الفشل الروائي بين الإسهاب والتلفيق
من الواضح أن رواية «جحيم راهب» لشاكر نوري [1] تحاولُ تناول الأثر المترتب على الدمار الذي أحاق بالعراق عقبَ الاحتلال الأميركي، وعقبَ انتشار “داعش”، وتمزُّقِ بلاد الرافدين بين طائفية بغيضة، وتشدد وإرهاب عالمي، وصل إلى ذروته التي لم يسبق لها في التاريخ أن تكون بهذه الشراسة.
بهذه الكيفية التي نشاهدها، من قتل الأبرياء واستحلال دمائهم، مع هاجسٍ قوميٍّ ينحو إلى تمجيد الآشورية، وفي الوقت نفسه يبدو متأثراً بالماركسية، مع التحسر عليها في ظل تراجعها وانتصار الرأسمالية العالمية وانتشار العولمة، مع مناقشةِ القضايا الوجودية المصيرية حول وجود الإيمان من عدمه، دون إغفال الصراع الرئيسي بين المسلمين والمسيحيين، وبين المسلمين – المسلمين، والمسيحيين – المسيحيين، كل هذه العناصر مثلت المكونات التي أراد منها شاكر نوري أن يصنع روايةً جيدة، يقدمها للقارئ على نحو يوحي بالتجديد، والمغايرة، وتقديم شكل يتراوح بين الحداثة وما بعد الحداثة في طريقة الحكي، لكن السؤال الجوهري الذي يهمنا من الناحية الأدبية والإبداعية: هل نجح في أن يقدم إبداعاً حقيقياً يُمتعُ القارئ عند قراءته؟ إننا نقدر معه نبل القضايا والمواقف التي يعرض لها، لكن ترى هل هذا النبل وحده كافٍ لأن يجعَل من “مجموعةِ فقرات” عملاً إبداعياً يقدمُ نفسَهُ للقارئ العربي، في الثقافة العربية، منتحلاً الجنس النوعي المسمى: «رواية»؟ ذلك ما سنحاول – بهدوء – تناوله وتحليله.
يقول آلان روب جرييه «إن الكتاب هو الذي يخلق لنفسه قواعده الخاصة به، ثم إنه من الضرورة لطريقة الكتابة أن تنتهي إلى أن تشكل خطراً على هذه القواعد نفسها وتحاول إسقاطها، وربما لا نبالغ إن قلنا إنه من الضروري أن تحطم هذه القواعد في نهاية الأمر» [2] ، وهذه السمة الأساسية التي يجعلها جرييه علامةً على الرواية الجديدة، بنضجها وتحولاتها، عند تحليلها، نجدها بالأساس عملية خلق قواعد دائمة للرواية؛ فطوال الوقت يبني الروائي منطقيةً خاصةً، من خلال مكونات السرد، من أحداث وشخصيات ومكان وزمان، ومن تفاعلها جميعاً معاً، يخلقُ وظائفَ سردية، وعلى هذه الوظائف أن تكون متناغمة ومندمجة مع المكونات التي تنطلق منها؛ ومن ثمَّ، فإنه يمكننا القول إنه متى ما شذت القواعد المنطقية عن العمل الروائي، والتي من خلالها وعبرها يقدم لنا الروائي نصه، وحكيه، فإنه يمكننا ساعتها الحكم على العمل بأنه ليس ذا قيمة، أو ربما ليس عملاً روائياً من الأساس.
يشيرُ برنار فاليت إلى أن أحد أخطر الوظائف السردية التي ينتبه إليها غالبيةُ المؤلفين الكبار، هي وظيفة «التنبؤ»، فطوال الوقت، ومنذ عنونة الرواية، يحاول القارئ أن يستنبط من خلال الأسطر التي يقرأها ماذا سوف يحدث تالياً؟ [3] وإذا كان ما سيحدث مطابقاً تماماً لما يتوقعه القارئ، فإن النص السردي يفقد تشويقَهُ، بل ربما يفقد مبرر وجوده، فما الداعي أن أقرأ أكثر من مئتي صفحة، طالما أنني أعرف مسبقاً أنها عن “راهب يواجهُ جحيماً” في تحملِ رهبانيته، والمتوقع أنه سيشلح نفسه من هذه الرهبانية ويعود للحياة العادية – العلمانية؟ إن إحدى أكبر مشكلات النص إخفاقاً في تحقيق متعة جمالية، تكمن في أن الخاتمة معروفة مسبقاً منذ مطالعة العنونة، ومن ثم فلا أبالغُ إن قلت إنها «رواية محروقة النهاية»، حرقها مؤلفها منذ العنونة، ولم يكتف بهذا فحسب، بل راح يؤكد هذا الاستباق لمعرفة ما سيحدث في خاتمة الرواية، عبر تأكيده مراراً وتكراراً، ليجعل من عملية قراءة النص، وتوقعِ ما ستؤول إليه الأحداث، عملية مملة جداً، من الصعب على القارئ الذي يقرأها – من أجل الاستمتاع وليس من أجل النقد أو الدراسة الأكاديمية – من الصعب جداً عليه إكمال هذه الرواية الرتيبة لنهايتها.
ترى من يمكننا اعتباره شخصية رئيسة للنص؛ هل هو «جوزيف»، أم «إسحق»؟ والمفترض أن «جوزيف» علماني ماركسي يساري لا يؤمن بسلطة الكنيسة، ويجد نفسه – وقد أسقط في يده – رئيساً لديرٍ يحاول أن يطبق فيه نظريات الماركسية عن المشاعية، معطياً إياها طابعاً روحياً، يخلطُ بين تعاليم المسيح، وبقايا الموروث الآشوري، بينما «إسحق» مسلم هارب من بغداد، لا يمثل له الإسلام تلكَ التعاليم الواضحة، وليس لديه موقف واضح من بقية الأديان، لخصها بقوله «ليس مسلماً تقليدياً»، وكلاهما لاذ بالدير لكي يختبئ فيه، ويواري هزائمه وخيباته، كما أنه أصبح المكان الوحيد الذي يمكن أن يعيش فيه من دون أوراق، ومن دون إثبات لشخصيته، لكن شرط هذا العيش هو التظاهر بعبادة المسيح، واتّباع تعاليم المسيحية الخاصة بالرهبنة، من أجل الارتقاء بالروح، وعلى خلفية هذه التعاليم، التي يتخذها المؤلف ذريعة لكي يندد بالتدين والإيمان، وبالأحداث التي جعلت الأمان يختفي من بغداد، لا يعلي إلا من قيمة شيئين اثنين: التاريخ الآشوري، والماركسية، فترى أيهما ما تدور حوله الأحداث؟ وأيهما البطل الحقيقي للرواية، خاصة أن الراوي هو «إسحق»؟
إن إحدى أهمِ النقاط التي ينتبه إليها الناقد في النص الروائي تحديداً هو الزمن، وتقسيماته المختلفة، التي كان للسيميائية والدراسات المتعددة بدءاً من الشكلانية حتى التفكيكية، دورٌ كبيرٌ في إيجاد تأطيرٍ زمنيٍّ واضح لدراسته وتحليله، حتى أنه يتم الفصل بين كلٍ من: زمن الأحداث، وزمن الحكي، وفي داخل كل منهما تفاصيل كثيرة ليس مجال التفصيل فيها الآن [4]، لكن من حيث زمن الحكي، فإن هذه الرواية يتم حكيها وتقديمها للقارئ عبر ثلاث ساعات، هي المسافة التي يستغرقها الراهب “إسحق البغدادي” من مطار بيروت، إلى مطار روما، وعبر الاسترجاعات وتقنية التذكر، يقدم لنا “إسحق” من خلال ذاكرته، أحداث الرواية، وبين هذه وتلك، يستفيق على هياجه الجنسي تجاه المضيفة الروسية “نتاشا”، وتنتهي الرواية، بهبوطه من الطائرة، وقد شلح عنه زي الراهب، وقرر وهو في سن الخمسين، أن يعيش حياة الشحاذين الذين يستدرّونَ عطفَ الناس عبر رسوماتهم، معبراً عن كُفرهِ بكلِ القيم التي انطلق منها، وبكل ما ذكره خلال الرواية عن سموه الروحي، وعن اجتيازه العقبات السبع في الوصول إلى السماء، وحتى عن جهد “جوزيف” في إيجاد دير مشاعي به علاقات مفتوحة بين الرهبان والراهبات، ويزرعون الأرض ويحرثونه، ليهرب “إسحق” من جحيم الرهبنة، وهي التي كانت له في وقت من الأوقات، ملاذاً آمناً من القتل والتشرد والضياع!
إن الحوار المتخيل عن المحاكمة الوهمية التي أقامها «البابا» للراهب «جوزيف»، والتي سأكتفي بسرد مقطعٍ منها، يمكن أن يكشف لنا بعده السبب الذي حال دون نجاح “العناصر” التي أراد الكاتب أن يجعل منها عملاً روائياً، لكي تحقق إبداعيةً جماليةً، فلنتأمل هذا الحوار:
- “أيها الأب جوزيف، هكذا تخون تعاليم يسوع؟
اندفع الأب جوزيف إلى الأمام، وأظهر صوته بكل قوته:
لم أفكر يوماً، يا صاحب القداسة، في خيانة تعاليم يسوع.
فانفجر البابا صارخا:
- أليس ما تفعلونه في الدير خيانة؟
الظروف التي ألمّت بدير الأيقونات، يا صاحب القداسة، كان علينا أن نفكر في أرزاق ثلاثمئة راهب وراهبة.
نزل البابا من كرسيه، وهو يمسك بمقبضي الكرسي المطلي بالذهب.
وماذا ينفع إذا قضيت على الروح وأشبعت البطن، ألم يمت يسوع فقيراً، ومعزولاً وبتولياً؟
هل نتبع خطوات يسوع أم نقلده، يا صاحب القداسة؟
أتجرؤ على قول ذلك؟
ثم صرخ:
هيا اخرج من هنا، لا وقت لديّ أهدره معك.
دعني أشرح لك، يا صاحب القداسة.
هب البابا صارخا:
أنت خرّبت حياة الرهبان والراهبات، ماذا تشرح لي، أيها القس البائس، أنت وضعت جميع الآثام على ظهورهم، هل تعتقد أنك ستنجو من الجحيم؟
ثم أمسك بثيابه، قائلا:
ألا تتذكر اليوم الذي جئت فيه الدير، ممزق الثياب، جائعاً، وها أنت الآن في أرفع مكانة؟
كان على رهبان الدير وراهباته أن يفكروا في ملء بطونهم.
هذا كلام الشيوعيين! وماذا عن مساعدات الفاتيكان لكم؟
مساعدتكم، يا صاحب القداسة، لا تكفي لعشرة أيام” (ص186-188).
وهذا الحوار هو جوهر ما يرغب شاكر نوري أن يقدمه في روايته، محاكمة للمسيحية من منظور ماركسي، ومحاكمة للماركسية من منظور إيماني، ثم تلميح – على استحياء – لأحوال المسيحيين تحت الاحتلال الأميركي في العراق، مع مفارقة أن الأميركان مسيحيون بالأساس! ومحاولة لمداعبة الغرائز حول الجنس من خلال استحضار تخيلات جنسية بين الراهب “إسحق”، والمضيفة “ناتاشا”، والتي تظهر بوصفها موافقةً على كامل رغبات ذلك الكهل المنتحل صفة الراهب، دون حضور حقيقي لها، إن كل عنصر بمفرده يبدو جيداً، لكن ترى، ما الذي يجعل هذه العناصر عندما تضاف معاً تظهر في صورة إخفاق كامل بعيد عن الإبداع الفني وعن الجنس الروائي؟
من منظور أسلوبي، أعتقد أن ما حال دون تحقق الفنية والإبداعية في هذه الرواية نقاط كثيرة، أهمها عدم نجاح المؤلف في إيجاد «بؤرة» أو منظور يتناول منه الأحداث، خاصة أن هناكَ انقطاعاً في الصلة بين الراوي، وبين ما يرويه، خصوصاً حكايات “إسحق” عن “إسكندر” ابن “جوزيف”، فلا نعرف كيف يعرف “إسحق” كل هذه المعلومات، ومن أين جاءت، حتى الأوراق التي أعطاها له “سامر”، لم تكن كافيةً لكي تبرر لنا كيف دخل “إسحق” في قلب وعقل “إسكندر” وعرف ما يرويه عنه، إن المنطق يتهافت ويقع مع كل تدقيق يحدث في ثنايا هذه الرواية، ورغم كون العمل الأدبي قائماً على الخيال، فإن هناك مفارقة تكاد تكون الحد الفاصل بين الإبداعية من عدمها وفق ما يذكره الدكتور نفلة حسن أحمد من أنه متى روت أيّ رواية عن شخصية حقيقية، فإنه يجب أن تضيف إليها أبعاداً خياليةً، والعكس صحيح أيضا، متى روت أيّ رواية عن شخصيات خيالية، يجب أن تضيف لها أبعاداً حقيقية [5]، وهذه الأبعاد غائبة هنا تماماً، وفي أكثر من مرة يغيب المنطق تماماً، كيف يمكن أن نتخيل، مثلاً، أن يتمثل موقف الشرطة بالصمت المطلق عن الدير رغم قول الضابط لهم «أنتم دولة داخل الدولة؟»، كيف نتخيل أن يُخدَع الرهبان بكلام “جوزيف” ويقبلوا ترك حياة البتولية داخل الدير من أجل تنفيذ ما يراه “جوزيف” أنه من تعاليم المسيحية؟ من ذلك الذي قتل “شربل”؟ ولماذا؟ وما الفائدة من ذكر حادثة القتل؟ ما الفائدة من الوقائع التي يتم ذكرها والاستطراد فيها لصفحات طويلة من دون أن يتم توظيفها فنياً؟
عشرات علامات الاستفهام يمكن وضعها أمام هذا الجهد المهدر بلا طائل لنظم عمل لا تنتظم عناصره، ويبدو مؤلفه كمن قام بإعداد قطع فريدة لكي يضمها معاً في عقد من الجواهر، لكنه لم يجد الخيط الذي يضم به هذه القطع إلى بعضها البعض؛ فجاءت الانتقالات بين أجزاء السرد مزعجة جداً، فلا نعرف المؤشر والمعيار الذي نستفيق فيه من ذكريات “إسحق”، لكي يغازل قليلاً “ناتاشا”، ثم يعود ويغرق في ذكرياته، ثم لا – على نحو مفاجئ – يستفيق ويغازل “ناتاشا”، وهكذا على امتداد الحكي.
وكل الإخفاقات السابقة لا توازي الإخفاق الأخير في ختام الرواية، فإذا ما اتفقنا مسبقاً أننا نعرف منذ العنونة أن هناك راهباً يعيش حالة من العذاب كمن يعيش في الجحيم، وأن من المتوقع طوال الوقت أن يترك هذه الرهبنة، من ثم فالخاتمة “منتهكة” ومعروفة منذ لحظة العنونة وأن يأتي استغراق سبع صفحات يصف فيها فعل خلع زي الراهب في حمام الطائرة، وارتداء زيٍ مدني، لكي ينسلّ من الطائرة من دون أن ينتبه أحد له، بدءاً من الصفحة 218 إلى 224! ورغم أننا كنا نتوقع أن يأتي بهذا الحدث على نحو المفاجأة الفارقة غير المتوقعة، وأن يكون سريعاً وخاطفاً، وتعبيراً دالاً عن اقتناص الفرصة التي قدمها له الفاتيكان لكي يدرس فيه، لكي يهرب منها إلى الحياة المدنية، إلا أنه استغرق كل هذا الكم من الوصف وتأكيد ما سيفعله بعد مغادرة “الجحيم” الذي عاشه، فالأمر الذي لا يحتاج سوى إلى بضعة أسطر يخلع فيها ثيابه ويندمج مع الجمهور، يستغرق من الكاتب هذه الصفحات الطويلة، وتوضيح العلاقة والكيفية التي يمكن من خلالها أن يعرف “إسحق” ما كان يدور في ذهن “إسكندر” ابن “جوزيف”، لا يشغل المؤلف باله لكي يقيم عليها الحجة والبرهان، أو يحاول أن يمنطق لها سردياً، وكلها علامات إخفاق روائي هائل.
شاعر وناقد مصري مقيم في الخارج
[1] – شاكر نوري: جحيم الراهب، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، 2014.
[2] – آلان روب جرييه: نحو رواية جديدة، ترجمة: مصطفى إبراهيم مصطفى، تقديم: د.لويس عوض، دار المعارف، د.ت، القاهرة، ص 21.
[3] – أنظر: برنار فاليت: الرواية: مدخل إلى مناهج التحليل الأدبي وتقنياته، ترجمة: سمية الجراح، مركز دراسات الوحدة العربية، 2013م، بيروت – الدار البيضاء، ص 155.
[4] – راجع: سعيد يقطين: الخطاب الروائي: الزمن – السرد – التبئير، ط3، المركز الثقافي العربي، 1997م، بيروت – الدار البيضاء، ص 69.
[5] – د. نفلة حسن أحمد: التحليل السيميائي للفن الروائي، دراسة تطبيقية لرواية الزيني بركات، المكتب الجامعية الحديثة، 2012م، الإسكندرية، مصر، ص 38.