أجراس يوم شتائي
ها هنا شجرة ذاهبة في غبش اللون
ورطوبةُ الموتِ
على المنحنى الضيق
للمنعطف
في الجبل الغريب،
الحديقة الرخامية لنُصُبِ الموتى
شواهدها أرتال منتظمة من الجند
صفوفٌ خلف صفوف،
ولا سبيل لأعبر – كما في مقابر الشام-
نحو أزمنة ووجوه وحجرات تسبح في بحر الضوء
عبر حروف نقشتها على الشواهد أيدٍ غابرة .
لا سورَ لهذي المقبرة
ولا بابَ
وليس للباب أقفال من حديدٍ يكسوها الفطرُ الأخضر
ولا حارسَ يتلو آيات الليل
لا آسَ ولا أشجار كينا
لا شرائطَ ملونة يعقدها زائرون على أغصان الأكمات.
لا أحد يرشّ الماء
لا نائحةٌ
ولا طفلَ يوزّع الكعك على الأرواح في البريةّ.
هذا قبر قاتل أمضى حياته
مستترا بثياب ساعاتيّ أبكم
وهذا قبر شاعرٍ يائس
قتلته الطبيعة والولع بالأنهار الغادرة
حفروا قصائده القصيرة على حجر لامع.
هنا يرقد مهاجرٌ أتى من خلف جبال الموج
بهجتُه أنه لم ينتهِ به الحال في لجة أسماك جائعة
أو بمفاصل يبست في غابة مظلمة ولحية يكسوها الصقيع.
قبرٌ تلوذ به بومة من مرمرٍ
تحك ريش رأسها بحافته الهابطة
والكتاب الحجري أبيضُ الصفحات
يتصفّحه الهواء على قبر معلّم أطفال بشاربين أبيضين.
ذاكَ قبرُ راقصة ذهبت في السديم
بثياب مزّقها السكارى
ليلةَ هاجم الثلجُ التلالَ
والأزقةَ المرصوفة بالوحشة والصمت.
هنا قبر سائق عربات تجرها خيول فظة
عاش في زمن القيصر الذي زار دمشق
قرنفلٌ زجاجٌ ينبثق من شاهدة قبر خادمةٍ
والممرات بين الشواهد تفضي إلى ممرات.
لجدّ الصيدلانية ذات النمش البارد
في المبنى القديم وسط المدينة
قبرٌ أسندت إليه صورة حائلة اللون
أطراف من البازلت بعروق النحاس ترفع الشاهدة شبرا عن الأرض
ومن تحتها يندفع الورق الأصفر لخريف المدينة.
لا جثامين تحت الشواهد
ولا أجساد تتحلّل في التراب
العشب الذي أعاد إليّ صوتي راح ينبت على الهواء
الأرض تلفّ جذورها على الفراغ أسفل الأحجار الثقيلة
والريح ترَجم الشواهد بالمطر.
أرواح مقبرة الجبل
لا تبرح مكانها
والغروب يمزجها بألوانه
كما يفعل الفجرُ.
نحّاتٌ ماكر
بائعُ شواهد القبور الأشقرُ
بنى مقبرته نكايةً بالموت
وفيما منجل الطيف الأسود يعصف بالأحياء
يهوي النحّات ذو الرأس الذهبي بإزميله على رخام الفَنَاء.
نهران
حجارة الوادي فَجّرَت دماً
سالَ في نهرينْ
على سريريهما مالت الأشجار
ومن غيب هبطت بَجَعاتٌ بيضٌ
الماء تحت الجسر حمل طيور الثلج
البجعات لا تخرجن إلى الضوء
ولا تبقين في العتمة
والنهر حين يندفع تشطره الأرضُ
وتفوز من موجه
بخفقة
ومن ثم تثنيه ببوقِ نافخِ الزجاج.
أذان الأموي
الخطوُ هنا اليومَ
كالخطوِ بالأمسِ
على دَرَجُ المدرسة الجوزيةّ الحجريُّ
أدلف من بابٍ ضئيلٍ يختفي في شقّ جدار
وحين تنشر سكراتُ الغفوة ساعاتِ الظهيرة
في الطريق القديمة دخانا رمادياً
لا ترى العينُ وجوه العابرين
بل ترى العينُ وجوه العابرين
تقترب وتكبر وتم ضي
ثم تقترب أكثر وتغيبُ
باعةُ الخَرَزِ
والحكواتيةُ
حَمَلةُ مَواقدِ الجمرِ
والآتونَ من الغَيْبَ
يذوبون في اللحن
والمقاماتُ دخانْ.
أوزانٌ في سوق السبت
الكتلَ المعدنية الوازنة
الهائمةَ
تحت سقف السوق
في ما يعرضه الوَرَثةُ مما ترك الآباء
وقد حرس الصدأ بصمات أصابعهم؛
الربع
والثلث
والنصف
والكامل
الأثقالُ تزن الآن ما لا يبصره عشّاق الخردة
في كفتين من أزمنة ومطارحَ شتى
الحديد يتناثر ذرات
رائحة القِدم تفوح كعطرٍ ركّبه الشرقُ
وحملته السفنُ إلى البعيد..
ما أنتَ سوى
ميزانِ شوقٍ قديمٍ
حمّلتهُ الريحُ ما أرادت
وظلّ يعلو ويهبطُ
يعلو ويهبطُ
يعلو ويهبطْ.
حمأة حبر
لا زلتُ أبحث عن محبرةٍ
بحجم حبة الجوز
قد يكون خزفُها صينياً
وربما كان تركيا أو أذرياًّ
أو زخرَفَتْهُ أيدٍ قفقاسيةٌ
عبرتِ الفراتَ شرقاً
ثم عادت وعبرته شمالاً
واستقرّت في خزانة الزجاج المغشّّى..
سنينَ طويلة
لا صوتَ ولا حركة
الريشة ما عادت تنغمس وتلتمع
حمأة حبرٍ بقيت في قعرها
بخلائط العَكَرِ الداكنَ
دليلا أوحدَ على وجود الغائب
وفي عَصْفٍ مجنونٍ
تكسّرت جدرانُ المحبرةِ
وبقيت حمأة الحبر بلا خزفٍ
تطفو في الهواء
روحا أخرى فارقتُها ولم تفارقني.
أَسْر
أذناي لا تسمعان صوتيَ
يسكنهما
همسٌ قديمٌ
لا يهدأُ
الكلماتُ أجراسُ يوم شتائيٍ
وبين المصلين والعتبات يتنزه الضباب
أجراسٌ تقُرعُ خافتةً
من كوّة البُُرجِ
الصوتُ يغدو غيمةً
والكلماتُ قضبانَ زنزانة
والوقتُ كلَّ العصور.
حُريّة السائمين
ا
لنادرونَ
العازفونَ
الصامتونَ
الهائمونَ بالفضّةِ أبعدَ من تماثيل الكلس
من بواباتٍ ذات أسماءٍ
أدنى من طرقات المدينة
المرصوفة بمكعبات الحجر
الساكنون في نوافير الماء
المأخوذون بالليلِ الطويل،
بنقيض النار في علب الصفيح
بالأكفّ المحمرّة برداً
من خلفها الأنوفُ والوَجناتُ
بزوايا في دروبٍ أضاءتها الشموعُ
وأوقدها مجهولونَ
مضوا سِراعَ الخطى إلى ظُلمةِ الأحياء.
أسئلة الحديقة
ما الساقيةُ بلا حركة؟
ما بوابة الورد بلا أغصان تتسلقُ؟
ما الكرسيُّ المائل في التربة غاب عنه الجالسون اليومَ؟
حوضُ ”الكُحل“ من غير انثناءات الأزرق والأحمر؟
سرُّ الدودة والطير إذ يحول بينهما الزمنُ؟
سماء المطر الخفيف تحجبه الريحُ؟
والعشبُ ما حدودُ امتداده؟
البلاط يعلوه الطحلبُ يتباعدُ في الوحل
موعدُ الزهر يتأخّرُ عن ساعة الغوطةِ
والدرّاقُ الذي مدّ أذرعَهُ إلى نافذتي يقتله الصقيعُ
الياسمين يتمطّى في بقايا شمسٍ
في رأسي لا في التربة
تنبتُ هذي الحديقةُ
وكلما عصفت بي الأفكارُ
انكمش الغصنُ
وتبدّلت أمزجة الوردْ.