الخصائص النّفسيّة للشّخصيّات الرّوائيّة
تجري أحداث رواية “فاصلة بين نهرين” للكاتبة غفران طحان (دار موزاييك: إسطنبول، ط1، 2021) في مدة زمنية لا تتجاوز اليوم الواحد، وبين لحظتي البداية والنهاية تتكثّف أحداث زمنية ممتدة في ذاكرة بطلي الرواية الرئيسيين وحاضرهما، (نورس وسوسنة)، وهما صديقان شهدا معا أجواء الحرب، وانعكست أصداء تلك الحرب نفسياً لدى كل منهما، لذلك تتخذ الرواية سرداً ثنائيّاً متناوباً بين نورس وسوسنة، مع وجود الحوار والتداخل بينهما.
وحيث إنّ البعد النّفسيّ النّاتج عن التّأزم لدى كل من نورس وسوسنة، فإنّ تبدّيات هذا البعد النفسي قد ظهرت في التصرّفات الواقعية والتخييليّة لديهما، فيتيهّأ لنورس صباحاً وجود جثّة في بيته، وتسيطر هذه الجثة المتخيَّلة على أحداث يومه كلها، أمّا سوسنة، فإنّ فقدانها لجنينها بسبب سقوط قذيفة بالقرب منها، قد انعكست آثاره بوجود التّوهّم لديها بأن هذا الجنين ما يزال في أحشائها برغم مضي خمس سنوات على الحادثة.
يتواصل نورس وسوسنة إلكترونياً، إلّا أنّه تواصل محكوم بأجواء الحرب المحيطة من جانب، وبالتأزّم النّفسيّ لدى كل من الشّخصيتين من جانب آخر، ولهذا اختلفت النّهاية الشخصيّة لدى كل منهما.
يبدو البعد الشخصي في الرواية هو الأكثر وضوحاً تبعاً للفكرة المتبنّاة في النّصّ، إذ تبدو أهمّية صورة البطل انطلاقاً من أنه يمثّل وجهة نظر محددة، وبوصفه يبيّن” كيف يكون العالم بالنسبة إلى البطل، وكيف يكون هو نفسه، بالنسبة لنفسه”[1] فالعالم الذي يتمثّل لدى نورس بأصدقائه ومعارفه لم يكن على وفاق معه، بسبب الأزمة النفسية الحادّة، حيث مثّل العالم بالنسبة إليه طرفاً عدائياً فتبدّى ذلك في الانفعالات والصدامات ولم يكن الأمر مختلفاً مع سوسنة، من حيث إن العالم شكّل بالنسبة إليها أيضا طرفاً عدائياً بأمكنته وأشخاصه، ممّا جعل كليهما يتحوّلان إلى عدائيين تجاه الآخرين بفعل الحدث الطارئ الذي انصبّ بكليته في الجانب الإحساسي والانفعالي وكل ما هو مرتبط بالمشاعر لديهما، وفي المقابل بدت علاقة الشخصية بنفسها قائمة على الاقتناع واليقين بكل ما يمر بها من أحداث وتخييلات.
ومن هنا تبدو أهمية الشخصية في الرواية وتظهر الخصائص النّفسيّة للشّخصيّات الرّوائيّة في العناصر الآتية:
الرّهاب والتّوهّم
حيث تشير الأحداث الروائيّة إلى أنّ حالة التّأزّم النّفسي لدى نورس قد ظهرت بعد مضي زمن لا بأس به من أزمنة الحرب، وهو ما يقارب الخمس سنوات، لتظهر بعدها مرحلة التّأزّم الفردي في شكل صراع حاد بين ما كان وما هو قائم وما كان ينبغي أن يكون، وجاء بعد سلسلة من التّراكمات والكبت لتنفجر بعد ذلك وتخرج عن مركزيّة الوعي وتتحكم بمصير الشّخصيّة التي جسّدتها.
وقد حفلت المشاهد الروائيّة في النّصّ بانعكاسات متعدّدة لحالة الرّهاب التي تعاني منها الشّخصيّات، وهو رهاب خفيّ، فبما أنه مسبَّب عن الحرب فإن التعبير عنه جاء عن طريق التوهم، ويبدو التقاطع كبيراً بين الشخصيتين البطلين، ليكونا بذلك نموذجين اجتماعيين، ولتبدو الرواية ملقية الضوء على الواقع الجمعي مكثّفاً في الوعي الفردي، حيث “لا يمكن للوجدان الفردي أن يتفتح إلا من خلال وعي المأساة الجماعية” [2]، ويرتبط ذلك بشخصية الروائي الحقيقية، التي تنتقي نماذجها في إطار الوعي المأساوي الجمعي، وهو ما ظهر لدى شخصيّات النص، التي غدت مأساتها الفردية أنموذجاً لمآس تشكلت في إطار الحرب التي أوجدتها، وظهرت لدى نورس في هيمنة الهذيان والهلوسات الناجمة عن الخوف الذي فرضته الحرب، وظهرت تبدّيات الرهاب لديه في التّخيّلات التي تجسّدت كلّياً في تخيّل جثّة لا وجود لها، كما أيقظ الخوف في ذاكرته المواقف البعيدة، منها ما يعود إلى مرحلة الطفولة عندما اضطر للسير مع جدته في سوق بيع اللحوم، إلا أنه لم يستطع تحمّل الرائحة، فكان هذا آخر عهده بها آنذاك حتى جاءت الحرب.
وعلى الرغم من أن نورس استطاع في أحد المواقف أن يتهرّب من رهاب هذا السوق برائحته الكريهة، وأن يختار طريقاً أكثر خطورة منه، فإنّ ما يأتي خارج الفعل الإرادي هو تمكّن امتداد رهاب السوق وهيمنته على الجانب النفسي في شخصية نورس، مما جعله على احتكاك مستمر بتلك الرائحة، وبذلك تم تغييب جانب الفعل الإرادي ليتصدر الفعل اللاإرادي أو اللاواعي في شخصيّة نورس، فظهرت علائم الهلوسة والهذيان والتخييل، وبرزت تبديات الرهاب لتفصح عن ذاتها في السرد الشخصي لدى نورس، منها ما كان للون الأصفر في ذاكرة نورس حضوره المنفر لديه، يقول “ومنذ ذلك الوقت كرهت اللون الأصفر، ارتبط عندي بالخوف، بلون القيء، بالزهر الذي ينبت على أطراف قبر جدي، بالوجه الذي لاح لي عندما نزلت إلى البئر، بتلك الرائحة.” ولم يظهر اللون الأصفر في الرواية إلا بتلك الصورة السّلبية الدائمة.
ولأن الرهاب لدى نورس قد ارتبط بالتوهم، أي توهم الجثة فإن انعكاساته لديه ظهرت في أفعاله أيضاً، وقد استندت الرواية في معظمها إلى تصوير تلك الأفعال الانعكاسية سواء منها ما كان مع أصدقائه الافتراضيين، عبر التواصل الإلكتروني معهم؛ أم أصدقائه ومعارفه الحقيقيين، كأن يضع على صفحته الإلكترونية عبارة” جثة في بيتي” وأن يقوم بوضع صور للجثة المتخيلة أو أن يظهر في بث مباشر في حالة سيئة جداً له، أو في تصرفه المفاجئ مع جيرانه، أو في تعامله مع صديقه إياد وبقيّة الشخصيات الموجودة في الرواية، ثم هيمن البعد التوهّمي لديه إلى درجة الانفصام عن الذات وعن الواقع معاً، ولم يعد لدى نورس أي قدرة على الفعل أو التحرّك السويّ، فأفعاله الناجمة عن التوهّم أصبحت مرئية للآخرين، عدا الاضطراب النفسي الذي ظهر واضحاً في أي سلوك أو تصرف يصدر منه، كما في تعامله الإخباري عن الجثة في قوله “من دون وعي مني، أمسكت بهاتفي المحمول، فتحت صفحتي على فيسبوك، وكتبت منشوراً: جثة في بيتي”، ثم بعد لحظات يفطن لما كتبه ويصف نفسه بقوله “لقد تصرّفت بغباء كبير، كيف لي أن أفشي سراً خطيراً كهذا على موقع للتواصل الاجتماعي، وأضعه منشوراً عاماً أيضاً؟”. كما انعكس الاضطراب المرتبط بالتوهم في أفعاله التخييلية كأن يتعثر بالجثة أو يشعر بثقلها أو دفعها برغم أنها غير موجودة على الإطلاق، وإنما هي انعكاس لحال التأزّم النفسي المرتفعة التي وصلت إلى مرحلة الانهيار وبعدها حدث الانتحار فعلاً؛ معلناً انتهاء تلك الحالة به.
أما بالنسبة إلى سوسنة فيبدو أن رهاب الحرب جعلها لا تقتنع بأنها فقدت جنينها بسبب قذيفة سقطت بالقرب منها، وتحول الرعب لديها ليتجسد في توهم حمل كاذب ظلت تعتني به بالرغم من مضي خمس سنوات على الحادثة. ويبدو التوهم لديها مشابهاً لما هو موجود لدى نورس، إلا أنّه توهم مرتبط بانتظار ما لا يمكن حدوثه، كأن يبدو ذلك في أفعالها، من مثل قولها “عودت نفسي على النوم في زاوية السرير اليسرى، خوفاً على الصغير القادم من حركتي المفرطة”.
إلا أن اختلاف سوسنة عن نورس يأتي في أن صراعها مع العالم حولها كان أقل عدائية من نورس، فعندما تمر في حالة هيجان عنيف فإن تهدئة تلك الحال تكون بتذكيرها بالحمل المتوهّم لديها، كما في قول أمها لها “حبيبتي أنا أرغب في أن تخرجي من البيت، في أن تكوّني صداقات، هذا مفيد للصغير أيضاً، سيصير انعزالياً إن بقيت هكذا”. ويبدو ذلك أيضاً في قول صديقتها سيما “خمس سنوات من الحمل، وستخسرين الآن صغيرك بسبب موجة فرح غبية”، وهذا بعد موجة رقص عنيفة أظهرتها سوسنة في إحدى لحظاتها الانفعالية المرتفعة، كما يظهر ذلك في تصرّفات الآخرين كالطبيب النفسي، بمعنى أن التوهّم لدى سوسنة كان يبدو أقرب إلى الاحتواء من قبل الآخرين بخلاف نورس الذي كان التوهم لديه نفسياً ناجماً عن الكبت، في حين أن التوهّم لدى سوسنة نفسيّ أيضاً ناجم عن الفقد، أمّا فيما يتعلّق بالتتابع الانفعاليّ لدى كل منهما فإن ثمة تصاعداً سريعاً في ذلك فالرواية تقدّم شخصيّاتها ضمن فترة زمنية و”تقيسها بدقة عادة، عبر حساب مرور الزمن سنة بعد سنة، ويوماً بعد يوم، وأحياناً دقيقة بعد دقيقة” [3].
والنمط الأخير هو المهيمن على زمن الرواية، فالأزمنة الجزئية في يوم الرواية هذا تشهد تصاعداً انفعالياً حاداً، وكل لحظة انفعاليّة حادة تنعكس مباشرة في تصرّف الشّخصيّة في أي جانب من جوانبها، قولاً أو فعلاً، حتى تصل مرحلة الذروة وبعدها السكون الزمنيّ المعلن انتهاء الرواية.
والأهم في ذلك كيف أن الشخصيتين مرتبطتان بالبعد التاريخي، وهو بعد ذو خصائص قاسية، أُسقطت في الجانب النفسي للشخصيتين فيما لم يُصب الجسد بأيّ من آثارها، عدا فقدان الجنين لدى سوسنة، وهو اهتمام آخر من اهتمام الروائي الحقيقي، بأن تكون روايته مرتبطة بالحس التاريخي الذي هو “الشرط الفني لوجودها. وأبطالها إذا لم يلخّصوا في ذاتيتهم وتفرّدهم التاريخ، فإنهم لن يكونوا حتى أبطالاً روائيين” [4]، فهنا تتداخل الأحداث التّاريخيّة بالأحداث الذاتيّة وانعكاساتها النفسيّة، وهي طارئة بفعل هذا الحدث التاريخي المهيمن على الأحداث الروائية بشكل مطلق.
التّفرّد
تأتي سمة التفرد بوصفها إحدى أهم السّمات الشّخصيّة في الرّواية، فنحن نجد أنّ النّصّ رُوي أساساً بضمير المتكلم، فهو نصّ أنويٌّ بالدرجة الأولى، وهي (أنا) متفرّدة، يتبدى ذلك في انتقاء الأسماء ومنحها أبعاداً تمييزية لها، من خلال تفسيرات فكريّة ملائمة، فيبدو عنصر الاسم هو الأهم من حيث جانب التفرد، كما في حديث نورس عن جده الذي رأى أن طيور جيش أبرهة الحبشي هي النوارس، وبذلك تم منح الحفيد –اسميّاً – دلالة دينية تجعل اقتحام المقدس أمراً مرتبطاً بالفعل البشري وحده. أمّا الجدة فلم يكن دورها بأقل من دور الجد، حيث تصور لنورس ميزة الطائر من بين بقية الطير، فجاء قوله “ولكنني فجأة سمعت صوت النوارس التي كانت تقلدها جدتي في أذني، سمعت صوتها العالي فهي ترفض ألا تكون معروفة”. ويأتي التمييز الاسمي في إطار الوعي الجمعيّ الذي اعتاد مسميات محددة، ولهذا بدت شخصية نورس متفردة بين الآخرين، وجاءه التفرد الاسميّ ليجعل منه شخصية مختلفة عن أقرانه.
أما سوسنة فقد ارتبط اسمها “بعشتار، آلهة الخصب والجمال” [5] كما وصفه آدم، وكما جاء في تعليق نورس “اسمك قصيدة، تماما يليق بك” [6]، وقد حظي الاسم باهتمام واضح في الرواية وبتميز مختلف عن بقية الأسماء أيضاً.
وأمّا علاقة الاسم بالجوّ العام للنّصّ، فإنّ صلاته الفنية كانت واضحة فيه، وكان ارتباط الاسم بالفكرة بارزاً أيضاً، بل إنه بدا اختياراً انتقائياً، لنكون أمام وجود عنصرين اثنين في “كل اسم: 1- عنصر صوتي، صوت، 2- عنصر منطقي، فكرة” [7]، وبربط ذلك بأحداث الرواية سنجد كيف ارتبط اسم كل من الشخصيتين بالفعل الذي اختارته في النص، بين اختيار العودة إلى الطبيعة لدى نورس، أما سوسنة فارتباط اسمها بآلهة الخصب جعلها تنتقي طريق العلاج النفسي.
وأما فيما يتعلق بتفرد الشخصية نفسها، فإنه بدا أكثر وضوحاً لدى نورس، فهو الفتى المدلّل الوحيد لدى جدّيه وهما الحاضران الأكبر في وجوده بدلاً من أبويه اللذين كان حضورهما عائلياً أكثر منه عاطفياً، وبالنيابة عن أمّه كان لجدته الحضور الأول في حياة نورس التي رأت فيه تعويضاً عن ابنها الثاني الذي فقدته، وهو من كان سبباً في تسمية نورس بهذا الاسم، وقد ظهر نورس أيضاً بوصفه الوارث الوحيد في عائلته. وامتدت سمة التميز تلك بانتمائه إلى جدّه الذي كان “شيخ باب قنسرين كلها، يتميز بحضوره القوي، وهدوئه عند الغضب مما يتسبب بخوف من أغضبه” [8]، بالإضافة إلى الميراث المعرفي المرتبط بوجود مكتبة ضخمة في البيت الذي نشأ فيه نورس، مما جعله متفوقاً على أقرانه، كما في قوله لصديقه إياد “أنا أقرأ كثيراً، ترك عمي وأبي لي الكثير من الكتب، لست مثلك أقضي وقتي في السخرية من الآخرين ولعب الدحل”، أمّا عندما أصبح شاباً فقدم صورته الذاتية بصوته بعد أن غدا شاعراً متميزاً، لقي الكثير من الإعجابات كما في وصفه لمشهد من مشاهد إلقائه الشعري وموقف حبيبته ندى منه، فيقول “لا أذكر الآن إلّا بداية القصيدة، التي جعلت الحضور يصفقون لدقيقة كاملة، وهم يلتفتون نحو ندى، وقد كنت أنظر نحوها وأنا ألقي القصيدة، وجعلت ندى تصعد إلى المنصة، وتقدم لي باقة من الورد، وتهمس في أذني، ستكون ليلتك أجمل من هذه القصيدة، أعدك”.
إنّ سمة التّفرّد لدى الشّخصيتين لا تعكس شخصيات غير عادية، وإنّ تفردها أو تميزها ذاك ارتبط بالاسم أكثر من ارتباطه بأيّ شيء آخر، عدا أنّ وجوده كان لازماً لانتقاء نهاية القصة لكل منهما، بالإضافة إلى أن الحديث الذاتي الذي ارتبط بالاسم لا يعكس أيّ تأزم نفسي سابق لديهما، مما يعني – كما ذكرنا – أنه تأزم ناشئ بفعل حدث واقعي أدى إلى ظهور ذلك.
الفقد
تظهر سمة الفقد في النّصّ بوصفها من أهم السمات الشّخصيّة الرّوائيّة، وسبب ذلك أنّ النّصّ بأكمله يتحدّث عن تداعيات الفقد، وتمظهراته في الأحداث الروائية، بدءاً من فقد الشريك وانتهاء بفقد النمط الحياتي العادي الذي ينبغي أن يكون، ليبدو النص في النهاية حافلاً بالعقم.
وفيما يتعلق بوجود تلك الظواهر فنجدها تتمثل في ظهورين اثنين، قد نستطيع تسميتهما تفسيراً وتخييلاً، ففي حين يظهر الفقد لدى نورس بشكل تفسيري، نجده تخييلياً لدى سوسنة، حيث يدخل نورس في حيرة حول تفسير وجود الجثة في منزله، ويبحث عن إقناعات تفسيرية، لكن أشد تلك الإقناعات إلحاحاً هو ارتباطها بزوج ندى (حبيبته التي تركته في بدء الحرب وسافرت)، ولهذا تستيقظ في لاوعيه الفكري مشاعر الارتباط بحبيبته وتلحّ عليه، فيقول “هذه الحكاية ترضي غروري على الأقل، تشفع للجثة حضورها الثقيل في عالمي، ماذا لو كانت جثة زوجها حقا؟ ياه! كنت سأغفر للجثة كل ما فعلته بي حتى الآن. سأغفر لها إن سمعت صوت ندى يشكرني على الخلاص” [9]. وفي الواقع يعاني نورس من فقدين اثنين، فقده لأمه وهو ما لم يكن له أيّ تأثير بوجود جدته، أما مع وجود الحرب ووفاة جدته فإن غياب أمه كانت له آثاره التّأثرية والانفعاليّة الواضحة في النص، إذ فشلت محاولاته التّواصلية معها، ولم تحاول بدورها أن تتواصل مع ابنها على الرغم من أنّها ما تزال تعيش في المدينة نفسها مع زوجها، أمّا ندى فكان لفقدها هو الآخر تأثيره الذي بدا واضحاً في تفسير نورس للجثة، ونورس هنا لا يريد قتل الأب ليحصل على أمه بقدر ما أراد أن يقتل الزوج ليحصل على زوجته، ومن هنا جاء تفسيره الإقناعي ليرضي به انفعالاته النّفسيّة المكبوتة تجاه حبيبته ندى التي تعيش في الخارج.
أمّا انعكاس الفقد لدى سوسنة فيبدو بتخيل آدم حيّاً، ومنتظراً.. إذ لا يكاد يخلو مشهد من حديث سوسنة إلا وفيه حضور لآدم الغائب، وفي أيّ استغراق في الحديث الواعي لدى سوسنة تتداعى صور آدم بالطريقة ذاتها التي كانت تقابله بها سوسنة، فهو يقاطع أيّ سرد واقعي إلى درجة أن القارئ يعرف ثنائيّة سوسنة وآدم من خلال تلك الاستحضارات التي تتقاطع مع السرد المباشر لدى سوسنة، أما إحدى أكثر صوره حضوراً فهو وصف سوسنة بقولها “ظهر لي آدم في المرآة، يحمل قطعتين من المثلجات على وشك الذوبان، ويلوح لي باسماً”. والفقد لدى سوسنة قائم على عدم التّصديق، فهي أيقنت أن آدم غرق في البحر، ثم تبعه فقدانها للجنين، ومع ذلك ظلّت تقنع نفسها بأن أياً منهما لم يُفقَد..
تبدو الرواية بوضوح رواية أزمة حيث يمكن للرّوائي أن “يختار التّركيز على لحظة خاصة من حياة الشّخصية، تتطابق مع لحظة أزمة، وحتى مع نقطة انقلاب في وجوده. يكون زمن القصة المرويّة حينها محدوداً جداً” [10].
وهذا ما وجدناه في النّصّ، إذ تتمدّد الأبعاد اللاواعية وهي التي انطلقت من لحظة تأزّم واقعيّ حادّ لتفرض هيمنتها على أيّ حضور واع للشّخصيّات الرّوائيّة، أمّا الحضور التّأزميّ الأكثر حدّة في الرواية فهو بامتداد التّخيّل والهذيان ليهدد صداقة نورس وسوسنة، فعندما عرض نورس جثته المتخيَّلة على أصدقائه الافتراضيين فإن رد فعل سوسنة ظهر في قولها “ماذا فعل نورس؟ وكيف وصلت صورة جثة آدم إليه؟ تراه هو من قتله؟ ولكن لماذا؟ ولماذا أرسل لي أنا تحديدا هذه الصورة؟ هل يعرفه؟ وإن كان يعرفه، وقد أخبرته بقصتي معه، فلماذا ينوي تعذيبي؟” [11].
أمّا نورس فإنه بدا غير مهتم برد فعل سوسنة على سؤاله، وهي المرة الأولى التي لم يهتم بسوسنة لأن اهتمامه اعترضته رسالة قادمة من ندى بقولها “كنت أعرف أن غيابي سيحولك إلى مجنون بشكل رسمي، وقد حدث ذلك حين جرحت يدك على الهواء مباشرة منذ سنتين في تحد مزعج منك لي. وكأنني حين راهنتك على الجرح، لم أكن أعني جرح قلبي الذي ما زال يذكرني بك”، ليبدو أن الغياب الذي هو الوجه الأبرز للفقد قد أدت مسبباته إلى الامتدادات العذابية في النص، وإلى أن تصبح الشخصيّات المعذّبة حاضرة بغيرها، أي بمن هو غائب عنها، فاستبدلت حاضريها بغيّابها أولئك فتتواصل معهم وتتحدث لأجلهم وعنهم، ممّا نجم عنه الانفصام الواضح في الشخصيات.
المصادر ومراجع:
*أسس الإبداع الفني عند دوستويفسكي، ميخائيل باختين: تر: مالك صقور وشاهر أحمد نصر، منشورات اتحاد الكتاب العرب: دمشق، 2016.
* فاصلة بين نهرين، غفران طحان، دار موزاييك: إسطنبول، ط1، 2021.
*الأعمال النقدية الكاملة، جورج طرابيشي، دار مدارك:دبي، ط1، ج2، 2013.
*الشخصية في الرواية، لور هيلم، تر: غسان بديع السيد، منشورات وزارة الثقافة: دمشق، 2020.
[1] أسس الإبداع الفني عند دوستويفسكي، ميخائيل باختين، تر: مالك صقور وشاهر أحمد نصر، منشورات اتحاد الكتاب العرب: دمشق، 2016، ص: 73.
[2] الأعمال النقدية الكاملة، جورج طرابيشي، دار مدارك: دبي، ط1، ج2، 2013، ص: 47.
[3] الشخصية في الرواية، لور هيلم، تر: غسان بديع السيد، منشورات وزارة الثقافة: دمشق، 2020، ص: 113.
[4] الأعمال النقدية الكاملة، جورج طرابيشي، ج2، ص: 48.
[5] المصدر نفسه، ص: 70.
[6] المصدر نفسه، ص: 83.
[7] الشخصية في الرواية، لور هيلم، ص: 43.
[8] فاصلة بين نهرين، غفران طحان، ص: 26.
[9] فاصلة بين نهرين، غفران طحان، ص: 80.
[10] الشخصية في الرواية، لور هيلم، ص: 120.
[11] طحان، غفران: فاصلة بين نهرين، ص: 147.