الصديق والأسير
التقيت الروائي الراحل خيري الذهبي، أول مرة، في الدورة الرابعة لمهرجان “العجيلي للإبداع الروائي” في مدينة الرقّة السورية عام 2008، وكان يومها مكرّماً في المهرجان إلى جانب الروائي المصري إبراهيم عبدالمجيد، والفنان التشكيلي علي منير، والكاتب إبراهيم الكبة، إضافةً إلى كونه كاتب مقدمة الكتاب الصادر عن المهرجان، والذي يتضمن الأبحاث والدراسات النقدية والشهادات المقدَّمة في أيام دورة المهرجان الثالثة، وأهداني أحدث رواياته في حينها “رقصة البهلوان الأخيرة”.
عقب أحد عشر عاماً تجدد لقائي به في عمّان، وكان قد قدِم للإقامة فيها معارضاً لنظام بشار الأسد الدموي، الذي قمع الثورة السورية بوحشية، وارتكب جرائم فظيعة ضد الشعب السوري، وتسبب في خراب البلد ودماره. حدث اللقاء بحضور ابنه الكاتب فارس الذهبي في فندق ريجنسي، حيث كان الشاعر نوري الجراح مقيماً فيه أثناء زيارة قصيرة له إلى العاصمة الأردنية، وكان خامسنا المخرج المسرحي الأردني نبيل الخطيب.
وبعد أسبوع زرت الذهبي، رفقة الخطيب أيضاً، في شقة استأجرها قرب الدوار الثاني في جبل عمّان، ثم صرنا نتواصل عبر الهاتف والماسنجر، وأخذت أدعوه للإسهام في بعض الملفات والاستفتاءات التي كنت أعدّها لمجلة “الجديد”. وأذكر أنه أجاب إجابةً طريفةً على أول دعوة وجهتها له تضمنت سؤالاً مفاده “ما هو الكتاب، أو الكتب الفكرية والنقدية العربية التي قرأتموها هذا العام وما تقييمكم لها؟”، حيث قال بالنصّ:
“عزيزي، قد تضحك لو أخبرتك عن عجزي عن الكتابة عمّا سألتني عنه لسبب بسيط، فأنا لا أعرف طريقة صنع صفحة للكتابة، وكان بإمكاني الاتصال بابني ليضع لي صفحة للكتابة، ولكن المؤسي هو أن القدرة على الكتابة لابني قد فشلت، فزاوية ‘الماسيج’ أو كتابة الرسائل قد ضاعت من صفحتي ولا أعرف لماذا.
اعذرني عن التشارك في الاستفتاء الذي ذكرت، رغم اهتمامي الشديد بالمشاركة. هل لديك حل ما؟ تحياتي”.
لكنه، رغم ذلك، أرسل لي بعد يومين إجابته، وكانت بعنوان “القراءة من منظور جديد”، وأظنه استعان بأحد الأصدقاء لحل المشكلة. وجاء في بدايتها “في هذا العام قرأت العديد من الكتب المتعلقة بأبي العلاء المعري. تلك الكتب فتحت لي باب الجدل الواسع في الستينات حول أبي العلاء ولوقيانوس السميساطي، منها كتاب بنت الشاطئ ‘رسالة الغفران’، وكتاب طه حسين ‘مع أبي العلاء المعري في سجنه’،”. وختم إجابته بقوله “اكتشفت أن المعري ما هو إلا ابن شرعي للوقيانوس، وهو ما أعمل عليه في كتابي القادم ‘فانتازيا ما وراء الموت’،”
وفي ملف حول الرواية والتاريخ دعوته للمشاركة فيه، كتب الذهبي مقالاً ثرياً بعنوان “فعل مضاد للتاريخ: الرواية حينما تكتب التاريخ وعن التاريخ حينما يصبح رواية”، نُشر في العدد (60)، يناير/كانون الثاني 2020، وجاء فيه “إن الرواية التي تستلهم التاريخ، إذ تستعير التاريخ، لا تفعل ذلك للاحتماء خلفه من أجل تمرير مقولات مّا يمكن إسقاطها على الراهن، بل هي تفعل ذلك لاستقراء ملامح التشابه العميق في سلوكيات القمع، تماماً كما في أحزان المقموعين، وهي في خلال ذلك كله قراءة روح الثقافة بصفتها أداة المقاومة الأبرز على مدار التاريخ العربي وما حفل به من أحداث شديدة السواد، موغلةً في الظلم والعسف. هنا تقدم الرواية الموازية للتاريخ أهم ما في فن الرواية وأجدره بالملاحظة، وأعني بنية الأبطال والشخصيات، الذين لا يهمنا بعد ذلك أنهم من نسيج الخيال، لأن حضورهم الآسر بتلك القوّة الجذابة من الإقناع، ينجح في استدراجنا إلى قبولهم ومحاولة التعايش معهم باعتبارهم جزءاً من وعينا الراهن في زماننا الراهن، ولعل هذه المسألة بالذات جوهر فكرة العودة إلى التاريخ لكتابة رواية، حتى وإن جاءت هذه العودة، من بوابة التصور الفانتازي وما يشتمل عليه هذا التصور من إقصاء مقصود، جميل ومبرر، للزمان حيناً، وللأمكنة المتنقلة أحياناً أخرى، خصوصاً وقد قدم الكاتب هذا النسيج الروائي كله من خلال معرفة صافية تشير إلى وعي الزمان في عتباته وتحولاته، وكيفيات تلك التحولات وأسبابها. وأنا في كتابة الرواية المستلهمة من التاريخ أخالف ‘العادة’ الأدبية السائدة في كتابة الروايات التاريخية، والتي تقوم على إعلان الكاتب منذ الصفحة الأولى لروايته أنه عثر على ‘مخطوطة قديمة’، تتحدث عن وقائع قديمة، وأن دوره يكمن فقط في نقل وقائع ونصوص تلك المخطوطات للقارئ، وهي الذريعة الفنية التي لجأ ويلجأ إليها عدد كبير من كتّاب الرواية التاريخية هذه الأيام، في محاولة لإضفاء الصدقية على أحداث صنعتها مخيّلاتهم الروائية في حين عمدت – منذ البداية- إلى استحضار التاريخ وزجّه في أتون المخيّلة الأدبية، ودفع المخيلة إلى مناوشته واستعصاء احتمالاته وتفاصيله”.
وفي ملف آخر عن “الشخصية الروائية: واقعها وحدودها وأنماطها”، نُشر في العدد 73 فبراير/ شباط 2021، كتب الذهبي رؤيته الخاصة لها، مبيناً أن “الشخصية الروائية معتدة بنفسها وباختلافها، وتمييزها، لا تشبه غيرها أبداً رغم أنها تبدو للوهلة الأولى مندمجة في محيطها بشكل كامل، تلك هي الشخصيات الأصعب، أما الشخصيات الروائية التي تنتج عن تلاقي الأضداد فهي سهلة وواضحة، رغم جاذبيتها أحياناً إن كان خالقها فناناً في نحت تفاصيلها، فمثلاً أن تُلقي رجلاً كحولياً في مجتمع متدين، أو أن تضع صبيا ملتزما بتعاليم دينية في مجتمع نسائي منفتح.. ذلك التناقض سيخلق حكايةً، وتلك الحكاية ستكون غايةً في الطرافة، ولكن ليست تلك هي الشخصية الروائية التي أبحث عنها.
فالشخصية الروائية تحرص على التخفي، وعلى عدم إظهار نفسها، متحفظة، وتمتلك من الخفر ما تملك، حذرة، عنيفة، يقظة، الشخصية الروائية لا ترغب مطلقاً في روي قصتها، بل ينبغي عليك أن تنتزع حكاياتها منها بهدوء وإقناع، هي تدرك اختلافها وهي غير مسرورة به، فجميع البشر يرغبون في النهاية في أن يكونوا متماثلين مع غيرهم، البشر العاديون يحبون الذوبان في المجموعة، ويخشون المنابر والأضواء لأنهم مشغولون بحلحلة مشاكلهم و قضاياهم الحياتية الكبيرة…
هذا الالتقاط لا يعني أبداً أن الكاتب يلتقط شخوصه ويرمي بها في رواياته دون بذل أيّ جهد، بل على العكس، فالعمل الحقيقي يبدأ من ها هنا، من لحظة رمي الشخصيات على طاولة العمل، وتشريحها وتزويدها بكمّ هائل من الأفكار التي تدور برأس الروائي، ولكن على لسان وبسلوكيات وحركات ومنطق تلك الشخصيات التي التقطتها… كتابة الرواية هي فعل يشابه فعل البناء الروتيني اليومي لمنزل كبير، كل يوم نرفع فيه سنتيمترات قليلة حتى ينتهي، والشخصيات الروائية هي أفكار وهواجس وتهويمات يعيشها الكاتب في وعيه وفي لاوعيه… في عقله الباطن ربما، يحشو بها الشخصيات التي وجدها متناسبةً مع أفكاره، وما يظنه مناسباً كي يقترب من الناس.. ولا يظنن أحد أبداً أن هنالك شخصيات في أيّ رواية في العالم هي ليست شخصيات كان قد رآها مسبقاً كاتبها في مكان مّا، حتى في روايات الواقعية السحرية والخيال العلمي والتاريخ المختلق، الكاتب خالق ولكل خالق أدواته، وتلك هي أدواتنا… يمكنك أن ترفع صروحاً من خيال، ولكن دون حجر أساس واقعي، تلتقطه من مكان ما حولك، فذلك مستحيل..”.
خيري الذهبي أسيراً
وقع العديد من الأدباء العرب أسرى في قبضة العدو، إبان أدائهم الخدمة العسكرية في الحروب، أو خلال اشتراكهم في مقاومة الاحتلال، خاصةً الفلسطينيين والمصريين والسوريين والعراقيين، وعاشوا تجارب قاسيةً وظروفاً سيئةً قاهرةً في السجون والمعتقلات وأقفاص الأسرى، وكتبوا عنها يوميات أو أعمالاً إبداعية، بعد إطلاق سراحهم أو أثناء وجودهم داخل الزنازين وخلف القضبان، وهرّبوها إلى الخارج، نذكر منهم، تمثيلاً لا حصراً: الروائي والقاص وليد الهودلي، الروائي والقاص والشاعر هيثم جابر، الروائي والشاعر باسم خندقجي، الكاتب والشاعر كميل أبوحنيش، الكاتب والروائي وليد دقة، الروائي أسامة الأشقر، حسن عبدالله، الشاعر المتوكل طه، الروائي أيمن ربحي الشرباتي، الروائي شعبان حسونة، الروائي محمد حسين يونس، الروائي عمّار الزين (من فلسطين)، الروائي والقاص فؤاد حجازي (من مصر)، القاص والروائي عبدالجبار ناصر حسين، الروائي والناقد علي عزيز العبيدي، القاص والروائي علي عباس خفيف، الروائي علي حداد، الروائي إبراهيم الزيبق، الروائي محمود كاظم التميمي (من العراق)، والروائي السوري خيري الذهبي. وقد أُطلق على كتاباتهم التي تحكي عن الأسر “أدب الأسرى”، وهو “أدب الندرة والأسرار والمكاشفة، وبيان ما هو مستبطن داخل أمكنة مستبطنة هي السجون والمعتقلات”، كما يقول الروائي الفلسطيني حسن حميد.
لم تكن تربطني علاقة شخصية إلاّ بثلاثة من هؤلاء الأدباء هم خيري الذهبي، عبدالجبار ناصر حسين، المتوكل طه، وأجد في رحيل الأول ما يدعوني إلى الكتابة عن اعتقاله من قبل قوات الاحتلال الصهيوني، وتجربة أسره في أحد المعتقلات قرب مدينة حيفا، حينما كان ضابط احتياط في قوّات حفظ السلام عن الجيش السوري، كونه يتقن اللغتين الفرنسية والإنجليزية، على الحدود بين سوريا والكيان المحتل في حرب تشرين 1973، إضافةً إلى ما أسلفت عن علاقتي الشخصية به. وقد سرد الذهبي وقائع اعتقاله وأسره في كتاب “من دمشق إلى حيفا: 300 يوم في إسرائيل” الذي فاز به بجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات، مشروع “ارتياد الآفاق” عن فئة اليوميات، التي يشرف عليها المركز العربي للأدب الجغرافي عام 2019، وصدر عن منشورات المتوسط.
يدور جزء من اليوميات في الأرض السورية، والجزء الآخر في فلسطين المحتلة، وهو الجزء الذي يعنينا هنا، ويروي قصّة اعتقاله، بتهمة أنه ضابط مخابرات، في كثير من صور وحوادث التحقيق والتعذيب، ويشرح كيف حاول المحقِّقون تجنيده جاسوسًا، أو في الأقلّ استغلال كونه كاتبًا ومثقّفًا كي يكون وسيطاً مع النظام السوريّ، وتفاصيل مهمّة كثيرة، من بينها تخلّي الأمم المتحدة عنه، وهو أحد أفرادها، وكذلك تخلّي النظام السوري، في وقت كان يمكن مبادلته بأسرى إسرائيليّين لدى سوريا.
ومن بين ما يرويه الذهبي قصة إضراب الأسرى عن الطعام، للمطالبة بإدخال الصحف وتبادل الرسائل مع ذويهم، ويتحدث عن زيارة المطران “كبوشي” التي انتهت بتقبيله، بعدما أخبرهم بأنه حلبي المولد، وأنه يعتبرهم بمنزلة بذور القمح، التي طمرت بالوحل لتنتج السنابل.
ومن المواقف المهمّة التي يتطرق إليها ذلك الموقف الذي يحذّره فيه ضابط المخابرات الإسرائيليّ الجنرال “نهاري”، الذي يتولّى التحقيق معه، من مغبّة الاستمرار في عدائه لإسرائيل، قائلاً إنه، أي الذهبي، لو احتفظ بكل هذه الكراهية ضد إسرائيل، فسيعاني كثيرًا في حياته، ليس على يد الإسرائيلّيين، بل على يد حكومته نفسها! ثم يؤكد له “نحن لن نعاقبك هنا في إسرائيل، ولكنهم حكامك ورؤساؤك من سيحاكمونك ويعاقبونك بالنيابة عنا.. ستعاني كثيراً إن ظللت معادياً للإسرائيليين”.
كما يتحدث عن الشيخ “محمد علي الجعري”، الذي جاءت به إدارة السجن لتعليم المعتقلين أمور دينهم، وهو في الحقيقة عميل للاحتلال يحرّف النصوص الدينية لمصلحة إسرائيل، وقد انتهت مقابلته برميه بالأحذية لأنه نصحهم بمحاباة السجان، ثم يتطرق إلى الضغط الذي مورس عليه، بشكل أو بآخر، ليكون رسول سلام، حسب وصف “غيدو” أو “جدعون”، الأستاذ في جامعة هداسا، الذي التقاه في السجن، لكن الذهبي تنصّل عن هذه المهمة التي “لن تسمّى بأقل من الخيانة”. وكان أغرب ما في هذا اللقاء اعتذار “غيدو” من خيري لأنه لم يقرأ بعد النسخة التي يحتفظ بها عن كتابه “بين تجربة التصنيع الزراعي في شمال سوريا والكيبوتز الإسرائيلي في فلسطين”، إذ كيف وصل الكتاب المفقود إليه؟ ويكشف الذهبي أن أسئلة المحققين معه كانت تصبّ حول مدى معرفته للغة العبرية، وما رأي الشباب المثقف في سوريا بدولة إسرائيل؟ وحين يغلق باب الحوار، وتقتصر إجاباته على اسمه ورتبته العسكرية وموقعه في قوات الطوارئ الدولية، يُتهم بالعمالة للمخابرات السورية، بناء على اعتراف أحد الأسرى بذلك بعد تعرضه للتعذيب. وبدوره يتعرض الذهبي للتعذيب، وينفي التهمة عنه، ثم يُنقل إلى سجن مجدو حيث بقية الأسرى العسكريين، وحيث يصف المكان والحياة بانتظار لحظة الحرية، بدءًا من الكيس الأسود على الرأس، والقيد البلاستيكي على الرسغين أثناء الانتقال، حتى الأحلام التي تغدو الصلة الوحيدة بالعالم الخارجي.
وكما بدأت يوميات خيري الذهبي بالعودة إلى الوطن بعد تخرجه في الجامعة، تنتهي بالرجوع إليه بعد عشرة أشهر خلال صفقة تبادل أسرى، وفي الطائرة المتجهة إلى دمشق يشعر بالتوجس وهو يتذكر تحذير ضابط المخابرات الإسرائيلي له أثناء التحقيق.