إخوتي المزينون بالريش
أمطار وهزَّات نيكاراغوا
في يوليو 2004، وصلت نيكاراغوا. كانت المرة الأولى التي أرى فيها مطراً يسقط في أجواء حارّة، وكلَّما سقطت الأمطار التي عادةً ما تكون غزيرة، أشعر وكأنها المرة الأولى التي أشهد فيها أمراً كهذا، وأصاب بالدهشة في كل مرة. ثمَّة الكثير من الأشياء التي لامستني في نيكاراغوا، والكثير منها أصابني بالإحباط، لكن أمطارها التي تهطل فجأة وبغزارة، ظلَّت دوماً ونيساً ومعيناً لي على إبعاد شبح الشمس الحارقة، التي كثيرا ما أشعر أنها تتأبَّط ذراعي إذا فكّرت في الخروج نهاراً إلى الشارع.
ما زلت في السنة الأولى من وصولي إلى نيكاراغوا، الجو الحارق لا يناسب القادمين من الشرق الأوسط، كما أنَّ بشرتهم لم تتعامل بعد مع أنواع الحشرات المختلفة الموجودة في البلاد، وخصوصاً حين يبدأ المطر الموسمي بالنزول، يتطاير نوع معيَّن من الحشرات عند أوَّل مرَّة تمُطر، ثمَّ يختفي عن الظهور في المرّات التالية. ومع أنَّ المطر الغزير غالباً ما يبدأ بالتسرّب إلى المنزل، أو يتحوَّل إلى فيضانات قد تؤذي في الكثيرٍ من الأحيان بعض البيوت البسيطة، إلَّا أنَّه من الأشياء التي تجلب البهجة إلى قلبي في بلدٍ لم أعتد على حرارته رغم مرور 11 عاماً على الإقامة به.
وفي أجواء المطر، تنتشر الأمراض والفيروسات هنا، وإذا كانت الإنفلونزا شتاءً في بلادنا هي القاسم المشترك بين معظم الناس، فإنَّ أمر اكتشاف الفايروس يكون أصعب، إذ في كلِّ مرّة ينتشر فايروس جديد، يهاجم الجهاز المناعي في الجسم. فارتفاع درجة حرارة الجسم دون التهاب في الحلق، يعني أنَّ الفايروس قد دخل جسمك.
في السنة الأولى، أصبت بمرض يسمّى “دينجي”، ليس لديَّ فكرة عن اسمه بالعربيَّة، لكنَّه ينتشر في المناطق الموسميّة ويسبِّبه البعوض الذي يتكاثر على برك الماء النظيف. وعلاج هذا المرض يكون بالإكثار من شرب السوائل، لأن الفايروس يخرج من الجسم عن طريق سوائله من بول وعرق.
أصبت بهذا المرض ثلاث مرّات، آخرها كان أخطرها، حيث كان من الدرجة التي تسبّب نزيفاً في الجسد. بقيت في المشفى لثمانية أيّام، وكان من أصيب بهذه الدرجة من المرض في نيكاراغوا، عشرون شخصاً كنت أحدهم، وتوفّي من العشرين اثنان.
في سنتي الأولى، كنتُ أصحو على صوت المطر الذي يصطدم بالسقف المصنوع من معدن الزينكو، وكنت أستغرب أنَّ زوجي الذي وصل نيكاراغوا قبلي بأربع سنوات ينام ملء عينيْه، فيما أستيقظ في منتصف الليل خائفةً من صوت البرق أو من سقوط المطر الهادر. وفي موسم نضج ثمار المانجو، أستيقظ مفزوعةً من صوت حبَّات المانجو التي كانت تتقافز على الزينكو محدثةً قرقعةً تشبه صوت انفجار. هذه الأمور اعتدتُ عليها فيما بعد، بل أصبحت أتعايش مع أشياء أكثر كارثيَّةً، كالزلازل.
في نفس العام الذي وصلت به نيكاراغوا، أي عام 2004، كنتُ أستيقظُ أيضاً على هزّات أرضيَّةٍ خفيفةٍ، وحين أوقظ زوجي أنَّ زلزالاً قد حدث، يقول لي بل هزَّةً خفيفة، ويعودُ للنَّوم.
الهزَّات الأرضيَّة أمرٌ اعتياديٌّ في مناغوا، وأحياناً قد تحدث دون أن يشعر بها الناس، حسب درجتها، ولذلك فالبيوتُ في نيكاراغوا من طابقٍ واحدٍ فقط، ومؤخّراً بنى عقاريّون بعض الإسكانات من طابقين لكنَّها مضادَّة للزلازل.
لاحقاً، أصبحت أسمع عن الهزّات الأرضيَّة من نشرات الأخبار وأحمد الله أنَّني لا أشعر بها. إلّا أنَّهُ في أبريل/نيسان 2014، مررْت بفترةٍ مرعبة في مناغوا. إذ تعرَّضت المدينة لموجةٍ من الزلازل والهزّات تباعاً، وكنّا في اليوم الواحد نشعرُ بهزّةٍ أو اثنتين عدا عن الهزّات الخفيفة التي كانت تحدث دون أن نشعر بها.
أعلنت الحكومة النيكاراغوية حالة الطوارئ القصوى، إذ جاء عدّة خبراء جيولوجيّون من عدّة بلاد، ولم تكن الأمور مطمئنة، وأغلقت المدارس والجامعات، وقرّرنا الفرار مؤقّتاً لمدينة ماتاغلبا شمال البلاد، إذ أنّها مدينة جبليَّة وقشرتها الأرضيَّة ليست ضعيفة، كما هو الحال في العاصمة مناغوا.
وأنا أرتِّب أغراض أبنائي وأترك البيت ظنّاً منِّي أنَّه ربَّما سيدمّر، تذكَّرت جميع اللاجئين في هذه المرحلة الصعبة من تاريخ أمَّتنا، والذي يُعيد تاريخيْ النكبة والنكسة الفلسطينيَّتيْن، لكن هذه المرّة على أيدي أبناء الأمّة الواحدة.
مناغوا
لست من مُحبِّي العاصمة مناغوا، إذ هي فقط المدينة الاقتصاديَّة والحيويّة في البلاد، لكن ينقصُها الروح. فلا هي نسخة كاملة من المدن الأميركيّة اللاتينيّة، ولا هي صورة متكاملة للمدينة الحديثة.
وقد زرت بلاداً أخرى في أميركا اللاتينيّة، وكان هناك مركز للعاصمة، أو ما نسمٍّيه “وسط البلد”، لكنَّ مناغوا تفتقر إلى هذه الميزة.
وبالعودة لتاريخ مناغوا، فهي بالأساس لم تكن العاصمة التاريخيَّة لنيكاراغوا حتى عام 1852، بل تبادلت المدينتان التاريخيَّتان (غرناطة وليون) مركزيّة البلاد. وبعد الاستقلال، قرّرت الحكومة اختيار مدينة تقع بين تلك المدينتيْن، فكانت مناغوا، ولم يأخذوا بعين الاعتبار في ذلك الوقت أنّ القشرة الأرضيَّة لهذه المدينة ضعيفة جدّاً وأنّها تتعرّض (حسب الاعتقاد السائد)، كلَّ أربعين عام إلى زلزال قويٍّ.
كان زلزال عام 1972، كارثةً كبرى حلّت على البلاد، وما زال أهل نيكاراغوا يتذكَّرون تفاصيله، بل أحياناً في كلامهم يؤرِّخون الأحداث بـ”ما قبل الزلزال وما بعده”.
وكانت مناغوا، مليئةً بالمباني المرتفعة التي لم تصمَّم بطريقةٍ مضادّةٍ للزلازل، اللهمَّ إلّا مبنى يتيماً كان قد صمَّمه مهندسٌ يابانيٌّ لم يتأثّر إلّا بشكل طفيفٍ بذلك الزلزال الذي أتى على كلِّ شيءٍ، وقد أبقت عليه الحكومة كشاهدٍ على تلك الكارثة.
يُقال إن زلازل 2014، كانت بنفس درجة زلزال 1972، لكنّ طريقة البناء المختلفة والتي أصبحت تأخذ بعين الاعتبار طبيعة تعرّض المدينة للزلازل، حالت دون حدوث كوارث.
كان زلزال 1972، مدمِّراً بحيث قضى على المدينة القديمة لمناغوا، فانتقل البناء والمعمار والسوق لأطراف أخرى من المدينة، دون أن تتركّز في مكانٍ واحد. وهكذا، فقدت مناغوا “وسط البلد”، الذي ما زال فيه مبنى البلديّة، وكاتدرائيّة مناغوا، وهما مَبنيان يُطلّان على بحيرة مناغوا، وبُنيا على الطراز المعماري الكولونيالي الإسباني.
في وسط البلد عادةً، تتوسَّطُ هذه المباني ساحةُ تعتبرُ مزاراً يوميّاً لأبناء المدينة، وهذا ما لا يتوفّر في مناغوا.
لقد تحوَّلت مناغوا القديمة شيئاً فشيئاً لمأوى يضمَّ المشرَّدين والسكارى ما جعلها من المناطق الخطرة في مناغوا، رغم أنَّ نسبة الجريمة نسبيّاً في نيكاراغوا هي أقلّها بالنسبة إلى دول أميركا الوسطى.
وأذكر أنَّه كان من الصّعب علينا التجوُّل في شوارع المدينة القديمة سابقاً، لكن في السنوات الأخيرة، وبتولَّي الحزب السانديني سدّة الحكم، حوَّلوا أنظارهم لتلك المناطق المهمَشة في المدينة. صحيح أنَّ هناك من يقول إنّهم يُحاولون كسب أصوات الفقراء – وهم الأغلبيّة – من أجل حزبهم، لكنِّني لا أرى في ذلك بأساً، فالرؤساء الآخرون الذين ينتمون لأحزاب أخرى عرفوا بقضايا فساد ورشوة وفي عهدهم كانت الفجوة تتّسع كثيراً ما بين الطبقة الغنيَّة والفقيرة.
وكان ذلك ما لفت نظري في بداية وصولي، إذ المدينة غارقةٌ بالفقر والتخلّف، فيما هناك الكثير من الأغنياء بطريقةٍ عجيبة.
هنا، عرفت ماذا يعني مصطلح “غسيل الأموال”، إذ تدور الأحاديث عن غسل الأموال بطريقةٍ سرِّيَّة وعلنيَّة في ذات الوقت؛ فما أن يظهر الغنى على أحدهم بطريقةٍ مفاجئةٍ حتّى تبدأ الأحاديث عن “الغسّالة” التي عثر عليها ذلك الشخص.
على أيِّ الأحوال، ولأنَّ هذه الأمور تتم بطريقةٍ سريّة، فلا شيء مؤكّدا من كل ما كان يُقال، وما هي إلّا تخمينات أفراد الجالية، وخصوصاً أنَّ هناك حالتان انتهتا بموت اثنين من الشباب العرب، قيل إنَهما تورَّطا مع عصابات غسل الأموال في الهندوراس وغواتيمالا، لكنَّ عائلتيْهما قالت إنَّهما قُتلا بحوادث سطو.
ليالي ألف ليلة وليلة
في الفترة التي وصلت بها نيكاراغوا، وكنت أقيم في عاصمتها مناغوا، كان هناك مسلسل برازيلي يُعرض على شاشتها يتحدَّث عن علاقة برازيلي بفتاةٍ مغربيَّة، وكيف كادت تقتلها عائلتها بسب علاقتها بالشاب الأجنبي. كان نسبة مشاهدة المسلسل مرتفعة، وكان بمثابة النافذة التي يطلُّ منها النيكاراغويُّون على العالم العربي، لكنّها بالنسبة إلينا – نحن العرب -، كانت نافذةً تطلُّ على جزءٍ من المشهد فقط، وكنّا نتعرَّض للكثيرٍ من الأسئلة.
على الأغلب، كان النيكاراغويُّون ينظرون إلى الرجل العربيِّ نظرةَ حسدٍ؛ إذ يظنَّون أنَّه بمجرَّد عودته لبيته، فثمَّة أربعُ زوجاتٍ بانتظاره، سيتحلَّقن حوله ويرقصن له.
أمّا النساء فأصبحن – بعد المسلسل – يواجهن أسئلةً من قبيل: هل تعيشين مع ثلاث نساء؟
لا شك أنَّ المهاجر العربي عانى كثيراً في هذه البلاد البعيدة، ولأنَّ الشوام معروفون بمزاولة التجارة فقد عمل أبناء الجالية العربيًّة بها وكانوا أوَّل من افتتح محلّات بيع الأقمشة في العاصمة مناغوا ومدن نيكاراغوا المختلفة، لكنَّ السوق الرئيسي (ميركاذو أورينتال أو سوق الشرق)، هو مركز تجارتهم الأساسي، إذ توجد به المحلّات الكبرى التي توزِّعُ بضائعها على المحافظات الأخرى.
وبهذا، فالفكرة المأخوذة عن العرب بشكلٍ عام في نيكاراغوا، أنَّهم من أصحاب المال ورأسماليين، رغم أنَّ هناك تفاوتاً كبيراً في حالة الأفراد الماديَّة، والكثير من العائلات اضطر للعودة لبلاده بسبب عدم التوفيق في العمل.
كما أنَّ العربي هنا معروف بابتعادهِ عن الأنشطة الثقافية، إذ همُّهُ الأوَّل جمع المال. وقد حدَّثني صديق مكسيكي أنَّ المدينة التي يُقيم بها تمتلئ باللبنانيِّين، لكنَّه يرى أنَّهم فقيرون على المستوى الثقافي ومعظم أحاديثهم تتمحور حول الأمور الماديَّة. ولا يُمكن إنكار هذه الحقيقة، فالمهاجرون العرب في هذه البلاد، لم يكونوا منفيِّين سياسيِّين، ولم يجيئوها دارسين ومبتَعثين في منح دراسيَّة بل جاؤوها لتحسين أحوالهم المعيشيَّة والهروب من الحرب والفقر في بلادهم. غير أنّهُ لا يمكن إنكار أنَّ كثيراً من أبناء المهاجرين عُرفوا ككُتاب وشعراء لهم وزنهم ومكانتهم.
ففي المكسيك، يُعتبر الشاعر المكسيكي خايمي سابينس من أفضل وأشهر شعراء هذا البلد، وما زالت الأوساط الأدبيَّة تحتفي به لليوم.
وهناك الكثير من الأسماء لشخصيّات من أصول عربيَّة، ساهمت بإنجازات كبيرة في قارَّة أميركا اللاتينية. في نيكاراغوا، هناك حي كامل اسمه “حي سليم شبلي”، وسليم شبلي هو أحد الثائرين في الجبهة الساندينيّة وقد استشهد خلال عمليَّة نفَّذها للجبهة، فكرَّمته الثورة بتسمية الحيِّ باسمه.
يعقوب مرقص فريج، وُلد في أربعينات القرن الماضي وتوفي عام 2004، وهو طبيب، لكنَّهُ كان ينتمي للثورة الساندينيَّة مع أخته الشاعرة سعاد مرقص فريج.
وفي الطب أيضاً، يُشتهر في نيكاراغوا الأخوان أمين حسَّان (طبيب أعصاب)، وقد توفّي قبل حوالي ثلاث سنوات، وأخوه فؤاد حسّان (طبيب أطفال)، وقد دأب هذان الطبيبان على معالجة العرب دون أن يتقاضيا أجراً على ذلك، بناءً على وصيَّة والدهما. وفي عيادتهما، كنّا نرى الآيات القرآنيَّة معلَّقة إلى جانب صليب خشبيٍّ، أو تمثالاً للعذراء بجانب صورةٍ للكعبة المشرَّفة.
ومن العائلة حسّان، هناك موسى حسّان، وهو صحفي معروف بانتمائه للجبهة الساندينيَّة، ثمَّ بمعارضته الشديدة لسياسة الرئيس الحالي دانييل أورتيغا.
أمّا أخوهم عمر حسّان، فقد استشهد على أيدي قوّات الدكتاتور سيموسا، في الثلاثين من عمره.
وكان والدهم موسى أحمد حسّان، قد وصل نيكاراغوا في ثلاثينيَّات القرن الماضي، وهو ينحدر من قرية جبع (قضاء رام الله).
الأتراك
دخل العرب القارَّة اللاتينيَّة بجوازات تركيّة، وكان ذلك في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين؛ ولهذا فقد أطلق عليهم اللاتينيّون لقب “الأتراك”. ولم يُفلح استقلال بلادهم وتغيير جوازاتهم التركيّة إلى أخرى عربيَّة في تغيير تلك التسمية.
مع هذا، فللكلمة عدَّة دلائل في مختلف البلدان. فإذا كانت لا تدلُّ في نيكاراغوا – حسب علمي -، إلّا على العربي، فإنَّها تستخدم في الهندوراس للشتيمة. وربّما كان السبب في ذلك، هو تسلّم الأحزاب اليمينيّة للسلطة في الهندوراس لفترات طويلة، ومن المعروف أنّها لم تكن إلى جانب القضايا العربيَّة. بل إنَّها صنَّفت العرب مواطنين من الدرجة الثانية عام 1950. التحق معظم العرب بالحزب اليساري، وحاربوا الرئيس خوليو لوسانو دياس. وفي العام 1998، نجح كارلوس فلورس فقوسة في الانتخابات الرئاسية ليكون أول رئيس هندوراسي من أصل فلسطيني يحكم البلاد.
وفي السلفادور التي زرتها عام 2011، والتقيت بها أفراداً من الجالية العربيّة، أخبروني إنه وحتى عام 1930، كان القانون يمنع دخول العربي والأسود والصيني إلى السّلفادور، ومع تغيُّر القانون فيما بعد إلَّا أن النَّظرة العنصريَّة لم تنتهِ عند الكثيرين منهم، لكنَّ الجالية الفلسطينيَّة تمكَّنت من إنشاء نادٍ عربيٍّ لها، وأطلقت عليه اسم “العربي”، بعدما كانت تلك التسمية ممنوعة، بسبب سيطرة الكثير من أبنائها على مراكز اقتصاديَّة وسياسيَّة مهمَّة.
لكنَّ الأتراك في كوبا في المقابل، لم يتعرَّضوا أبداً لأيِّ نوعٍ من أنواع العنصريَّة حتّى في زمن الدكتاتور باتيسا. لكنَّهم ليسوا فقط أتراكاً، بل مورو، نسبة إلى الموريسكيِّين، أو البولنديين، إذ خلط الكوبيّون بينهم وبين اليهود البولنديين الذي هاجروا إلى كوبا بعد الحرب العالميَّة الثانية.
الرحلة والأسماء
معظم العرب الذين هاجروا إلى القارَّة اللاتينيَّة كانوا يظنُّون أنَّ عالماً أكثر جمالاً وعدلاً بانتظارهم. فالمسيحيَّون العرب فرّوا من عنصريَّة الدولة العثمانية أواخر القرن التاسع عشر وكذلك إخوانهم من المسلمين الذين عاشوا ظروفاً صعبة خلال حكمها، ثمَّ توالت المآسي باستعمار أوروبيٍّ جديد شمل معظم البلاد العربيَّة. حدَّثني المهاجرون هنا في نيكاراغوا، كيف أنَّ أجدادهم كانوا يعتقدون حين ركبوا السفينة أنَّهم ذاهبون إلى أميركا الشماليَّة، وأنَّ كثيراً منهم صُدم حين رأى ميناء كورينتو في نيكارغوا، كيف كان مهملاً وفي حالةٍ مزرية، في حين كانت في مخيِّلتهم مدنٌ خياليّة مثل نيويورك.
وفي السلفادور أخبرتني سيدة من أصل فلسطيني كيف أنَّ عائلتها كانت تنوي السفر إلى تشيلي لكنَّ السفينة توقَّفت في السلفادور، فغادرت العائلة السفينة للتنزه قليلا، ولما عادت إلى الميناء لمواصلة الرحلة كانت السفينة قد غادرت.
أمّا في كوستاريكا التي زرتها عام 2010، فقد أخبرني بعض العرب ذوي الأصول اللبنانيَّة أنَّ أجدادهم وصلوها على شكل موجات متتابعة بدءاً من العام 1887، وانخرطوا في الحياة الثقافية والاقتصادية والصّناعية، وكذلك الحال في باقي دول أميركا اللاتينيّة.
ومن اللافت للنَّظر، أنَّ أسماء العائلات العربيَّة في القارَّة اللاتينيَّة قد تغيَّر معظمها ليناسب طريقة النطق باللغة الإسبانيَّة. فاسما خليل أو جورج تحوَّلا إلى خورخه، ومثقال أصبح ميغيل وسمعان أصبح سيمان.
وفي كوبا التي زرتها في يناير 2015، التقيت أفراداً من عائلة “ديريتشي”، أخبروني أنَّ أصل اسم العائلة هو “درويش”. وبعض العرب مثل صالح باسيل، وهو مهاجر فلسطيني، أقام في نيكاراغوا، فقد غيَّر اسمه إلى أنطونيو مرقص باسيل، كي لا يبدو غريباً في المكان الجديد الذي ارتحل إليه.
وثمَّةَ قصَّةٌ طريفةٌ يرويها العرب هنا في نيكاراغوا، لأنَّهم كثيراً ما يتذكّرونها حين يزورون مدينة ماسايا (إحدى مدن نيكاراغوا الرئيسية)، وهي عن المهاجر الفلسطيني عبدالله أبوسرِّيَّة الذي كان خلال تجواله في قرى ماسايا يقيم علاقات مع فتياتها مقابل قطعة من القماش. تلك العلاقات التي أثمرت عن ستين ابنا وابنة من نساء مختلفات. على أيّ حال، لم ألتق أحدا من أحفاده الذين يملأون ماسايا إلا وكان فخورا بأصله العربي حتى لو لم يعرف عن جده سوى اسمه فقط ومغامراته النسائية.
الاستحمام
انزعجت في بداية وصولي وإلى حدِّ الآن من تسمية العرب للنيكاراغويِّين بـ”هنود”. هذه التسمية ليست جديدة وهي نتيجة خطأ كريستوفر كولومبوس الذي اعتقد أنَّه وصل جزر الهند الغربيَّة.
لكنَّ العربيَّ لا يُسمِّيهم بهذا الاسم فقط بسب خطأ كولومبوس، بل تحمل اللفظة حين نطقها تحقيراً وتصغيراً لأهل البلاد. وأنا هنا لا أعمِّم، بل هناك الكثير ممَّن يدين للبلاد وأهلها بتحسين معيشته ويعترف بفضل البلاد التي فتحت له أبوابها ولم تعامل العرب بعنصريَّةٍ أبداً.
لا أنكر أنَّ هناك عقدة الرجل الأبيض التي أراها متوّجة في بعض المواقف هنا، فرغم أنَّ أهل نيكاراغوا غاية في البساطة، والتفاني في الخدمة (مع وجود استثناءات)، إلّا أنَّ بعض العرب من الرجال والنساء لكن أخص النساء أكثر يبدون قرفهم من طعام أهل البلاد، ولو ذهبوا لأوروبا وذاقوا طعامهم لبالغوا في مدحه. ثمَّة نظرة استعلاء من قبل بعض العرب على هذه الشعوب، لكنَّ الأجيال العربية التي ولدت فيها تخلَّصت تماماً من تلك النظرة وتعتبر نفسها نيكاراغوية كما هي عربيَّة.
وفي بعض المناطق السياحيّة المعروف أنَّ الأجانب الأوروبيين أو الأميركان يرتادونها أكثر من أهل البلاد، -بسبب الحالة الماديّة طبعاً -، ترى العرب يمدحونها بقولهم “كلّها سيّاح أجانب”، وإذا ما لاحظوا أنَّ النيكاراغويين بدأووا بارتياد المكان، انزعجوا وتذمَّروا.
والمفارقة في الأمر، أنَّ تصنّع القرف والتقزّز من هذه الشعوب أمرٌ مستنكرٌ تماماً بالنسبة إليّ، ببساطة، لأنَّ النيكاراغوي هو الشخص الذي يستحم يوميّاً بمجرَّد أن يستيقظ، وهو الذي يستخدم مزيل رائحة العرق قبل خروجه من المنزل، وهو الذي يقلّم أظافره باستمرار، وهو الذي يستأذنك إن أراد لمس طفلك، وهو الذي يغسل يديه قبل لمس الطفل، ويستأذنك في تقبيله، وهو الشخص الذي إن كان عتّالاً في مستودع، ارتدى قميصه بالعكس بمجرّد وصوله، لكي يبدو القميص نظيفاً حين عودته إلى بيته ومشيه في الشارع، إذ يعود في آخر النهار ليرتديه بشكله الطبيعي.
أجد نفسي هنا مسؤولة أن أتحدَّث عن هذا الجانب علناً في هذا الكتاب، حيث لا أستطيع التعبير عن ذلك صراحةً أمام الجالية هنا، كي لا يُفهم أنّني أنتقد شخصاً بعينه، إذ أنَّني أنتقد عدّة حالات دون أن أعمَّمها. لقد وصل بعض العرب هنا، وبدأوا يعملون مباشرةً في التجارة، وتحسَّنت تجارتهم، لكنَّ النيكاراغويِّين إلى حدِّ الآن وخصوصاً العاملات في البيوت اللاتي شهدن على ذلك، لا ينسون أنَّ هؤلاء الأشخاص كانوا يستحمّون مرّة أو اثنتين أسبوعيّاً في هذا البلد الحار، أو يهملون قصَّ أظافرهم.
وأكرِّر أنَّ تلك الحالات منفردة، لكنّها موجودة على أيِّ الأحوال، وهي تذكّرني بكتابٍ قرأتهُ منذ زمن للكواكبي عن طبائع الاستبداد، وكيف يتحوّل الناس لمُستبدِّين صغار في بلدٍ يعاني من الاستبداد. فالعربي والنيكارغوي يعاملهم الغرب معاملة العالم الثالث أي العالم الأدنى، ثمَّ نجد – للأسف -، من يتعامل بهذا الأسلوب مع غيره ممَّن يشعر أنَّهم أدنى منه.
لا أعرف طبيعة النظافة الشخصيَّة في بلدان أوروبا، لكنّني قضيت سنةً دراسيَّة في فرنسا وكنت أعيش في سكنٍ مختلط، به عدّة جنسيّات من ذكورٍ وإناث. هناك، لم أجد من زملائي –دون تعميم – ما وجدته من نظافة شخصيّة هنا؛ فقد كان المطبخ مشتركاً وكذلك الحمّام، وكنت أرى بعض الطلّاب يدخلون الحمّام ويخرجون منه دون المرور على المغسلة ثم يتّجهون مباشرة إلى المطبخ ويباشرون طهو الطّعام دون غسل أيديهم. هذا المشهد، سيكون من النادر فعلاً أن أراه هنا. وأنا في هذا الكتاب – كما ذكرت سابقاً -، أدوّنُ ما شاهدته أو سمعته ولا أذكره كحقيقة لا تقبل الجدل.
وفي رحلتي القصيرة للهندوراس في مارس 2014، حيث دُعيت إلى الجامعة التطبيقية في العاصمة تيغوسيغالبا لقراءة قصائد الشاعر رولاندو قطَّان، (وهو شاعر هندوراسي من أصل فلسطيني)، في تلك الرحلة، تحدَّثنا عن هذا الموضوع، وكان هناك أساتذة في الأدب الإسباني، وأخبرني أحدهم أنَّه تلقَّى دعوة من إحدى جامعات الولايات المتحدة للحديث عن الأدب اللاتيني، وأنَّهم أعطوه سكناً مشتركاً، وعندما لاحظ أنَّه الوحيد الذي يستحمُّ يوميّاً، سأل أحدهم عن ذلك، فأجابه: لسنا في حاجة للاستحمام يوميّاً لأنّنا نظيفون في الأصل.
جوهانا
حين دخلت بيتي في مناغوا للمرة الأولى عام 2004، استقبلتني جوهانا – (مواليد 1976) – ببرود وحياديّة، فجوهانا معروفة بشخصيّتها الحادَّة، لكن بأمانتها وبشخصها الثقة.
عملت جوهانا منذ الصغر في الأعمال المنزليّة، وكانت ترافق والدتها لبيت أحد الأقرباء العرب، ولذلك فهي على علم بتاريخ العائلة. وقد كانت تعمل عند عربيٍّ آخر سافرت عائلته واستقرّت في فلسطين، وقبل ذلك عملت لبعض الشباب غير المتزوجين ومنهم زوجي إلى أن تزوّج واستقرَّت معنا منذ زواجنا إلى حدّ الآن.
يُقال إنَّه لا يوجد أسرار في مناغوا، والحقيقة ألّا أسرار في نيكاراغوا؛ فالناس هنا يتناقلون الكلام وينقلون الأحداث أوّلاً بأوَّل، جوهانا هي واحدةٌ من هؤلاء الناس الذين يعرفون الكثير مما يدور سواء في الضوء أو العتمة، أمّا لماذا، فلأنّ بإمكانها تكوين صداقات وكسب ثقة الآخرين في دقائق. على كلِّ حال، الأخبار هنا تتناقل دون الحاجة إلى ثقة ومعرفة بالناس، فما أن يظفر أحدهم بأيِّ خبرٍ بسيط، حتّى ينشره بسرعة البرق. المثال الأكبر على ذلك هو القنوات التلفزيونيَّة التي تنقل المشاكل التي تدور بين الناس في الشارع. وليس بالأمر العجيب في نيكاراغوا أن يتصدَّر الأخبار الرئيسيَّة خبر عراك قام بين تاجريْن تُركيَّيْن (عربيَّين)، أو خبر الحذاء الذي اشترته سيِّدة من تاجر عربيٍّ ثمَّ عادت لاستبداله لكن وهي ترتديه، وحين رفض التاجر استبداله لأنَّها قد استخدمته، اتَّصلت بالتلفاز الذي جاء فوراً، وأصبح الخبر مثار جدلٍ في الشارع وحصل الحذاء على شهرةٍ في مناغوا كشهرة حذاء ساندريلا.
تعلَّمتُ كثيراً من الإسبانيَّة من خلال حديثي مع جوهانا، فقد كانت هي الشخص الوحيد الذي أقضي معه ساعات طوال، وحين التحقتُ بالجامعة الوطنية المستقلّة في مناغوا لدراسة الماجستير، تعرَّضت لعدّة مواقف محرجة وأنا أشرح في الفصل بكلماتٍ عاميَّة لا يُمكن استخدامها في وسط أكاديمي.
جوهانا كانت نافذتي على عالم نيكاراغوا الحقيقي، فمعظم النساء هنا يُشبهن جوهانا من ناحية الظروف والمستوى التعليمي والوضع الاجتماعي والاقتصادي والأيديولوجي.
في عيد الأموات مثلاً، كانت تذهب إلى المقبرة لزيارة جدَّتها وفي اليوم التالي كانت تحدّثني كيف سمعت صوتها وهي تتنهَّد، وكيف أنَّ قريبتها سمعت صوت والدتها وهي تُنادي عليها.
أظنُّ أنَّ شكلي المصدوم من أقاويلها كان يستهويها، ولذلك كانت تُسهب في شرحها. أمّا إذا استوقفتها وناقشتها في عقلانيَّة ما تقول، فقد كانت تتَّهمني بالسذاجة والحماقة، وأنَّني لا أعرف شيئاً ممّا يجري حولي.
وحينما كان زوجها يحتضر، كانت تتغيّب عن المنزل كثيراً حتّى توفّي بمرض السرطان، وأنا أواسيها قالت لي إنّها حذَّرته قبل أن يموت من أن يأتيَها في أحلامها لأنَّها لا تريد رؤية الأموات في المنام، وتودُّ أن تكمل حياتها بشكلٍ طبيعيٍّ.
وحين هممتُ بحلق رأس ابني قبل أن يتمَّ العامَّ الأوّل من عمره، قالت لي بلهجةٍ محذّرة إنَّ نطقه سيتأخّر كثيراً إذا ما حلقت له شعره في هذا العمر.
أمّا أيّام المطر فقد كانت تخبرني أنَّ الضفادع والسلاحف تنزل من السماء مع المطر، وليس لي أبداً أن أستنكر كلامها لأنَّها تصرُّ على أنَّ الضفادع لا تأتي إلّا مع المطر. وكنت قد قرأت مرّة عن مدينةٍ في الهندوراس تسقط عليها الأسماك مع المطر بسبب العواصف الشديدة التي تجرُّ معها السمك إلى الأرض. وحين أقدّم لها تفسيراً علميّاً لظهور الضفادع وسماع نقيقها وقت سقوط الأمطار بسبب العواصف والرياح الشديدة التي تنقلها من مكانٍ إلى آخر، تهزُّ رأسها بغير اقتناع وكأنَّ رواية سقوط الضفادع مع المطر تبدو مثيرةً أكثر.
ولأنَّ يوم الأحد عطلتها الرسميّة، فإنَّ يوم الاثنين هو اليوم الذي تحكي لي فيه أكثر عن أحداث الحارة الصغيرة التي تسكنها، ومن ضمن الحكايات، كانت قصة الإنسان الذي يتحوّل قرداً في الليل.
تفتح جوهانا عينيها على اتساعهما، وتحلف بالعذراء أنّها شاهدت رجلاً معروفاً في حارتهم باحترافه السرقة، لكنّه في الليل يتحوّل إلى قردٍ يمتلئ جسده بالشعر وينمو له ذيل ويقفز من بيتٍ إلى آخر، وأنّها شاهدته بأمِّ عينها وهو يمشي على أحد أسقف البيوت، وكان ذيله واضحاً، لكنَّ أحداً لا يملك دليلاً ضدَّ الرجل الذي يتحوّل قرداً لأنّه يغيّر هيئته. أقول لها ربّما هو متنكّرٌ بزيِّ قردٍ ليخيف الناس أوّلاً ولا يتعرّفون إليه، فتكون إجابتها جاهزة، وهي أنَّ هذا الرجل يقوم بأعمال سحرٍ تحيلهُ قرداً ليتمكّن من أعمال السرقة، وتتابع أنّه ليس الوحيد الذي يمارس السحر من أجل السرقة، بل إنَّ هناك امرأةً قصيرة القامة يلجأ إليها الناس إذا ما يئسوا من علاج الأطباء، لكنَّ الأخيرة تتحوّل ليلاً إلى دجاجة، وأنّ بيتها مليءٌ بالدجاج الذي تسرقه من بيوت الناس في الليل.
وفي المكسيك وغواتيمالا – اللتيْن سآتي على ذكرهما لاحقاً -، سمعت أنَّ الناوال هو الشخص الذي يستطيع التحوُّل إلى حيوان، ويقوم بذلك مستخدماً السحر.
وبالعودة لجوهانا، فقد حدث مرَّة أن احتجتُ إلى عاملةٍ أخرى في البيت، لأنّني كنت أعملُ نهاراً ولم تكن جوهانا لترضى بتحمّل أعباء البيت وحدها، فاتّفقت مع عاملةٍ ترجع أصولها للأفريقيين الذين أحضرهم الإسبان كعبيد ومعظمهم يسكن الكوستا أتلانتيكا، وهي منطقة مطلّة على الساحل لكنّها تبعد 10 ساعات برّاً عن مناغوا، وأهلها يتحدّثون لغةً هي خليط ما بين الإسبانيّة والإنجليزيّة، ويسمُّون بالـ”ميسكيتو”.
كنت أرى أنّ جوهانا – ذات الطبيعة الحادّة -، لا تعجبها العاملة الجديدة، وتحاول تطفيشها بكلِّ الوسائل، حتّى تمكّنت من ذلك في يومٍ ما، حين جاءت لي بزجاجةٍ صغيرةٍ جدّاً وبها عصفور ميّت، والزجاجة مليئة برائحة غريبة وقويّة ونفّاذة، قالت لي: هذه المرأة تتعامل بالسحر، وإنَّ العصفور الذي في الزجاجة هو طائر الماكوا الذي يُستخدم في السحر لإنجاح علاقة حب. كانت جوهانا قد طلبت من العاملة الجديدة الذهاب إلى البقالة، وما إن انصرفت حتّى فتحت حقيبتها وفتّشتها ووجدت ما تريد تماماً، وحين أنَّبتُها على فعلتها، وبّختني بأنّني لا أعرف مصلحة ابني الصغير الذي بكى طوال الأمس بسبب هذه الرائحة القويّة التي تُصيب الكبير قبل الصغير بصداع.
ويعتقد الناس في نيكارغوا من مختلف المستويات الاجتماعيَّة أنَّ طائر الماكوا، – وهو أحد أنواع السنونو -، يبني عشَّهُ على رؤوس الجبال والأشجار العالية، مما يُتيح له امتصاص الطاقة الإيجابيَّة في الكون، ولذا فإن عطر الماكوا يثير الشهوة، وإن وضعه الشخص فإنه يغوي الجنس الآخر بسهولة.
ويعتقدون أنَّ هذا الطائر رمزٌ إيروتيكي يتجسَّد في الرجل والمرأة، وجناحاه العريضان يجمعان الكون، ويرمزان لضمّ المتحابّين، كما يرمز تغريده للإغراء. ولذا، فالناس يعتقدون أنَّ الشخص الذي يمسك به تتحقَّق رغباته. وعليهم أن يصرِّحوا برغباتهم قبل أن يقتلوه، ثمّ يشربون شراباً مختلطاً بشيءٍ من عشِّه.
شوربة إحياء الأموات
ستختلف عليَّ الكثير من الأمور، ومن بينها المأكل. حدَّثتني الشاعرة سعاد مرقص فريج (مواليد 1946)، أنَّ جدَّتها بكت، حين وصلت السفينة بها إلى نيكاراغوا وطلبت طعاماً فأحضر لها زوجها خبز الذرة مع قطعة جبن. بكت حينها لأنَّها لم تُعجَب بطعم خبز الذرة وكانت تنتظر رغيفاً كبيراً من الخبز الذي اعتادت عليه في بلادها، غير أنَّ هذه الوجبة بالذات أصبحت عشاءها اليوميَّ باقي حياتها، ولم تكن لتستغنيَ أبداً عن خبز الذرة. أخبرتها أنَّني لا أستغربُ ذلك، إذ أنَّني لم أتذوَّق خبز الذرة إلَّا بعد خمس سنوات من إقامتي في نيكاراغوا.
وليس غريباً أن تشمَّ خلال زيارتك إلى السوق الشعبي صباحاً، رائحة شوي لحم ودجاج، إذ يعتبر اللحم خصوصاً أحد عناصر الإفطار الأساسيَّة، وذلك يتوقَّف على عمل الأشخاص، وعلى قدرتهم الماديَّة، لكنَّ أغلب أصحاب الحرف التي تتطلَّبُ جهداً جسديّاً يتناولونه صباحاً.
الطبق الرئيسي في نيكاراغوا، والذي من الممكن أن يتناوله النيكاراغويون في وجباتهم الثلاث، هو طبق الـ “غايّو بينتو”، وهو عبارة عن أرز وفاصوليا حمراء وبصل، وأنا أجده قريبا جدّاً لطبقٍ عربي هو المجدَّرة.
في كوبا، هناك طبق شبيه به إلّا أنَّ الفاصوليا سوداء، لكنَّ الاسم الذي يطلقونه عليه هو “أرز مورو”، ومن المعروف أنَّ مورو تعني عربي، أو “أسمر”.
أمَّا الطبق المنتشر في الكثيرٍ من بلدان القارّة فله اسمٌ ظريف هو “إيقاظ الأموات”، وهو حساءٌ مكوَّنٌ من قطع من حيوانٍ زاحف هو (الحرذون)، وخضار وتوابل، يتناوله الناس صباحاً وخصوصاً إذا كانوا قد أكثروا من شرب الكحول ليلاً، إذا يُقال إنَّ هذا الطبق يُساعد في مدِّهم بالطاقة اللازمة.
وتبقى الذرة هي العامل المشترك في الكثيرٍ من الأطباق الرئيسيّة، ولذلك نجد في معظم المتاحف آلهةً للذرة معروضة في أركانها، إذ كانت الشعوب الأصليَّة وما زالت تقدِّسُ الذرة التي هي عماد حياتهم.
عيد الأموات
في الأول من نوفمبر من عام 2004، أمطرت السماء في غير موسم المطر. وستكون السماء أكثر كرماً في ذلك التاريخ من كلَّ عام، إذ لا تُخلف السماء وعدها بإنزال المطر منذ وصلتُ نيكاراغوا، في هذا اليوم أبداً.
إنّهُ عيد الأموات الذي يحتفي به اللاتينيون بعيداً عن اللون الأسود، وعن النحيب والعويل والبكاء، والتكدر والنكد.
فعيد الموتى في هذه القارة الملوّنة، هو فرصة للتقرب من الأموات والاحتفاء معهم بالحياة، وقد توارث أبناء القارة طقوس الاحتفالات عبر السنين من أسلافهم، فهم يعتقدون بأن إحياء هذين اليومين يمكِّنهم من الاجتماع بموتاهم من جديد.
ترجع أصول الاحتفال بهذا العيد إلى ثقافة السكان الأصليين القديمة، من أزتيك ومايا وبوريبيتشاس وناهوا وتوتوناكس، فخلال ثلاثة آلاف عام كانوا يقومون بطقوس معينة مخصصة لأسلافهم في هذا التاريخ. وكانت هذه الطقوس ترمز إلى الموت والبعث الذي كان في فترة ما قبل الغزو يتمثل بجماجم الموتى. وكانت الآلهة ميكتيكاوسيلواتل المعروفة بـ”سيدة الموت”، تترأس هذه الاحتفالات التي خصصت للأطفال والأقارب المتوفين.
ولأن تلك الاحتفالات تحوي كثيراً من الهرطقات والممارسات الوثنية التي كانت تثير الخوف لدى الإسبان الغزاة في القرن الخامس عشر فقد غيروا تاريخ الاحتفال بها في محاولتهم تحويل دين السكان للمسيحية إلى بداية شهر نوفمبر الذي يتزامن مع الاحتفالات الكاثوليكية بعيد جميع القديسين وجميع الأرواح الذي يوافق الـ31 من أكتوبر من كلِّ عام.
تقام الاحتفالات في يومين، هما الأول والثاني من نوفمبر. يعتقد الناس أن اليوم الأول هو لعودة أرواح الأطفال إلى الحياة، بينما يعود البالغون إليها في اليوم الثاني. وعلى مدار هذين اليومين، يتبع الناس طقوساً معينة تتمثل بتزيين المقابر والأضرحة بالأزهار والورود وإشعال الشموع والتحلّق حول قبر الميت.
جماجم بشرية مرسوم على وجهها ضحكات ساخرة وموسومة جبهاتها بأسماء الموتى أو الأحياء من باب الفكاهة، يصنعها السكان ويتبادلونها بينهم كهدايا. التجار في هذا اليوم، يتنافسون في بيع مجسّمات الجماجم، التي تشترى جاهزة أو يعدِّها السكان بأنفسهم.
في عيد الموتى ليس للحزن مكان، مجسمات الهياكل العظمية تبدو مضحكة وليست مرعبة. الحلويات والسكاكر تصنع وتوزع على الأطفال الذين يجدون في هذا اليوم فرصة للفرح ويكبرون وفي رأسهم فكرة ممتعة عن الموت.
وبالرغم من أن المصادر تشير إلى أن المكسيك هي أول البلدان التي احتفلت به، إلا أن هذا العيد منتشر في معظم بلدان أميركا اللاتينية، وإن كانت طقوسه تختلف من بلد إلى آخر.
وبداية ننطلق من المكسيك، فبسبب قربها من الولايات المتحدة، أصبحت المدينة تحتفل أيضا بعيد الهالوين الذي سرعان ما تحول إلى عيدٍ شعبيٍّ، مع احتفاظ عيد الموتى بمكانته كواحد من أهم الأعياد التي يحتفل بها المكسيكيون، وخصوصا في القرى والمدن الأصغر التي تتبع التقاليد بالاحتفاء به مع لمسات حداثية طفيفة.
في المدن والقرى المكسيكية، يتبع السكان المحليُّون تقاليد معينة، فهم يتوجهون إلى المقابر، يزيّنونها، مستخدمين زهور السيمبازوتشيتلي، برتقالية اللون. وفي كل بيت ينصبون مذبحاً، يضعون به صور من غادروا الحياة، ويحيطونه بالأطعمة والمشروبات لأنهم يعتقدون أنَّ أمواتهم سوف يأتون ليلاً ليشمُّوا روائح طعامهم وشرابهم المفضَّل في حياتهم الدنيوية.
وإضافةً إلى تلك الطقوس، يُصنع خبز يسمى “خبز الموت”، يتذوق منه الجميع ساعة العشاء. ومن المألوف أن تُعدَّ الحلويات والسكاكر على شكل جماجمَ تهدى للأصدقاء، وعلى جباه الجماجم يكتبون اسم الصديق. فالجماجم إذن هي جزء من الهدايا، أحيانا قد يخط عليها أبيات من الشعر تروي بطريقة مضحكة مشاهد لقاء الموت مع الأصدقاء أو مع السياسيين.
في ولاية تشياباس المكسيكية، مقبرة شهيرة تقام فيها الاحتفالات بعيد الموتى، وهي مقبرة رومييرو، التي تقع على تلَّة. أغلب زوار المقبرة هم من شعب التسوتسيل مايا، الذين يسكنون منطقة الشامولا. تنصب في المقبرة صلبانٌ ارتفاع الواحد منها يبلغ الخمسة أمتار، وهي صلبانٌ لا يعود أصلها إلى الديانة المسيحية، بل لفترة ما قبل الغزو، حيث تمثِّل هذه الصلبان شجرة الحياة، والحياة ذاتها بفروعها في مستويات السماء الثلاث عشرة، وجذورها تمثل المستويات الثلاث عشرة للآخرة، ولهذا فالصلبان مدهونة بلون فيروزي هو لون الحياة. الصلبان تواجه الشمس، لتبدو الأزهار باللون البرتقالي الجميل عند ظهور أول خيوط الشمس.
ولاعتقادهم بأن الميت يعود ليلاً إلى بيته، فإنهم يهيؤون له طريقاً هو عبارة عن ممر زُيِّن جانباه بنبات الصنوبر ويضاء بالشموع، كي يستدل الأموات على بيوتهم ليلا.
ومن الأغاني التي يغنيها السكان الأصليون في ذلك اليوم: الآباء الميتون/الأمهات الميتات/أرخوا قسمات وجوهكم/افتحوا أعينكم/تعالوا كي تستريح قلوبكم/تعالوا كي يستريح دمكم/ها قد جاء عيدكم/تعالوا تناولوا طعامكم/تعالوا أضيئوا طريقكم/لنذهب إلى بيتنا/لنأكل معاً/ لنشرب الماء سويّاً/ها قد أكلتم شيئاً قليلاً/قِطعاً صغيرة/مشروب الذرة/خبز الذرة/وشربتم جرعات من الجعة/كي تبقى أعينكم مفتوحة/فلن نرى بعضنا بعد الآن/لقد مضى الوقت الذي كنا نأكل فيه معاً/على مفرش الأرض.
في غواتيمالا، يعتقد السكان الأصليون أن الأرواح الطيِّبة تخرج من مقابرها وتظهر في أماكن معيّنة. ولهذا فإنهم ينصبون مذبحا لميّتهم في البيت، ويتركون به كأساً من المياه وشمعة وصورة فوتوغرافية. وقبل الاحتفال بأيام، يزينون المقابر وينظفونها. ومن العادات المتوارثة أن تُزيّن المقابر بوردة تسمى زهرة الموت. وهذه لونها أصفر، وهي تنبت في هذا الوقت من السنة. أما أشجار السرو فيزينون بها المنازل وأماكن اجتماعهم لإحياء الاحتفالات العائلية والحميمية الخاصة التي لا بد أن تحوي مأدبة كبيرة.
الكثير من السكان يقولون إنهم في ذلك اليوم يرون أرواح أمواتهم ويسمعون أصواتا غريبة تدل على وجودهم.
في المناطق الريفية في البيرو، يعتقد البيروفيُّون أنَّ الميت يعود إلى الحياة كي يستمتع بالمذبح المجهز له داخل البيت، والمحاط بعدة أشياء كان يحبُّها في حياته. في المذبح توضع صورة له، شموع وأزهار يحملونها في اليوم التالي إلى المقبرة. أما الهدايا فتكون من المأكولات التي يحبُّها الميت أو أيّ شيء كان مُهما له في حياته. والعادة أن تبقى الأعطيات طوال الليل بجانب القبر، كي يتمكن الميت من الاستمتاع بها وحده. وفي اليوم التالي، يقيمون صلاةً عليها، وعند الانتهاء منها تجتمع العائلة لتناول العشاء سويا. بفرح وسرور، يلتقي أهل المتوفى في المقبرة، ثم ينتقلون إلى بيته، يتناولون القهوة سويا، فيما تدور أحاديثهم حول المواقف الجميلة والفرحة في حياة الميت.
في الهندوراس وكوستاريكا وكولومبيا، يأخذ هذا اليوم شكلاً دينيا، إذ يحمل الناس أكاليل وسعفا لتزيين القبور وتكريم الموتى. لكنَّ الصلاة تقام في الكنائس.
في الإكوادور، يقام احتفال حقيقي، تجتمع فيه العائلة. يجهّز الناس الأطعمة التقليدية ومن ضمنها الخبز الذي يُصنع على شكل أطفال، أما بعض السكان المحليين فإنهم يقيمون المأدبة فوق القبر نفسه. فهم يعتقدون أن الميت يعود كل عام ولذا فعليهم تحضير طبقه المفضل. فلا يمدُّون أيديهم إلى الطعام إلَّا بعد فترة بسيطة، يقدِّرون فيها أن الميت تناول طعامه ثم يبدأون بالأكل. كما أنهم يحضرون أسلحة الميت أو يلعبون لعبة تعتمد على الحظ، وبناءً على نتائجها يُصدرون قرارات مهمة في حياتهم.
في نيكاراغوا، يتعامل النيكاراغويون مع هذا اليوم بصرامة أكثر، فهم يحتفلون به في المقابر، لكنهم وبدلاً من ترك الهدايا والعودة في اليوم التالي، فهم يبيتون ليلاً مع موتاهم.
في مقبرة تشيننديغا، التي تبعد 150 كيلومترا عن مناغوا، هناك قبران مهملان، قبران لا ألوان لهما، قبران وحيدان وغريبان وموحشان، محاطان بالقاذورات، هما لعربيّان هاجرا من فلسطين إلى نيكاراغوا، مروراً بكولومبيا، أحدهما امتطى بغلاً من كولومبيا حتى وصل نيكاراغوا منهكا من التعب والمرض، فمات فورا ودفن فيها، والثاني عاش بها أعواما دون أن يحظى بعائلة. لا ورود على قبريهما في عيد الموتى. لا أمطار تصل القبرين. الورود والأزهار والبهجة والألوان الفاقعة هي من نصيب أولئك الذين آمنوا بها في حياتهم.
الموت رحلة مع الأسلاف
كلُّ الأشياء التي رأيتها وسمعتها وقرأتها عن الموت لدى هذه الشعوب تختلف عن رؤيتنا له. أعتقد أنّ الموت في ثقافتنا يوحي بالخوف والرعب، أو على الأقلّ هكذا تربيَّـت. مرَّة زرت محلَّ الأقمشة الذي يعمل به زوجي، ولاقتني امرأةٌ في الخمسين من العمر، اسمها تيريسا، وهي – كغيرها من النساء -، لا تهتم بتقدّم العمر، وتحرص دوماً على الظهور بشكلٍ أنيق رغم دخلها المنخفض. قيل لي بعد تلك الزيارة، إنَّ لتيريسا ابناً توفِّيَ قبل عامٍ أو اثنين وهو في ريعان شبابه في حادثِ سيّارة.
توقَّفت عند ذلك كثيراً، لأتأمّل كيف يبقى تأثير الموت والحزن مؤقّتاً هنا، بينما تبقى نساؤنا في حدادٍ طويل إذا مررن بظرفٍ فظيعٍ كهذا. تذكَّرتً الكثيرات ممّن فقدن أبناءهنَّ في حوادث مشابهة ولم تفلح السنين في تضميد جراحهنَّ، – وأرى أنَّ هذا أمرٌ طبيعي -، وأجد أنَّه من الصعب أن تتجاوز النسوة في بلادنا حوادث مؤلمة كهذه، وأن ينتصرن للحياة، بل كنت أراهنَّ يبكين في الأفراح لأنَّ الفقيد ليس بينهنَّ، وحين مات جدّي رحمه الله، جعلت العائلة من العيد الأوَّل بعد وفاته مناسبةً لتجديد الحداد.
وعن الموت لدى المايا، قرأت مرّة في صحيفة لا خورناذا المكسيكيَّة أنَّ تلك الشعوب تعاملت مع الموت على أنه رحلة يقوم بها الأفراد للانتقال إلى مكان آخر من الحياة. وكانت تلك الرحلة تبدأ من جنوب الأرض ومن العالم السفلي ثم تصعد إلى مكانٍ ما فوق الماء متَّجهة نحو الشمال حيث كانوا يحتفون بها، حسب ما قال المتخصِّص في أبحاث عن شعوب المايا ألفونسو موراليس كليفلاند.
في البداية، يموت الشخص “موتا رسميا”، لكن الأمر لا يتوقَّف على انقطاع النفس والدفن، بل إن ثلاثة نقوش حجرية أثبتت أن ثمة حياة تنتظر الميت، إذ يظهر فيها (النقوش) شخص مرَّ بذلك المكان وهو يمارس طقوسه، يرقص وينقش على حجر مقدَّس، بعد أن مات.
يقول كليفلاند “هذا يدلُّنا على وجود حياة أخرى، فهؤلاء الناس لم تنته حياتهم في قبورهم، بل إنهم قد تبعوا، أو دخلوا حياة مختلفة، حيث سيجتمعون مع جميع أسلافهم وأجدادهم. ولهذا فعبادة الموت لا تعني عبادة الجمجمة، بل هي عبادة الناس الذين ما زالوا على قيد الحياة في مكان ما في الشمال، ومن الممكن إعادتهم إلى الأرض وسؤالهم”.
في مواقع المايا مثل ياشيلان وُجدت نقوش تُظهر أسياداً حاكمين وكهنة يمارسون طقوساً ينزفون خلال ممارستها، ينغزون أنفسهم من أجل تقديم الدماء للأسلاف والآلهة بهدف التواصل معهم.
لقد وجد المايا طريقة لفك غموض وأسرار الموت على طريقتهم، ففي حين يردِّد الكثيرون جهلهم بما سيحدث بعد الموت، لأنَّ لا أحدا ذهب إليه وعاد ليقص الحكايا، تجد أن ذلك الشعب يستدعي أسلافه ويسألهم عن الرحلة التي قاموا بها. فها هي امرأة تظهر في رسم جداري يتضح أنها زوجة أحد الأسياد الرئيسيين في هذا المكان، نرى حبلا شوكيّاَ يمرُّ من خلال ثقب في لسانها، دون أن تسمح طريقة تمريره بتدفق الدم ولا بتجلّطه. نراها في مشهد آخر من النقش وهي تحرق الحبل مع ورق اللحاء، ومن الدخان المتصاعد يتشكَّل ثعبانان، كأنهما طيفان يظهران في خطمها. يعني الطيف الأول ظهور إله الحرب، أما الثاني فهو شكل أحد أجداد السيدة، وبهذه الطريقة، يتم استدعاء وجلب الأسلاف – الذين مروا بتلك الحياة واستطاعوا الاجتماع بالعائلة -، إلى عالمنا.
أما رجالهم، فقد كانوا يثقبون أعضاءهم الخاصة، مستخدمين إبرا من زجاج بركاني أو من شوكة المانتارايا، ويتبعون ذلك بترتيل تعويذة تسمح بعودة الأسلاف من أجل سؤالهم.
في وقتنا الحاضر، تؤمن الجماعات التي تنحدر من أصول المايا، (كاللاكاندونيين الذين يعيشون على الحدود المكسيكية الغواتيمالية، وخصوصا في ولاية تشياباس)، أن أمواتهم ليسوا سوى نجوم، أناس تراهم يدخنون السيجار ولذلك فهم يلمعون. إنهم ببساطة يعتقدون أنهم ما زالوا على قيد الحياة، في رحلة مع الأسلاف.
كليفلاند علَّق على ذلك قائلا “وخلاصة القول إنَّ لديهم فصلاً بين الحياة المادية والملموسة والقابلة للقياس وبين ما هو تام، أي بين ما هو غير ملموس”.
ثمَّة مفهومٌ فلسفيٌّ عميقٌ للموت عند المايا نجده في طريقة الدفن وهو مستوحى من الأرض والطبيعة الزراعية التي اشتهرت بها تلك الشعوب، التي اعتبرت الذرة نباتاً مقدَّسا. فعند زراعة بذور الذرة فإنها تمتصُّ المياه وتبدأ في النمو، أي أنها تبدأ حياة جديدة من خلال تشكيل أنبوب، وهذا الأنبوب سيكون النبتة الجديدة التي تنتج الثمرة. ولهذا فشعوب المايا تُسمِّي الخليفة أو الوارث للعرش بالـ”تشوك” وهي ذات الكلمة التي يستخدمونها للبرعم أو الفسيل.
فالبذرة هي شيء ميت، لكنها تعطي حياة، ولهذا نجد تمثالا لـ”باكال” بتنورة تحمل نبات الذرة وشكل العاصفة رمزا لاجتماع الماء مع البذور ومنحهما استمرارية الحياة.
لننتقل مع كليفلاند إلى قبر الحاكم “باكال” وتابوته في المنطقة الأثرية في بالينكي المكسيكية، سنجد أنه يحوي عظامه وجلده فقط، على اعتبار أنه سيولد من جديد في خليفته.
وكما يحدث في نبات الذرة، سنكتشف أن أنبوبا يخرج من قبر باكال ويرتفع في الهرم المكسيكي ويستمر بالارتفاع حتى يصل المكان الذي يوجد به ابنه وخليفته في الحكم “كانبالام”.
احتفال سانتو دومينغو
كان ذلك في أحد أيَّام شهر أوغسطس، حين قيل لي إنَّ عليَّ ألّا أخرج من البيت لأنَّ الشوارع ستكون مغلقة بسبب مرور الـ “سانتو”، أو القدِّيس. إذ تكتظُّ شوارع العاصمة النيكاراغوية في هذا اليوم بحشود من أهالي المدينة والكثير من السيّاح الذين يحرصون على حضور الاحتفال المُسمى بعيد القديس سانتو دومينغو دي غوسمان.
ولهذا الاحتفال قصةٌ تبدأُ أحداثها في العام 1885، عندما وَجد فلّاحٌ بسيط صورةً للقدّيس في جوف شجرة في المزرعة التي يعمل بها في منطقة السييراس جنوب مناغوا، فأحضر الصورة إلى سيّده الّذي عرضها على قرويِّي المنطقة الذين بدأوا بالبحث عن هوية القديس الظاهر في الصورة، وبدورهم فقد حملوا الصورة واتجهوا إلى كنيسة بيراكروس، وهناك أخبرهم الكاهن باسمه وأنه مبشِّرٌ وواعظ عاش بين الأعوام 1170 – 1221. ترك القرويون الصورة هناك وعادوا إلى منطقة سييراس التي تبعد عشرة كيلومترات عن الكنيسة. بعد فترةٍ وجيزة حدثت المعجزة بعودة الصورة إلى تجويف الشجرة ذاتها وضياعها من الكنيسة؛ فقرر القرويُّون عندها إقامة معبد لصورة القديس في المكان الذي وُجدت به وإحضارها إلى قلب العاصمة مرّةً واحدة في العام (كي تَتَنَزّه). وتبقى الصّورة، التي حُفظت في غطاء زجاجي طيلة كل هذه الأعوام والّتي تُزّين في ذلك العيد بالورود والشموع، في قلب العاصمة لمدّة عشرة أيّام يهرع فيها الأهالي لتقديم النّذور؛ إذ يقطعون مسافة عشرة كيلومترات مشياً على الأقدام، بعضهم حفاةً وبعضهم يمشي على ركبه، وفي العاشر من أوغسطس يكتمل الاحتفال بإرجاع الصورة إلى مكانها وتعاد الطقوس مرّةً أخرى.
وبالرغم من أنّ أهالي المدينة يُصنِّفون الاحتفال بوصفه دينيّاً إلّا أنّه لا يأخذ من الكاثوليكية سوى اسم القديس فقط، إذ تبتعد طقوس الاحتفال تماماً عن الصّلاة أو الدعاء أو ما شابه، بل إنّهم يُقدّمون للقديس رقصات مختلفة ويكثرون من المشروبات الروحية أمامه ويدهنون أجسادهم بالزيت الأسود والألوان المختلفة في أجواءٍ كرنفاليّة تعكس الخلفيّة الوثنيّة التي انحدرت منها تلك الطقوس. فمن بين النّذور المقامة مثلاً أن يرقص الأهالي رقصةَ الثّور إذا ما استجاب القديس لرغباتهم.
ومن المشاهد المألوفة في المهرجان مشهد زعيم القبيلة الهندي الّذي يُزّين نفسه بالرّيش استعداداً لهذا اليوم العظيم وتُحيط به فتاتان ذواتا ملامح هنديّة يشاركانه الرّقص أمام الصورة. وتبقى الغلبةُ دوماً للطابع اللاتيني الذي يستطيع تحويل أيِّ أمر بسيطٍ إلى كرنفال راقص وملوّن بأزهى الألوان؛ فهم كما يصفون أنفسهم (يتعلّمون الرّقص قبل المشي).
يُذكر أنه وبعد تلك الحادثة أصبح القدّيس سانتو دومينغو دي غوسمان مُلَقّباً بـ”سيّد مناغوا” وعليه يُعَوّلون في حماية المدينة، بينما يحمل أهالي مدينة ليون القريبة من بركان موموتومبو تمثالاً آخر لقديسهم الخاص ويحضرونه أمام البركان إذا ما لاحظوا علامات ثورانه، وهكذا يتَّخذ معظم الأهالي صنماً خاصا بهم يُعتبر حارس المدينة في إشارةٍ واضحة إلى التّناص الذي لا زال قائماً بين معتقداتهم القديمة والدّين الجديد.
هذه القصة نموذج بسيط على كيفيَّة استغلال سذاجة الناس هنا بأبسط الأشياء. فقد كان الإسبان يضعون الصورة ويغيّرون مكانها، حتّى صدَّق الناس أنَّها معجزة.
روبن داريَّو مدفوناً بلا مخِّه
يرقد بركان موموتومبو في ليون القديمة ساكناً بعد أن هدم المدينة قبل ذلك في أزمنةٍ مضت. وقد كانت ليون مدينةً أقام بها الإسبان عند وصولهم نيكاراغوا، لكنَّ البركان تمرّد عليهم وطردهم من المدينة.
وليون مبنيّةٌ على الطراز الكولونيالي، وفي كنيستها يرقد جثمان الشاعر النيكاراغوي الذي يعتبر رائد الحداثة في الشعر الهسباني الحديث، روبن داريّو (1867 – 1916).
قابلت أفراداً من عائلة داريّو عام 2014، وما زال أحفاده جيلاً بعد جيل يحملون اسمه ويضيفون اسماً جديداً عليه لتصبح أسماءهم مركّبة، وفي أوّلها روبن داريّو.
ومن أشهر القصائد التي يحفظها الأطفال هنا، قصيدة “مارغريتا، كم هو جميلٌ البحر”، ولهذه القصيدة حكاية.
فقد كان داريّو متّكئاً على صخرةٍ في خليج كورينتو من عام 1907، حين طلبت منه الفتاة مارغريتا ديبايله (1900 – 1983)، أن يقصَّ عليها حكاية. حينها كتب داريّو قصيدته الشهيرة “مارغريتا، كم هو جميلٌ البحر”، على المروحة الورقيّة لمارغاريتا دي بايله. وهي من أجمل قصائده وأشهرها ومن أكثرها شعبية وخصوصًا لدى النيكاراغويين. ومن النادر أن تلتقي نيكاراغويّا لا يحفظ عن ظهر قلب مطلع القصيدة:
مارغريتا، كم هو جميل البحر/والريح، تحمل رائحة زهر البرتقال النّفّاذة/ أشعر بقبّرة تُغنِّي في روحي/مارغريتا، سأروي لك حكاية.
هذه الطفولة الجميلة لمارغاريتا وتخليدها في قصيدة داريّو، لم يُنقذاها من تبعات الثورة التي انتصرت في نيكاراغوا عام 1979، إذ لم تكن الصغيرة مارغريتا سوى خالة أناستاسيو سوموسا دي بايله، دكتاتور نيكارغوا الذي تمرّد عليه الثوار، فماتت مارغريتا في المنفى بالبيرو، لكنَّها عاشت أبداً في القصيدة.
وُلد روبن داريّو في مدينة ميتابا (سيوداد داريّو) حاليا، عاش طفولته مع أجداده، وتنقّل بين عدة دول في أميركا الَّلاتينيَّة ثم أوروبا حيث عمل كدبلوماسي غير مدفوع الأجر وإن كانت وظيفته الأساسيّة التي يعتاش منها والتي ساهمت إلى حد كبير في تعريفه في العالم هي عمله كصحفي في صحيفة لاناسيون الإسبانيّة.
عرف عن داريّو عبقريَّته وذكاؤه، ولهذا، وبعد وفاته عام 1916، وفي مدينة ليون انتزع طبيب من عائلة ديبايله عقله من رأسه لإجراءِ فحوصاتٍ علميّة تكشف سرّ عبقريّته، ولا يُعرف إلى حدِّ الآن أين بقي عقله المُنتَزع محفوظاً أو مدفوناً. في حين يُعَدُّ قبرهُ في كاتدرائية ليون مزارًا سياحيًّا للُّزوَّار من جميع أنحاء العالم وإلى جانبه دُفِنَ رفات ملهمته مارغريتا ديبايله، التي نُقل رفاتها من ليما-البيرو لنيكاراغوا عام 2010.
الغابة السوداء
منذ وصولي إلى نيكاراغوا، دأبت على الذهاب مع العائلة مرَّةً كلَّ عامٍ لمدينة ماتاغلبا شمال البلاد، ولا بدَّ من القول إنَّ مدن الشمال من أجمل المدن في نيكاراغوا، لأنَّها جبليّة وباردة نسبيّاً مقارنةً بالعاصمة مناغوا.
في هذه المدينة، ثمَّةَ مطعم وفندقٌ هو عبارة عن كابينات وليس فندقاً مصمَّماً على هيئة عمارة، إذ أنَّ نيكاراغوا قليلاً ما تبني مبانٍي ذات طوابق بسبب تعرُّضها المستمرِّ للهزّات الأرضيَّة.
ومع أنَّ تجديد المكان لا يليق بكثرة زائريه إلّا أنَّه مكانٌ مميَّزٌ، إذ بُنيت الكابينات به بتصميمٍ ألمانيٍّ، حسب جنسيَّة أصحاب المكان. وهؤلاء كانوا قد هاجروا منذ بدايات القرن العشرين إلى نيكاراغوا مع مجموعات أوروبية أخرى، لكنَّهم استقرّوا وأسَّسوا أعمالهم ومن ضمنها تجارة القهوة، التي تُزرع شمال البلاد في مدن ماتاغلبا وستالي وهينوتيغا وهينوتيبي، وتعتبر من أفضل أنواع القهوة في العالم، ويُصدَّر معظمها للولايات المتحدّة وأوروبا.
وبالعودة لهذا المكان، المسمّى بالغابة السوداء، فإنّهُ يتوسَّطُ الجبال التي كان يُحارب بها ثوّار الساندينيستا جيش الدكتاتور سوموسا المدعوم من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل، إذ أنَّ تلك المناطق تمتلئ بالغابات التي كانت تساعد الثوّار على التخفّي.
ومن السهل أيضاً ملاحظة أنّ الكثير من أهالي مدينتيْ ماتاغلبا وستالي، يحملون ملامح أوروبيّة أكثر من المناطق الأخرى بسبب اندماجها مع تلك المجموعات الأوروبيَّة.
من المؤسف حقّاً أنَّ هناك الكثير من المناطق الطبيعيّة الخلّابة في نيكاراغوا، بيد أنَّ الحكومة الفقيرة لم تكن تهتم بتحسينها من أجل السياحة، ولذلك يأتي مستثمرون أجانب فيقلبون المكان رأساً على عقب، ويستفيدون من مكاسب ماديّة كان أولى أن تستفيد منها الحكومة والشعب.
فنيكاراغوا هي بلد البراكين، وهذا ما يجلب لها كثيراً من السيّاح المغامرين الذين يطمحون لتسلّق البراكين الخامدة، التي يدخِّنُ بعضها من فترةٍ إلى أخرى.
الناهواتل
كنتُ أعتقد قبل وصولي إلى نيكاراغوا أنَّ أبناءها ينتمون إلى قبائل المايا، وأنَّ هناك الكثير من الآثار الشاهدة على إقامتهم الطويلة في هذه البلاد، لكنَّني تفاجأت أنَّه لا يوجد الكثير من الآثار لهذه الشعوب في هذه البلاد. فالناهواتل كانت قبائل تنحدر من المايا، لكنَّ لها لغةٌ مختلفة وإن كانت قريبةً بعض الشيء، وهذا أمرٌ طبيعيٍّ إذ هي لغات لأراضٍ متقاربة. وقبائل الناهواتل تعتبر بدائيَّة إذا ما قارنَّاها بجارتها، أي بقبائل الأزتيك التي سيطرت على أجزاء كبيرة من المكسيك وأميركا الوسطى بل وأجزاء من أميركا الشمالية، لكنَّ عاصمتها كانت “تينوتشتيتلان”، وهي العاصمة المكسيكيَّة حاليّاً، وبها هزم زعيم القبيلة الأشهر موكتيسوما، ما مكَّن المستعمر الإسباني إرنان كورتيس من السيطرة على أجزاء كبيرة من القارّة اللاتينيَّة.
هنا ينتمي الناس لما يُعرف بالمستيسو أي الخليط، فهم خليطٌ من قبائل الناهواتل والأوروبيِّين، ولا ننسَ طبعاً أنَّ كثيراً من العرب كان على متن سفن كريستوفر كولومبوس حين غزا القارَّة، لذلك فهناك أكثر من دماءٍ اشتركت في تشكيل هذه الشعوب، ومنها دماءٌ عربيَّة، بل إنَّ بعض النظريَّات تقول، إنَّ العرب قد وصلوا هنا قبل الإسبان، لكنَّ إسبانيا لا تُظهر الوثائق التي تدلُّ على ذلك.
وبالعودة للمستيسو، ففي نيكاراغوا على سبيل المثال، لا يظهر هذ الاختلاط الكبير في الأعراق، لكنَّني لا أنفي وجوده. وما قصدته هو أنَّ معظم الناس تطغى عليهم الملامحُ الهنديّة، أي ملامح أهل البلاد الأصليِّين، وفي بعض المناطق من شمال نيكاراغوا، نرى أنَّ الملامح الأوروبيَّة تظهر على الناس أكثر بسبب تواجد الأوروبييّن هناك.
ومن الطريف أنَّ أهل مدينة غرناطة – نيكاراغوا، معروفون في هذه البلاد باستعلائهم على الغير، بظنِّهم أنَّهم يحملون في شرايينهم دماءً أوروبيَّة، لأنَّ غرناطة كانت أوَّل مدينةٍ يصلون إليها عن طريق بحيرتها المتفرِّعة من المحيط، هذا الأمر يُثير سخرية مواطنيهم الذين اخترعوا عنهم الأمثال التي تدلُّ على استعلائهم الفارغ من المعنى، إذ أنَّه لم يبقَ أحدٌ إلّا واختلطت به دماء الغير، كما أنَّ افتخارهم بحمل دماءٍ أوروبيَّة لا يستجلب الفخر، فالأوروبي كان يغتصب النساء، وكان العرق الجديد هو ثمرة الاغتصاب.
ومن الأمثلة المعروفة هنا “الغرناطي يأكل الفاصوليا الحمراء، ثم يبدأ بتنظيف ما بين أسنانه”، أي أنَّ أهل تلك المدينة يتقاسمون الفقر مع باقي الناس، ولذا فطعامهم الأساسي هو الفاصوليا الحمراء، لكنَّهم ينظِّفون ما بين أسنانهم وكأنَّهم كانوا يأكلون اللحم.
في المكسيك، تذكَّرت أهل غرناطة – نيكاراغوا، حين تحدَّث أصدقائي المكسيكيّون عن الأرجنتينيِّين. كان الحديث أساساً عن كأس العالم 2014، وأبدوا سعادتهم بأنَّ الأرجنتين خسرت أمام ألمانيا، وحين أبديْت دهشتي لعدم رغبتهم بفوز بلدٍ من قارّتهم، أخبروني أنّهم يعتبرون الأرجنتينيِّن مستعلين ومتكبِّرين لأنَّهم يعتبرون أنفسهم أوروبيّين؛ فقد هاجر كثيرٌ من الإيطاليّين والإسبان إلى الأرجنتين لتعتبر هذه الهجرات حسب الترتيب هي الأكبر، ثمَّ تأتي الهجرة العربيّة في المرتبة الثالثة.