أزمة معيشة جديدة وأزمة ثقافة قديمة
لا أعرف إن كانت سبحة مقاطعة الثقافة، أو المنتج الثقافي، في عالمنا العربي قد اكتملت بانفجار أزمة المعيشة الأخيرة. يصور لك الفرد العادي في بلادنا كلفة الاهتمام بالثقافة وكأنها كلفة باهظة وفوق تحمل ميزانية الموظف. مررنا بمراحل طويلة من التملص وعدم الاعتراف بأن المشكلة أساسها عدم الاهتمام وليس عدم توفر الإمكانية المادية. ما هي هذه الكلف وكيف تقارن بمعدلات الدخل في العالم العربي، تبدو أسئلة جدلية بلا إجابة وافية.
بداية، ولطرح الأمر موضوعيا، ينبغي استبعاد مواطني منطقة الخليج من قضية الكلفة الباهظة. معدلات الدخل في دول الخليج للمواطنين ولنسبة معقولة من الوافدين العرب مرتفعة. من الصعب تخيل أن شراء كتاب أو مجلة أو تذكرة مسرح تعد مشكلة ينبغي التحسب لها في الميزانية الشهرية، لا قبل أزمة المعيشة ولا بعدها. لا أظن أن تذكرة عرض مسرحي ستزيد عن تذكرة حضور حفلة لنانسي عجرم أو جورج وسوف أو محمد رمضان. القاعات تبدو مكتظة، ومديرو الحفلات لا يحتاجون إلى الكثير من الترويج لاجتذاب الحضور. الدخول إلى المتاحف والمعارض في الخليج مجاني أو شبه مجاني، ولكنها تشكو من انعدام الزائرين.
الحجة التي تسبق ضيق الحال لدى بقية مواطني العالم العربي كانت أن الكتاب غالي الثمن. أي كتاب غالي الثمن. لو بيع بدينار أو خمسة دنانير أو عشرة هو غالٍ. نسف عالمنا العربي قواعد النشر بسبب هذا التشكي. صار المؤلف يدفع لكي يطبع كتابه ويوزع. صار الناشرون مشاريع مطابع أكثر منهم قائمين على دور نشر. مكتبات بيع الكتب تغلق أبوابها حتى في عواصم عرف عنها بأنها تقرأ. قبل أشهر أغلقت مكتبة أنطوان في بيروت، وقبلها مكتبة واي إن. وباء كوفيد سهّل على أصحاب المكتبات اتخاذ القرار. لكنه قرار مؤجل أساسه عدم جدية المطالعة في عالمنا. لم نسمع منذ زمن طويل عن افتتاح مكتبة بيع كتب جديدة. حفنات القراء، كي لا نربط الأمر بالمثقفين، يدعون أن تصمد المكتبات وتبقى مفتوحة.
المكتبات العامة نفسها، حيث الاستعارة مجانية أو مقابل اشتراك سنوي رمزي، تعاني من نقص المرتادين. هذا قبل كل الأزمات والوباء، بل وقبل حجة أن الإنترنت توفر البدائل. لا أحد يريد الردّ على تساؤل لماذا المكتبات العامة في الغرب حافلة بالمرتادين، وهم أهل الإنترنت ومن خلقها من العدم، بينما تصفر أروقة مكتباتنا العامة من خوائها؟
ما يقال عن الكتاب الغالي الكلفة، يقال أيضا عن تذاكر المسارح والمعارض والمتاحف والسينمات. شيء يهز معنويات الممثلين الشبان، مهما بلغت من التماسك، أن يتدربوا شهورا على أدوارهم في مسرحية تنتهي بعرض واحد أو أسبوع على أبعد تقدير. وحيال مثل هذه التجارب المسرحية أو الفنية، لا يعود ثمة معنى لجهد نقدي حقيقي، ويصبح ما هو متداول لا يزيد عن اكتب عنّي لأكتب عنك.
الآن استوفت العاصفة عناصرها الكاملة. لو تسأل المواطن العربي العادي عن اهتمامه الثقافي، فإن رد الفعل المتوقع هو الإشارة الصماء باليد نحو الفم. نريد أن نأكل الآن، وليس أن نقرأ. نريد أن نملأ خزان الوقود في السيارة، وليس أن نذهب إلى مناسبة ثقافية. ما في جيبي للغاز والكهرباء كي نحسّ بالدفء في شتاء قارس قادم أرعب الغرب قبل أن يصل إليه، فكيف بحالنا. لا شك أن أحدا لا يستطيع أن يجادل أمام هذه الحجج. هذه حجج غريزية للبقاء. الثقافة، سواء أكانت شراء كتاب أو حضور معرض، ترف لا مكان له في زمن الأعاصير.
لا شك أن أحدا لن يكلّف نفسه طرح سؤال بسيط: هل وصلنا إلى هذه الحال لأننا لم نكن نقرأ؟ الوعي الجمعي السائد في العقدين الأخيرين هو وعي شفاهي صنعته الفضائيات، أو تغريدات على منصات التواصل الاجتماعي بلغة عربية مكسورة لا تزيد جملها عن 150 حرفا. الغضب المتولد من هذا الوعي الشفاهي هو غضب سياسي على أنظمة الحكم، ولكنه بالتأكيد ليس غضبا من الذات في محاسبتها على تخلفها عن مواكبة العصر. القدرية أسلوب حياة يواكب الامتناع عن تلقي المعارف. إنه استسلام ذهني عميق، نتيجته الطبيعية لغة الصم والإشارة باليد نحو الفم وليس أعلى الرأس. مذهلة سلبية منطقتنا أمام انتشار الوباء وانتشار الجفاف وانتشار الجوع. لماذا إذا نتوقع أن نتحرك بإيجابية ضد انتشار التخلف؟