ج. ج. بالارد.. ألف كلمة في اليوم
بينيت: أكنت تعرف دوماً أنك ستصبح كاتباً؟
بالارد: أجل. في طفولتي كنت أكتب باستمرار. أعتقد أنه كان لديّ نوع من الميل الفطري إلى الكتابة بسبب ما حصل في مدرستي بشانغهاي: حين كنت في الثامنة أو التاسعة عوقبت بنسخ كتاب. كان الكتاب الذي عوقبت بنسخه بعنوان “وستووارد هو”، وبينما عكفت على نسخه، لاحظت أنه يتحدث عن الإمبراطورية الإسبانية والقراصنة وما شابه ذلك، وأنه سيكون من الأسهل بكثير بالنسبة إليّ أن أختلق الأحداث. وهو ما فعلته منذ ذلك الحين. مرّة، حين سلّمت الصفحات المنسوخة، طلب مني المعلّم أن أقرأها ثم قال لي: “بالارد، في المرة المقبلة التي تعاقب بالنسخ، لا تختر روايات رديئة. اختر إحدى الكلاسيكيات”، فأدركت أنه لديّ فطرة الكتابة، وواصلت كتابة القصص، ثم أخيراً الخيال العلمي في منتصف الخمسينات من القرن الماضي، وصرت كاتباً محترفاً.
بينيت: كيف أثّرت عليك تجربة الاعتقال في معسكر بشانغهاي خلال الحرب العالمية الثانية؟
بالارد: كان لها تأثير هائل. فشانغهاي خلال الحرب العالمية الثانية وفترة الاعتقال في معسكر ياباني، كانت نوعاً مّا نسخة قصوى من الحياة الاعتيادية. وقد اختبرت أموراً كثيرة لم يختبرها أطفالي على سبيل المثال. كان العيش في معسكر طوال ثلاث سنوات أشبه بالعيش في حيّ صفيح ضخم. كنت أعيش في واقع الأمر نوعاً من الحياة التي يعيشها اللاجئون اليوم في أفريقيا والشرق الأوسط: اكتظاظ شديد، ونقص شديد في الطعام. كما رأيت البالغين حولي يرزحون تحت ضغط هائل، وهو أمر لا يعيشه معظم الأطفال في أيامنا هذه. رأيت مدينة محتلة، وجنود العدو في الشوارع، والدبابات تزمجر هنا وهناك، والقصف وسائر هذه الأمور. كان عالماً متطرّفاً للغاية. وأعتقد أنه يغذّي المخيلة. الأمر أشبه بأن تكون في حادث اصطدام طائرة، وإن خرجت منه حياً، فلن تنساه في حياتك.
بينيت: هل عدت يوماً إلى الصين؟
بالارد: أجل، في العام 1991، بعد خمسة وأربعين عاماً من مغادرتها. كانت عودتي إلى مكان طفولتي غريبة للغاية، مثل السفر عبر الزمن. كان ثمة عدد هائل من ناطحات السحاب بالطبع، لكنْ على مستوى الشارع، كان بيت العائلة ما زال قائماً والمعسكر كذلك والذي تحوّل إلى مدرسة. كان الأمر غريباً للغاية.
بينيت: بعد الحرب عدت إلى لندن وسعيت إلى حياة إنكليزية مختلفة تماماً، فدرست الطب في كامبريدج لعامين، ثم قمت بأعمال عدة مثل كتابة الإعلانات وحمالاً في سوق كوفنت غاردن للخضار. ما الذي أضافه نمط الحياة هذا إلى كتابتك؟
بالارد: على الأرجح أنّ تجاربي في الحرب زرعت فيّ الحاجة لكي أكتشف، إن استطعت، ما الخلل في العالم، لمَ البشر منشغلون إلى هذا الحدّ بقتل بعضهم البعض، لمَ هناك الكثير من القسوة؟ كنت مهتماً بالطب، وفكرت بأن أغدو طبيباً، فدرست الطب وبعد سنتين اكتفيت من ذلك. عرفت أنني يجب أن أكون كاتباً.
كتبت الخيال العلمي في البداية لأنني لم أرد كتابة رواية تنتمي إلى مدينة هامستيد، والأمر العظيم في الخيال العلمي أنه لا أحد فيه يعيش في هامستيد. كما أنّ الخيال العلمي يتعلّق بالتغيير، وكنت مهتماً بذلك لأن إنكلترا في الخمسينات كانت قد بدأت تتغير، أصبحت هناك سيارات ومحطات تلفزة ورحلات طيران، أي أنّ المجتمع الاستهلاكي وصل، وكانت إنكلترا تتغيّر بصورة جذرية. أردت الكتابة عن التغيير.
بينيت: من الكتاب والفنانون الذين أثّروا فيك أكثر من سواهم؟
بالارد: غراهام غرين كان له تأثير كبير عليّ، وكافكا والرسامون السرياليون، لأنهم كانوا يرسمون ما أسميه “الفضاء الداخلي”. كتابتي لم تكن تدور حول الفضاء الخارجي بل التغيير النفسي، الفضاء النفسي.
بينيت: يركز سردك على ما سيحدث في مجتمع معين. ما نوع أحداث الحياة الحقيقية التي تلهمك كتابة رواية؟
بالارد: أشعر في عظامي بأن أمراً غريباً يحدث، وأستكشفه من خلال كتابة رواية، من خلال محاولة العثور على المنطق اللاواعي الذي يجري تحت السطح والبحث عن الصلات الخفيّة. كأنّ هناك أضواء غريبة، وأنا أبحث عن الأسلاك وعن علبة المنصهرات.
بينيت: خلال الأربعين عاماً ونيف التي عشتها في إنكلترا، تحول منزلك في شيبرتون من مثال ريفي إلى ضاحية لمطار لندن. ربما من غير المفاجئ أن كتابك مليء بالمناظر الطبيعية المستلهمة من شعور الاغتراب في الضواحي؟
بالارد: هذا صحيح. أنا مفتون بالطبيعة النفسية للمجتمعات المسوّرة، وبإنكلترا الواقعة على تخوم الطريق السريع أم 25. وليس إنكلترا الأصيلة أو لندن التراثية، بل مرائب الحافلات والسكن المشترك، وكاميرات المراقبة والمطارات، والكثير من السيناريوهات الكئيبة التي تخيلتها صارت واقعاً. حين ننظر إلى الثلاثين عاماً الماضية، فإنّ العنف عديم المعنى صار أمراً شديد الشيوع: الناس الذين يدخلون إلى سوبرماركت ويشرعون في إطلاق النار عشوائياً، أعمال العنف مثل قتل الصحافية جيل داندو، أو حتى التفجيرات الفظيعة الأخيرة في مدريد. لسنا متأكّدين من أن أياً من الأشخاص الذين يرتكبون هذه الفظاعات لديهم أيّ مبرر، حتى في عقولهم هم. قد يكون العنف من أجل العنف. وهذا خطر لأنك لا تستطيع التنبؤ به. ربما الناس ضجرون للغاية والحياة المعاصرة فارغة تماماً فيشعرون بالحاجة إلى إلقاء قنبلة أو قتل شخص مّا لكي يشعروا بأنهم على قيد الحياة.
بينيت: أنت معروف بأنك رجل عائلي. هل هناك كتّاب أو فنانون آخرون في عائلتك؟
بالارد: لدي ثلاثة أولاد وأربعة أحفاد أعتزّ بهم كلّ الاعتزاز. أراهم كثيراً وعائلتي لطالما كانت مهمة بالنسبة إليّ. توفيت زوجتي قبل زمن طويل، في 1964، فتولّيت تربية أولادي بنفسي.
بينيت: كيف تنظم وقتك؟ هل تكتب وفقاً لجدول زمني؟
بالارد: أجل. ما لم تكن منضبطاً، فسينتهي بك الأمر مع العديد من زجاجات النبيذ الفارغة. طوال حياتي المهنية أكتب ألف كلمة في اليوم، حتى لو كنت أعاني من تأثيرات ما بعد الشراب. يجب أن تضبط نفسك إن كنت كاتباً محترفاً. ليس من طريقة أخرى.
بينيت: في العام 2003 رفضت لقب “القائد”، لماذا؟
بالارد: (يضحك). لو كنت أستطيع تسمية نفسي القائد بالارد، لكنت قبلت. أعتقد أن هناك مبالغة في تقدير مثل هذه الأمور.