حائطٍ واطئ
“أبداً لن تكون أغنية الطيور نفسها مرّةً أخرى”
(روبرت فروست)
في هذا الحي
يلوّن المارّة الطرقات ببصاقهم وأعقاب سجائرهم:
في هذه يلعنون الحياة
وفي تلك يستعجلونها.
*
أحدنا رغب بتسمية الأيام بالنوتات الموسيقية
بيد أنّه
لم يدرِ كيف يمرّر قدميه فوقها.
*
في هذه المدينة بأكملها
كان من الضروريّ أن يزرع متطفّلٌ صدى أغنيةٍ صاخبة
تهشّ عباراتها القبيحة على رؤوس البائسين
وتتسلّل موسيقاها بين حديد الدرابزونات
ليبقى ثمّة صوتٌ يسري لاعناً
ولتنبت بنات الهوى من خياشيم الشبابيك.
*
ثقبٌ في آخر حائطٍ في الحي، وضع الأطفال أعينهم فيه وهم يظنّون أنّهم يرون كوكباً آخر.
هذا الثقب انتبه يوماً أنّه مستباحٌ لكلّ من تاق إلى الهرب، فبات ينتظر المطر ليذيب بعض الطين في جسده، ومن وقتها يقولون لماذا تخفت الأصوات في الشتاء.
*
لا داعي للتحدّث عن الغرفة اليتيمة بما حوته يوماً من ضجيج، قس على ذلك الغرفة المبنية من الحجر الجبلي في إحدى الزقاقات المهملة من مجلس القرية، قيل يوماً إنّها كانت أغنيةً لامتناهية، أغنية يجلسُ العائدون لمنازلهم على مصطباتها كي يريحون رؤوسهم دون أن يفكّروا في وجبة العشاء.
لا داعي للكلام بأنّ الغرفة كانت مجال الحياة الوحيد في القرية، أو أنّها قضّت مضاجع العجائز وهم يرغبون للخلود إلى النوم، أو أنّها “مدينةٌ مقزّمة” حوّلت حياتها الدائمة إلى تعبٍ دائم وأمست الطحالب راتعةً فوق حجارتها.
لا داعي لكلّ هذا الضجيج.
*
القتل هو الشره الوحيد لصورة الطاغية، بيد أنّه نسي أنّ القتل أحياناً بمثابة تسريعٍ لعشائه الأخير.
*
يتّسعُ قلبكِ أيّتها العابرة لكلّ شيءٍ إلا لوجهي، ثمّة صرعٌ يحكمه.
*
زُعِمَ:
أنّ ثمّة أسرارٌ تتناقلها حبال الغسيل، وهو ما رآه الناس في ثياب بعضهم فعاشوا حياةَ جيرانهم دون أن ينتبهوا.
وزُعم أيضاً:
أنّ بعض فتيان حارةٍ شعبيّةٍ على طرف المدينة حُرموا من ممارسة الجنس كما يشاهدونه في الأفلام الإباحيّة فلجأوا لتحريف كلمات بعض الأغاني.
فيما لم يزعُم أحداً:
أنّ رائحة الدجاج المشويّ ترعبُ الأطفال، إذ يخالون حفلة الشواء عرضاً مصغّراً لعذاب جهنّم.
*
تقول لي إحدى الصديقات إنّ هذا العالم اتخذ أشكالاً تثير وطأتها الهلع، ولهذا كان فرار من سبقونا “رحمةً”.
حسناً، سأقول إنّني حاولت عدّة مرات أن أهرب، غير أنّني كلّما رفعت يدي مقدار بوصةٍ شعرت بقدميّ تنغرزان في الأرض، من الواضح أن خلاياهما الحيوانيّة قد أصبحت نباتية وأنّ كلّ واحدةٍ منها تمدّ أياديها الست وتصير جذوراً.
سأقول إنّني سأصبح شجرةً عمّا قريب،
وسأقول إنّ جميع الباقين سيصبحون أشجاراً ليرقعوا رعب هذا العالم.
*
مما لا زال منقوشاً في ألسنة عجائز يسندون بكراسيهم ظلال القرية الفارغة:
أنّ الذين غادروا خرجوا خفافاً كأنّهم أرياح تطارد وجهاتها، بالرغم من ثقل حمولتهم جراء مرطبانات المكدوس والزيتون والمربيات، خرجوا خفافاً لرغبتهم بإغلاق فتحةٍ من فتحات غربال الحياة الساذجة؛
أنّ الجدران التي رفعوها يوماً أمست بمثابة مايكروفون يردّد صدى ما تبقى من أصواتهم الخافتة؛
أنّ أغانيهم الريفيّة باتت ثقيلة، لم تجد من يحملها في لسانه؛
أما ما بقي عن أنفسهم فمحضُ عكّازٍ يهشون بها الحصى.