الحاجة إيجيريا: ثلاث سنوات في الشرق
لا يُعرف الكثير عن الحاجة الإسبانية إيجيريا، صاحبة أقدم نص رحلي إلى الأراضي المقدسة في الفترة ما بين عامي 381 و384 للميلاد. إذ؛ لم يسبقها من الحجاج الذين دونوا شيئاً عن رحلاتهم إلاَّ “حاج بوردو” عام 333 ميلاديا، ولكن؛ للأسف لم يصلنا من مخطوطته إلا أسماء محطات رحلته. ومن هنا تكتسب رحلة إيجيريا هذه الأهمية الاستثنائية التي تضعها في مقدمة المصادر الأصلية النادرة لهذا النوع من التأليف.
لم تخبرنا الحاجة التي كتبت رحلتها باليونانية، الكثير عن نفسها، ولكن؛ لا بد وأنها كانت سيدة شجاعة ومغامرة حتى تقوم برحلة طويلة مضنية استمرت ثلاث سنوات من السفر في الشرق. وأيضاً لا بد وأنها سيدة ذات ثقافة رفيعة وذات ثراء، وهذا يؤكده اهتمامها الشديد بالجغرافيا والمعالم الأثرية، وليس فقط المأثورات الليتورجية المسيحية. وربما كانت إيجيريا على صلة مع البلاط الإمبراطوري في القسطنطينية؛ إذ كان الإمبراطور ثيودوسيوس الكبير من إسبانيا أيضاً، ووصل إلى القسطنطينية في الفترة ذاتها لوصول إيجيريا. علماً أن زوجة ثيودوسيوس، إيليا فلاسيلا، وابنة أخته سيرينا كانتا من المسيحيات المشهورات بعدائهن للوثنية. ويبدو أن الدوافع الكامنة وراء رحلاتها هي رغبتها في تعميق فهمها للكتاب المقدس؛ من خلال معاينة الأماكن ذاتها التي يفترض أنها كانت مسرحاً للأحداث الكتابية.
دوّنت الحاجة الإسبانية وقائع رحلتها وأرسلتها إلى أخواتها المؤمنات في وطنها، ومن الممكن أن المقصود بأخواتها مجموعة رهبانية نسائية مجهولة. حيث عثر على أجزاء من نص الرحلة في العام 1884 في مكتبة القديسة ماري في أريتسو بإيطاليا، وهي نسخة مخطوطة تعود إلى القرن الحادي عشر كتبها أحد رهبان دير مونتي كاسينو.
تضم الأجزاء المتبقية من رحلة إيجيريا وقائع زيارتها إلى سيناء، وعودتها إلى فلسطين عبر السويس، وزياراتها المختلفة إلى المواقع المذكورة في الكتاب المقدس في فلسطين، بما في ذلك الوصف التفصيلي للقدس، ثم زيارتها إلى أنطاكيا والرها ورحلة العودة إلى القسطنطينية.
جبل سيناء وأسقف العربية
يبدأ الجزء الذي وصَلنا من الرحلة في جبل سيناء، حيث ذهبت إيجيريا لترى ما تستطيع أن تراه مما ورد ذكره في كتاب العهد القديم. وهناك وجدت أدلاء ورهباناً وقساوسة أطلعوها على تفاصيل المكان، فصعدت إلى قمة الجبل المقدس حيث ظهر الرب لموسى، بحسب أسفار العهد القديم. ووجدت هناك كنيسة وديراً، أطلعها الرهبان المقيمون فيه على المكان الذي كان يُعتقد أن العجل الذهبي يقف فيه، كما أطلعوها على الأماكن التي شهدت جميع المعجزات المذكورة في الكتاب المقدس، بما في ذلك المكان الذي أنزل فيه المنّ والسلوى على بني إسرائيل، والوادي الذي تم الاحتفال فيه بعيد الفصح.
بعد جبل سيناء توجهت الحاجة إيجيريا إلى المكان المفترض لأرض جاسان في شرقي الدلتا المصرية حيث زارت مدينة رعمسيس المفترضة، ورأت فيها تمثالين كبيرين، قيل لها إنهما يخصان القديسين موسى وهارون. كما دلوها على شجرة الجميز التي يُقال إن الآباء قد زرعوها؛ حيث أن هذه الشجرة كانت قد تحولت إلى مزار مقدس كما أخبرها أسقف العربية حين التقته في مدينة رعمسيس. وقد وصفت هذا الأسقف بأنه “رجل مسن تقي حقاً منذ أن أصبح راهباُ، وكان لطيفاً في استقبال الحجاج، وعلى معرفة كبيرة بالكتاب المقدس. وبعد تكبد العناء للقائنا، أظهر لنا كل شيء هناك وأخبرنا عن التماثيل المذكورة أعلاه، وكذلك عن شجرة الجميز”.
وتضيف قائلة: “عشية عيد الغطاس المبارك، والوقفات الاحتفالية التي ستُقام في الكنيسة في نفس اليوم. أبقانا الأسقف هناك لمدة يومين. ومن هذا المكان، رافقنا جنود رومان، عبر مدينة العربية إلى طيبة ثم إلى بيلوسيوم، ومن هناك تابعنا رحلتنا باستمرار عبر أرض جاسان، بين الكروم التي تنتج النبيذ، والبساتين التي تنتج البلسم، والحدائق المزروعة لغاية المتعة، حيث يقع طريقنا بالكامل على طول ضفة نهر النيل. حيث لم أر قط بلداً أجمل من أرض جاسان. وهكذا سافرنا لمدة يومين من مدينة العربية إلى أن وصلنا إلى تنيس”.
أسبوع الآلام في القدس
وقد وصلت الحاجة إيجيريا فعلاً إلى أرض فلسطين عبر الطريق الساحلي وهو الطريق التجاري الرئيسي المحمي من جانب الجيش الروماني في شبه جزيرة سيناء، ودخلت مدينة إيليا، أي مدينة أورشليم المقدسة كما تقول.
ويعد الجزء المتعلق بالقدس في هذه الرحلة هو الأكثر إثارة للاهتمام، فقد وصفت طقوس العبادة عند مسيحيي القدس، وتحدثت عن إنشاء ما لا يقل عن ست كنائس في الأماكن المرتبطة بالأحداث الكبرى في حياة المسيح. وسلطت الضوء على الطقوس والعبادات اليومية وعبادات يوم الأحد تحديداً في كل موقع مرتبط بحياة يسوع. وقد أدى قرب الكنائس من بعضها البعض، إلى ظهور سلسلة احتفالات موسمية وسنوية، تلعب فيها كل كنيسة دوراً محدداً في الليتورجيا السنوية، حيث وصفت إيجيريا ذلك بالتفصيل. واللافت أن الاحتفالات التي تستعيد مسيرة حياة يسوع، وإعادة تمثيل الأسبوع الأخير من حياته، واجتماع الحشود الكبيرة من جميع أنحاء القدس، وكذلك الحجاج من أماكن أخرى، كلها كانت موجودة حين وصلت الحاجة صاحبة الرحلة.
وقد رصدت حاجتنا العبادات اليومية بشكل مسهل في جميع كنائس القدس، وتحدثت عن أوقات إضافية للصلاة والترانيم وقراءة الكتاب المقدس خلال أسبوع الآلام، أو الأسبوع العظيم كما أطلق عليه المقدسيون في ذلك الوقت. تقول إيجيريا في ذلك: “في يوم الثلاثاء قاد الأسقف الناس إلى كنيسة إليونا على جبل الزيتون وقرأ لهم تعاليم يسوع لتلاميذه من متى 23 – 24. وفي مساء الأربعاء قرأ كاهن آخر المقطع الذي ذهب فيه يهوذا الإسخريوطي إلى كهنة اليهود ليبحث معهم ثمن خيانته للرب. تأوه الشعب وانهمرت الدموع. يوم الخميس، أقيمت طقوس خاصة مرة أخرى في كنائس جبل الزيتون، ثم ذهب الأساقفة المؤمنون إلى الجسمانية. بعد الصلاة والترانيم قرئ الكتاب الذي يصف عذاب يسوع. في الساعات الأولى من يوم الجمعة عادوا إلى كنيسة القيامة، حيث قرأ الأسقف قصة محاكمة يسوع من قبل بيلاطس. قبل أن يعودوا إلى منازلهم لأخذ استراحة قصيرة قبل أن يذهبوا إلى جبل صهيون للصلاة عند العمود في منزل قيافا حيث جلد يسوع”.
وتضيف القول إن “يوم الجمعة من أكثر أيام الأسبوع العظيم احتفالاً في القدس. في الصباح، أحضروا خشبة الصليب الذي وجدته الملكة هيلانة. ثم بعد ساعات تقدم الحجاج لرؤية الرفات المقدسة. حيث استغرقت الخدمة مدة ثلاث ساعات. قرأت مقاطع من الكتاب المقدس باستمرار وكانت تنشد الترانيم، لتُظهر للناس أن كل ما قاله الأنبياء سيحدث فيما يتعلق بآلام الرب”.
طقوس المعمودية
وفيما يتعلق بطقس المعمودية في عيد الفصح في القدس، قالت إيجيريا: “يجب أن أصف أيضاً كيف يتم تعليم أولئك الذين سيعمدون في عيد الفصح. من يعطي اسمه يفعل ذلك في اليوم السابق للصوم.. وهذا قبل تلك الأسابيع الثمانية التي، كما قلت، يُحتفل فيها بالصوم الكبير.. في اليوم الأول من الصوم الكبير.. ينصب عرش للأسقف في وسط الكنيسة الكبرى. يجلس الكهنة على مقاعد من الجانبين، ويقف جميع رجال الدين حولها. يتم دفع المرشحين واحداً تلو الآخر بطريقة تجعل الرجال يأتون مع عرابيهم والنساء مع عرّاباتهن. ثم يسأل المطران بشكل منفرد جيران الصاعد للعماد: هل يعيش حياة تقية؟ هل يطيع والديه؟ هل هو سكير أم كاذب؟ ويسأل عن رذائل أخرى أشد خطورة. إذا ثبتت براءته من كل هذه الأمور، يكتب الأسقف اسم الرجل بيده. أما إذا كان متهماً بشيء ما، يأمره الأسقف بالخروج ويقول: دعوه يغير حياته، وإذا فعل ذلك فليقترب من جرن المعمودية. يقوم بنفس السؤال لكل من الرجال والنساء. ومع ذلك، إذا كان شخص ما غريباً، فلن يتمكن من الحصول على المعمودية بسهولة، إلا إذا كان لديه شهود يعرفونه”.
جبل نبو
وتحدثنا إيجيريا عن زيارتها إلى جبل نبو في الأردن الحال حيث تقول: “وصلنا إلى قمة الجبل، حيث توجد الآن كنيسة ليست كبيرة الحجم، على قمة جبل نبو. داخل الكنيسة، في المكان الذي يوجد فيه المنبر، رأيت مكانًا مرتفعًا قليلاً، مساحته بحجم القبر. سألت الكهنة عن هذا، فأجابوا: هنا وضع الملائكة موسى القديس، لأنه كما هو مكتوب: لا أحد يعلم بمكان دفنه، ومن المؤكد أن الملائكة دفنوه هنا”.
رحلة إلى الرها
بعد أن أمضت إيجيريا ثلاث سنوات في القدس، ورأت جميع الأماكن المقدسة قررت أن تذهب إلى بلاد ما بين النهرين في سوريا، قبل أن تعود إلى بلادها. ويبدو أن أخبار الرهبان في جبل الرها هي التي دعتها لهذه الزيارة. تقول الحاجة: “انطلقت من أنطاكيا إلى بلاد ما بين النهرين باسم المسيح، وسرت عبر بعض المحطات والمدن في ولاية كويل سوريا (سوريا المجوفة)، ودخلت حدود ولاية أوغيستوفراتينيسيس (الفراتية)، ووصلت إلى مدينة هيرابوليس (منبج)، ولأن هذه المدينة جميلة جداً وغنية وتزخر بكل شيء، كان من الضروري بالنسبة إليّ أن أتوقف هناك. ثم انطلقنا إلى المحطة رقم 15 على نهر الفرات. وهو نهر عظيم له تيارات مثل نهر الرون، لكن نهر الفرات أكبر من الرون. ولأننا مضطرون للعبور بالسفينة، ويجب أن تكون سفينة كبيرة، فقد انتظرت هناك إلى ما بعد منتصف النهار، ثم باسم الله عبرت نهر الفرات ودخلت حدود بلاد الرافدين في سوريا”.
وتتابع إيجيريا بعد ذلك سفرها إلى مدينة باتانيس، ومن هناك إلى الرها، وعند وصولها، زارت الكنيسة المبنية على اسم القديس توما، وأقامت الصلوات، وقرأت بعض الأشياء المتعلقة بالقديس توما نفسه. وتصف الكنيسة بأنها رائعة جداً وذات بناء جديد. وخلال ثلاثة أيام زارت معالم المدينة، والرهبان المقدسين، الذين كان البعض منهم يقيمون في صوامعهم في أماكن منعزلة بعيدة عن المدينة.
في قصر الملك أبجر
وقد استقبلها أسقف المدينة بطيب خاطر وقادها أولاً إلى قصر الملك أبجر، حيث أراها تمثالاً رخامياً عظيماً له، يشبهه إلى حد كبير، كما قالوا لها، يلمع كاللؤلؤ. وقالت: “بدا من وجه أبجر أنه كان رجلاً حكيماً وصاحب شرف. ثم قال لي الأسقف: هو ذا الملك أبجر الذي آمن بالمسيح. كان هناك تمثال آخر بالقرب منه، مصنوع من نفس الرخام قال إنه لابنه معن؛ وله نفس ملامح وسماحة والده. ثم دخلنا إلى الجزء الداخلي من القصر، وكانت هناك نوافير مليئة بالأسماك لم أر مثلها من قبل، بحجم كبير جداً، ومشرقة جداً. المدينة ليس بها ماء على الإطلاق باستثناء ذلك الذي يخرج من القصر على شكل نهر فضي عظيم”.
وقد روى لها الأسقف قصة الملك أبجر مع يسوع المسيح وهي نفس القصة المتداولة الآن حول الرسالة التي أنفذها للمسيح مع حنانيا، وكيف أن صلاة أبجر أنقذت المدينة من حصار جيش الفرس لها.
بعد ذلك توجهت إيجيريا إلى مدينة حران القريبة من الرها، وعندما وصلت إلى حران ذهبت مباشرة إلى الكنيسة التي تقع داخل المدينة، وقابلت الأسقف الذي وصفته بالراهب المعترف، حيث أخذها إلى أماكن الزيارة مثل الكنيسة التي بنيت خارج المدينة، وروى لها ما ورد في الكتاب المقدس عن هذه الأماكن المرتبطة بسفر التكوين.
ومن حران عادت إيجيريا إلى أنطاكيا ومكثت لمدة أسبوع ثم توجهت إلى مدينة طرسوس عاصمة ولاية كيليكيا، ومن هناك انتقلت إلى إيصوريا، ومن هناك إلى قبدوقيا، ثم غلاطيا، ثم بثينيا حتى وصلت إلى خلقيدونيا، حيث مكثت يوماً قبل أن تعبر إلى القسطنطينية.