديولوجيات العربية الكبرى، مع كل ما فيها من اختلاف، هي ذات روح دينية واحدة. فميشيل عفلق وخالد بكداش وسيد قطب وأنطون سعادة، الرموز الأربعة الدالّة على الأيديولوجيات التي وجدت طريقها إلى الناس، وإلى عالم المثقفين بخاصة، وما زالت حاضرة على نحو ما.
من أين تأتّت هذه الروح الدينية التي وسمت هذه الأيديولوجيات آنفة الذكر؟
الجواب هو أن جميع هذه الأيديولوجيات تنطوي، من وجهة نظر أصحابها، على الحقيقي المطلق الكامن فيها، والذي أخذ شكل المقدس؛ فالمقدس في الأيديولوجيا يمنح الأيديولوجيا روحاً لاهوتياً.
الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة بالنسبة إلى المؤسس وأتباعه فكرة مقدسة، ونافية لأيّ فكرة ما عداها. وبعث الأمّة حقيقة لا شكّ فيها من وجهة نظر أصحابها. فيما فكرة سوريا للسوريين، والسوريون أمّة تامّة هي الفكرة المقدسة لأنها الحقيقة المطلقة عند سعادة. وقِس على ذلك فكرة حتميّة الانتقال إلى الشيوعية التي ورثها بكداش عن لينين وستالين، ولم تختلف الفكرة الإسلامية – السياسية التي طورها سيد قطب وطبع حركته بها، حيث نعيش عصر الجاهلية الذي يجب تجاوزه بفكرة الحاكمية لله بوصفها فكرة مقدسة مطلقة. الأيديولوجيات العربية الكبرى، رغم ما فيها من اختلاف، ذات روح لاهوتية واحدة، كما قلنا، من عفلق إلى بكداش وقطب وسعادة. وكل هذه الأفكار تعيّنت بأحزاب أيديولوجية متقاتلة وهي: البعث، والصورة المصرية له في الناصرية، السوري القومي – الاجتماعي، الشيوعي، الإخوان المسلمون. كان الصراع بين هذه الأحزاب دموياً. لم يكن صراعاً على السلطة فقط، وإنما صراع أفكار مقدسة متناقضة. حسبنا أن نذكر الصراع الدموي بين الشيوعي والبعث في العراق، والصراع بين السوري – القومي والبعث، بين البعث والإخوان المسلمين، وبين الإخوان المسلمين والناصرية.. وهكذا.
لقد حول أصحاب الحقيقة المطلقة أحزابهم إلى ديانات، والأهداف إلى مقدسات، والمقدسات إلى أداة لنفي الآخر، بهذا الوعي الديني بالحياة والسياسية يموت الحوار، لأن المقدسات لا تتحاور.
القضية الأخطر تكمن في أنّ جميع هذه الأيديولوجيات ذات وعي فاشي – دكتاتوري بالسلطة كما دللت التجربة التاريخية. لقد حكم البعث بلدين من أهم بلدان العرب، سوريا والعراق، وأقام نظامين دكتاتوريين أمنيين عسكريين مغلّفين بمبدأ الحزب الواحد؛ بل وظهر الصراع على السلطة داخلهما بأبشع صوره. صراع وصل حد إعدام الرفاق للرفاق. لم يتوانَ حكم الأسد من زج الرفاق في السجون لمدة ربع قرن، ليموت بعضهم داخل السجن. ويقال بأن صدام أعدم بيده رفاقه الذين اختلفوا معه عبر الكلام. ولقد شهد اليمن الجنوبي حرباً بين القبائل الماركسية التي اصطف بعضها مع علي ناصر، وبعضها الآخر مع سالم البيض. وكان أن أعدم الرفاق قبلها سالم ربيع علي. وما أن جاء الإخوان المسلمون إلى السلطة حتى راحوا يأخونون مصر، وهكذا. ولم تختلف فاشية داعش والنصرة وحزب الله والحوثيين، وحزب الدعوة في الحكم عن أي فاشيات أخرى.
القضية لم تعد تتعلق بتحرير الأيديولوجيا من المقدس، بل التحرر من الأيديولوجيات نفسها.
فعملية النقد، عليها أن تطال جوهر هذه الأيديولوجيات لتجاوزها، وليس لإصلاحها، واستناداً إلى رؤية واقعية تاريخية لعالمنا العربي. ففكرة الحاكمية لله، التي طرحها سيد قطب وأصبحت حاضرة في جميع أشكال الأيديولوجيات الدينية سواء كانت شيعية أم سنية، هي غير قابلة للإصلاح، بل قابلة للتجاوز وإقامة القطيعة معها؛ إذ لا يمكن أن تقوم دولة على أساس ديني ولا على أساس فكرة الحاكمية لله وفكرة ولاية الفقيه. ولا يمكن أن تقوم دولة بناء على حكم الحزب الواحد مهما كانت أيديولوجيته.
قس على ذلك موت الفكرة الشيوعية التي لن تعود إلى الحياة مرة أخرى. فالعدالة والإنصاف غير مرتبطين بالدعوة إلى الفكرة الشيوعية. والأمر ينطبق على الرسالة الخالدة والسوريين أمّة تامّة.
لكن البديل عن هذه الأيديولوجيات الكبرى ليس بديلاً طائفياً كما هو حاصل في العراق، وكما هو حال الحوثيين في اليمن. نشهد ظهور أخطر أشكال الأيديولوجيات الدينية – السياسية، كأحزاب الله في لبنان والعراق وأنصار الله في اليمن، وداعش.
إنّ استعادة أهداف العرب الدنيوية عبر السياسية المعبرة عن مصالح العرب، مصالح الإنسان العربي في خطاب خالٍ من الأوهام الأيديولوجية ذات الإهاب الديني هي مهمة المفكر المهجوس بحياة العرب ومستقبلهم الآن. أي إن نقد الأيديولوجيات لا تعني الإطاحة بتناول مشكلات الواقع العربي، بل في إعادتها إلى جدل الإمكانية والواقع والاختلاف والحوار والتفكير العقلي.
وما زاد الطين بِلة أننا، ونحن نشهد مأزق هذه الأيديولوجيات الكلاسيكية التي حركت الشارع العربي بمثقفيه، فإننا نشهد ظهور أخطر أشكال الأيديولوجيات الدينية – السياسية، كأحزاب الله في لبنان والعراق وأنصار الله في اليمن وجند الله وداعش والنصرة والقاعدة، فضلاً عن قيام دولة ولاية الفقيه الدينية في إيران التي تغذي هذا الانحطاط بشكل مباشر وغير مباشر.
المشكلة التي نواجه هي أنّ بعض الناس يقاتلون ويُقتلون ويَقتلون ويموتون من أجل أوهامهم، بل ويخربون الحياة.
على العقل أن يعتلي منصة الحياة، واضعاً نصب عينيه الكفاح من أجل الحياة. الحياة فقط، وليس جعل الحياة في خدمة الأوهام.