غراب السّطح
ابتعد عن البيت مسافة تقارب نصف كيلومتر، ثمّ استدار ليرى الغراب مُنتصبا على سطح البيت أسود، بشعا، كبير الحجم. وهو على يقين من أنّه يُنذر بشرّ مّا وإلاّ لم أختار أن يحطّ على سطح بيته كلّ صباح من دون سطوح بقيّة بيوت القرية. وقد تعوّد أن يطرده. أما اليوم فلم يفعل ذلك لأنه لم يعد مهتمّا بما يَتَوَعّدُ به. والصّفعة القويّة التي تلقّاها من زوجته حال نهوضه من النوم، والتي سببّت له دوارا كاد يُسقطه أرضا، أشعرته أنه لم يعد له لا مكان، ولا أمل في الحياة. والمرحومة والدته على حقّ عندما قالت له في آخر لقاء بها، بأن الرجل الذي تُهينه زوجته لا يستحقّ أن يمشي على وجه الأرض، ومن الأفضل أن يدفن نفسه بنفسه. وبعد صفعة هذا الصباح، هو يشعر فعلا بأنه كائن ملطّخ بعار أبدي، فاقد لأيّ صلاحيّة. ثمّ بأيّ وجه سيجالس رجال القرية مُستقبلا، وبأي لسان سيشاركهم الحديث. وبأيّ قامة سيذهب إلى السّوق بينما الأصابع مصوّبة نحوه، والألسن تلوك ما تهامست به عنه البارحة، وقبل البارحة… وبعد الصّفعة التي رنّ صداها في القرية كما لو أنه صدى طلقة ناريّة، هل سيكون قادرا على أن يركب زوجته… لا… لا… أبدا …لن يكون بمقدوره أن يفعل ذلك، بل هي التي ستركبه مستقبلا، وبإمكانها أن تضع في دبره ما تشاء! وعلى أيّ حال هو أصبح عاجزا عن ركوبها منذ أشهر طويلة. وكلّما همّ بها، خانه صاحبه، وتقلّص حجمه ليصبح بحجم حشرة صغيرة بين فخذيه. وصديقه عمار تعوّد أن يقول له بأنه من حقّ الزوجة التي لا يُشْبعُها زوجها أن تفعل به ما تشاء، وأن الرجل لا يغلب المرأة إلاّ إذا كان له واحد صلب مثل قضيب من نحاس. والصّفعة التي تلقّاها هذا الصباح أمام طفليه الصغيرين إشارة واضحة أن زوجته هي الغالبة الآن. لذا هي قادرة مستقبلا أن تتربّعَ على صدره، وأن تدوس عليه بقدميها، وأن تحشو هراوة في دبره متى يحلو لها ذلك… قبل كانت تكتفي بالكلام… مشْك راجل… موسّخ وحالتك تُكْربْ… كاينّكْ كلب بلا موالي… وريحتك أنتنْ من ريحة الجيفة… ابعد عليّا… ما عادش نحب نشوف منظرك المنحوس… وما عادش نحبك تقربني وإلاّ تمسّني.. راني نولّي شوكة، وإلاّ عقرب تلسعك لسعة تهزك طول لجهنم… أما مستقبلا فستتوالى الصّفعات التي ستقتله ببطء، عرْقا بعد عرق، ونَفَسا بعد نَفَس…
صباح كامد بلون آثار لكمة قويّة. السّماء تغطيها سحب بدت شبيهة بكتل من الغبار الكثيف. الطريق ينحدر باتّجاه الشرق مُستقيما، فارغا. على جانبيه حقول يبّسها القحط فانبسطت عليها وحشة ينقبض لها القلب. مارّا أمام بيت كئيب بدا وكأنه متروك منذ زمن بعيد، اصطدمت قدمه اليمنى بحجر فسقط على الأرض الجافّة الصلبة. لدقائق ظل مُغْمضا عينيه في انتظار أن يخفّ وجعُ السقطة العنيفة خصوصا في الجبهة، وفي الحزام… حين فتحهما، وجد عند رأسه شيخا يابس الجسد، ضيّق العينين، تُبَقّعُ وجهه بثور سوداء، وعلى رأسه مظلة واسعة من السعف. وكان ينظر إليه بشفقة مشوبة بالريبة والحذر. وهو يحاول النهوض عاضّا على شفتيه، سأله الشيخ:
– لا باس يا وليدي؟
– لا باس …
– تحب شريبة ماء؟
حرك رأسه موافقا…
بخطوات ثقيلة متعثرة، انطلق الشيخ إلى البيت الكئيب، ومنه عاد بزجاجة ماء بلاستيكية…
شرب نصفها…
– بالشفاء يا ولدي
– ربي يشفيك
عاد الشيخ ينظر إليه بنفس الشفقة المشوبة بالحذر والربية، ثم قال له:
– يظْهرلي فيك مريّضْ يا وليدي…
– لا… لاباس… لاباس … الحمد لله…
– إن شاء لاباس وربي يسترك من كل بلاء يا وليدي…
– بارك الله فيك…
واصل سيره عاضّا على شفتيه من حين إلى لآخر بسبب الألم. اجتاز واديا جافا ليجد على يمينه مقبرة صغيرة تغطيها أعشاب جافة. توقف عن السير، وراح يتأمل القبور التي تقشّرت، وبهت لونها الأبيض ليصبح عاكسا أكثر لمأساة الإهمال والنسيان والموت. وفي لحظة مّا، رأى نَعْشَه محمولا على أكتاف رجال القرية باتجاه المقبرة وهم يرددون: اليوم يا رحمان هذا عبدك… وبعد صلاة الغائب يرمون به في الظلمة الأبدية، ثم يعودون إلى بيوتهم… وسرعان ما ينسونه مثلما نسوا كثيرين من قبله…هزّتْ جسده رعشة كأنها صعْقة كهربائية، وأحسّ برغبة في البكاء… نعم تلك هي النهاية التي لا مفر منها لأحد… وهي آتية لا ريب فيها كما يقول إمام القرية…
غارقا في همومه السوداء، قطع مسافة أخرى من دون أن يَنْتَبه إلى أيّ شيء أمامه، أو خلفه، أو على يمينه أو يساره… فجأة وجد نفسه على مشارف بلدة العلا التي تبعد عن قريته 15 كيلومترا… النّار المشتعلة في صدره جعلته يقطع مسافة مديدة من دون أن يشعر بذلك… عمار على حقّ في ما قال… لكن كان عليه أن يضيف بأن قضيبا من نحاس لا يكفي وحده لإرضاء امرأة، والتغّلب عليها، بل لا بدّ من المال أيضا. والرجل المفلس مثل الرجل المخصيّ. لا فرق بينهما لا بالتّقوى، ولا بغيرها… وهو الآن مَخْصيّ ومفلس! فأيّ لعنة حلّت به؟ وأيّ دعاء شرّ ساقه إلى هذا المصير الأسود؟… منذ ما يربو على العامين وهو بالكاد يقدر على تأمين القوت لعائلته الصغيرة. وكلّ الحاجيات التي تفرضُها الأعياد، والمناسبات الكبيرة لا يتمكّن من الحصول على القليل منها إلاّ ويكون مُجبرا أن يَسْتدين من هذا أو ذاك من الذين لا تزال في قلوبهم بَذْرَة من الرحمة والشفقة على الآخرين. والبلاد كلّها في حالة من الغليان والاضطراب الدائمين. وفي كلّ يوم أخبار أشدّ سوءا من أخبار الأمس. ولا شيء في الأفق يبشّر بتحسّن الأوضاع …تفووووه… ألف لعنة ولعنة على الحكام القدماء الذين فرّوا بعد أن ملأوا جيوبهم، وعلى الحكام الجدد الذين جلسوا على الكراسي الفخمة بعد تلك سمّوها “انتخابات شفّافة”، والتي لا ينقطعون عن تمجيدها، والتنويه بها في الاذاعات، والقنوات التلفزيونيّة… كلهم كلاب ولصوص وأنذال… والخاسرون دائما هم المخصيّون والمفلسون أمثاله… يرحل الحاكم القديم، ويأتي الحاكم الجديد، والعريان يبقى عريانا، والمخصيّ مخصيّا، والجائع يظلّ خاوي البطن، يستجدي اللقمة فلا ترحمه لا الأرض ولا السماء… وهو تحمّس في البداية لأصحاب اللحيّ ظانّا أنهم أتقياء يخشون الله ورسوله، لذا سيكونون صادقين في أقوالهم، ومُخلصين في أعمالهم. وفي “الانتخابات الشفّافة” صوّت لهم من دون تردّد. بل أقنع أخاه الأكبر الذي لم يكن واثقا منهم بأن يفعل مثله. لكن ها أن الأيّام تكشف أنهم هم أيضا يعشقون الكراسي الفخمة، ولا يفكّرون إلاّ في ملء جيوبهم، وخدمة مصالحهم، ومصالح أقاربهم تماما مثل السّابقين، بل أكثر منهم غالب الأحيان. والآن لا يكفّ أخوه الأكبر عن لومه ، وتقريعه قائلا له بأن أصحاب اللحيّ الذين لا ينقطعون عن الادّعاء بأنهم أبناء الله، هم في الحقيقة أشدّ مكرا وخبثا من الشياطين!..
العلا في يوم سوقها الأسبوعي… ضجيج وصخب عال… شوارع مُزدحمة بأناس من مختلف الأعمار يَتَعَجّلون السير وسط غبار كثيف، وعلى وجوههم اليابسة هموم الأيام الكالحة، ومخاوف حاضر مُضطرب، ومستقبل مجهول… نداءات الباعة تختلط بآيات قرآنية، وبأغان بدوية تصحبها دقات الطبول، وأنغام المزامير… بين وقت وآخر، ترتفع شكاوى الشحاذين المُطرّزَة بالابتهالات، وطلب الصدقة والرحمة والغفران…
راغبا في استراحة تُخَفّفُ عنه تعبَ المسافة المديدة التي قطعها راجلا، أسْنَدَ ظهره إلى حائط أحد الدكاكين… مدّد ساقيه، ثم راح يُراقبُ حركة السوق… وفي لحظة ما، عادت به الذاكرة إلى ماض بعيد عندما كانت العلا قرية وسخة، أكثر بؤسا وشقاء من هذا الزمن… بدكاكين خشبية عليها يتراكم الغبار، وتراب العواصف… وفي يوم سوقها الأسبوعي، تتدفق عليها جموع غفيرة من البوادي القريبة والبعيدة فتسْودّ من كثرة الأحمرة، وسائل النقل الوحيدة في تلك الأيام… وهو كان في الثامنة من عمره لما رافق المرحوم والده أول مرة إلى سوق العلا… بعدها أصبح الذهاب إلى العلا في يوم سوقها الأسبوعية أهمّ حدث بالنسبة إليه…الأيام الأخرى تكون رتيبة مملة، مَوْسُومة بهدوء ثقيل يُكدّرُ روحه، ويُصيبها باكتئاب لا تخفّ وطْأته إلاّ عندما يجد نفسه مُنخرطا في حركة السوق الهائلة، مُختلطا بتلك الجموع الصاخبة التي تُنسيه جمودَ القرية المُريع، وسكونها الشبيه بسكون المقابر…
تحسّس جيبه. عنده أربعة دنانير. سيأكل “كفتاجي”، وسيشرب قهوة. بعدها يعمل الله دليلا. على أيّ حال لن يعود إلى البيت. وربما يقضي الليلة عند أخته التي تعيش في العلا، أو قد يكون من الأفضل أن ينام جائعا في الخلاء تجنّبا للأسئلة التي سوف تطرحها عليه أخته، أو زوجها الذي تروق له مشاكسته، والسخرية منه…
بخطوات بطيئة، توجه إلى ساحة العلا المركزية التي تحيط بها مقاه تعوّد الجلوس فيها… مرّ أمام خيمة. من آلة تسجيل يتعالى صوت الشيخ السديسي مُرددا آيات تحثّ على الجهاد وقتل الكفار… صوته المُثْقَل بالحزن يُشيعُ في النفوس الشعور بأن الحياة جنازة بلا بداية ولا نهاية…
أمام الخيمة، خلف طاولة بلاستيكية تتكدس فوقها كتب ومنشورات دينية، كهل بسحنة عابسة، ولحية كثيفة، يرتدي جلابية أفغانية، ويغطي رأسه بطاقية بيضاء، وعلى جبينه بقعة سوداء، دلالة على كثرة السجود والتهَجّد… تاركا الشيخ السديسي يواصل تلاوة الآيات، شرع الكهل يتحدث الى الواقفين أمام الخيمة بصوت خشن بينما كانوا هم يستمعون إليه بانتباه: “إذا وضع الميّت في القبر يأتيه ملكان أسودان أزرقا العينين صوتهما كالرّعد وأبصارهما كالبرق الخاطف يحرقان الأرض فيأتيانه من قبل رأسه فتقول الصلاة لا تأتياه من قبلي فالصلاة صلاها في الليل والنهار احذرا من هذه المواضيع. ثم يأتيانه من قبل رجليه فيقولان لا تأتياه من قبلنا فقد كان يمشي بنا إلى الجماعة احذرا هذه المواضيع. فيأتيانه عن يمينه فتقول الصدقة لا تأتياه من قبل فقد كان يتصدق بي احذرا هذه المواضيع فيأتيانه من قبل الشمال فيقول صومه لا تأتياه من قبلي فقد كان يجوع ويعطش فاحذرا هذه المواضيع. فيستيقظ كما يستيقظ النائم فيقول ماذا تريدان مني فيقولان نريد منك توحيد الله تعالى فيقول أشهد أن لا إله إلاّ الله، فيقولان ماذا تقول في حق محمد عليه السلام فيقول وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقولان عشت مؤمنا ومت مؤمنا”….
ابتعد وهو يرجف مُرتعبا… خلفه صوت الكهل الخشن مواصلا مواعظه وصوت الشيخ السديسي مُرَدّدا الآيات … ثم تلاشى الصوتان في هدير السوق…
دخل محلا لبيع الوجبات السريعة، وكان مُزدحما بالزبائن. طلب “كفتاجي”. أثناء الأكل، راح يصغي إلى شابين جالسين حول الطاولة البلاستيكية الصغيرة التي على يمينه:
الشاب 1: شُفْت… السلفيين ناصبين خيمة اليوم…
الشاب 2: مُشْ كان هنا… في كل بقعة…حتى في العاصمة…
الشاب 1: ولد خالتي قالي كل جمعة في شارع بورقيبة قُدّام المسرح…
الشاب 2: الجمعة إيلّي فاتت نصْبُو على شط “بوجعفر” في سوسة…وعلى شط الحمّامات…
الشاب2: أمّا القيروان وَلاّت عاصمتهم… يشطحو ويَرْدحو فيها ليل ونهار…
الشاب 1: كل يوم تسمعْ غريبة!
الشاب2: واشْ سمعت ؟
الشاب1: قالك في بن قردان عمْلو إمارة وفيها يحكموا بأحكامهم…
الشاب 2: وفي العاصمة هجموا على السفارة الأمريكية وشعّلوا فيها النار…
الشاب 1: وفي سيدي بوزيد حرقوا أوتيل ومنْعُو الشراب…
الشاب 2: كثروا كي الجراد وقت الزمّة…وين كانوا؟
الشاب 1:ما نعرفش..
شاب 2: شيء يخوف!
الشاب 1: رد بالك منهم… راهم مُخْطرين..
الشاب2: نعرف!
الشاب1: اللطف منهم…
الشاب 2 :ربي يستر!
الشاب 1: نقلك الحقيقة… والله وليت نفكر نَحْرق …
الشاب 2: نا خويا ما نجمش… تحبْ ياكُلْني الحوت؟
الشاب1: نا مشني خايف… العيشة فسدتْ في ها البلاد!
الشاب2: عندك حق لكن يا خويا الحرقة صعيبة… راهم برشة يموتو فيها…
الشاب 1: نعرف… لكن برشه يربحوها…
الشاب2: يا خويا ما نحبش نقمّر بحياتي … مازلت صغير.. ونحب نشيخ …
الشاب1: (ينفجر ضاحكا)… وماش يخلوك تشيخ ها الحنوشات؟
الشاب2: تو تشوف… يجي نهار ويقشعو حتى هوما…
الشاب 1: مالا ابقى احلم بْهَاكْ النهار…
الشاب 2: (ينظر إلى ساعته اليدوية) أيا نمشو يا صاحبي…
الشاب 1: (ينظر إلى ساعته اليدوية هو أيضا): أوه…هزنا الحديث ونسينا كل شيء…
نهض الشابان وتوجها إلى صاحب المحل للدفع…
أنهى الأكل. غسل يديه… مسحهما بمنديل ورقي، ثم دفع وخرج.
الوقت تجاوز منتصف النهار… أمام المعتمدية، كهول رافعون لافتة كتب عليها: نطالب بالكهرباء والماء الصالح للشراب… توقف أمامهم قليلا ثم واصل سيره باتجاه الساحة. دخل مقهى، وطلب قهوة وزجاجة ماء صغيرة. إحدى القنوات العربية تبثّ مشاهد من الهجوم على السفارة الأمريكية. بعض الزبائن يتابعون ذلك بشيء من الاهتمام. أما الآخرون فمنهمكون في لعب الورق غير عابئين بأيّ شيء. راح يدير الملعقة الصغيرة في الفنجان مُحاولا أن يقتلع من ذاكرته الصفعة القاسية التي تلقّاها وهو لا يزال في ضباب النوم، والكلمات النّابية التي رمته بها زوجته وهو خارج من البيت ذليلا، مطأطأ الرأس، بينما طفلاه يبكيان بحرقة توجع حتى الحجر… ما العمل الآن بعد أن بلغ السكين العظم؟ هل يحرق نفسه مثلما يفعل الكثيرون في هذه البلاد التي أصبحت تتعاقب عليها النكبات، والأزمات كما لو أنها أصيبت بلعنة إلهيّة أبديّة؟… نعم قد يكون ذلك عملا حسنا، وسريعا، وغير مُكلف… يكفي أن يَسْكبَ على جسده قليلا من البنزين، ثم يشعل عود كبريت.. بعد وقت وجيز يكون كتلة من رماد. وبذلك ينتهي هذا الشقاء الذي يبدو بلا نهاية… وبما يبكيه البعض من أهله. أمّا زوجته فستتظاهر بالحزن لكن في سرّها سوف تلعنه داعية الله أن يحرقه في الآخرة مرة أخرى. وسوف تقول عندما تسمع بخبر وفاته: ”الله لا ترحم الكلاب!”… نعم هذا ما ستقوله إذ أنه أصبح بالنسبة إليها أحقر من كلب سائب… والطفلان؟… آه الطفلان ما ذنبهما؟… ما ذنبهما؟ بللت عينيه دمعتان ساخنتان… أخرج من جيبه منديلا ورقيا ومسحهما… وفي تلك اللحظة ربت أحدهم على كتفه. التفت فإذا بصالح ابن عمّه هاشّا باشّا في وجهه. منذ أسابيع طويلة لم يلتق به. فهو دائم التنقل بين المدن بشاحنته. ويتردّد على العاصمة أكثر من مرّة في الشّهر الواحد. وهو من أثرياء القرية. له بيت مُريح، والجيب دائما ملآن. وفي الحقيقة هو يحسده على النعمة التي خصّه بها الله. ويزداد هذا الحسد استعارا حين تبالغ زوجته في مدح صالح، والإشادة بذكائه، و”عفرتته”. حين يزورهم في البيت، تظهر له ودّا يشعل نار الغيرة في جسده، ويخرجه عن طوره، ويُذكي الرغبة في قتله هكذا أمام عينيها وهي تلاطفه بالكلمات والإشارات والغمزات…أوف يا لكيد النساء!…
– فاش تخمّم يا ولد عمي الغالي؟ سأله صالح
– …
– ما تخمّمْش الدنيا فيها الموت…وما يربحْ فيها كان الزاهي ديما…
– وكيفاش تحبني نزْها والجيب ديما فارغ؟
أخرج صالح حافظة نقوده المنتفخة بالأوراق المالية. مدّ له عشرة ورقات بعشرين دينارا، قائلا له بأنه يمكنه أن يعيدها له متى يشاء…
زحفت الوساوس السّوداء في خلايا دماغه مثلما تزحف الأفاعي على الرمل السّاخن… ترى ما سرّ هذا الكَرَم؟ وما الدّاعي له؟ ابن عمه لم يفعل هذا من قبل أبدا. وفي المرات القليلة التي رغب أن يستدين منه مبالغ بسيطة واجهه بالرفض والصّدود.. وإذن لا بدّ أن يكون هناك موجب لهذا السّخاء… أوف… ولكن عليه أن يقبل به خصوصا وأن المبلغ سيخفّف عنه وطأة الهموم التي تثقل صدره… قفز من الكرسي ليُعانق ابن عمّه بحرارة:
– شكرا يا ولد عمي العزيز …!
– اسمع يا ولد عمي الغالي …أنا اليوم ما عندي ما نعمل… ونحب نعمل شيخة معاك!
– معايا نا؟
– يا نعم معاك يا لد عمي الباهي… ونحب نهزك عند ناجي…
– أشكون ناجي؟
هامسا أعلمه صالح أن ناجي حوّل قسما من بيته الريفي إلى حانة سرية، يرتادها عشاق البيرة، والنبيذ “الروزي”، و”الروج”….
غادرت الشاحنة العلا، وانطلقت شمالا في الطريق المؤدّي إلى حفوز، والقيروان. وقبل أن تبلغ “وادي الجبّاس”، انحرفت شرقا لتسلك طريقا ترابيا متعرّجا، على جانبيه سياجا صبّار عاليان. بعد أن قطعت مسافة تقدّر بسبع كيلومترات، توقّفت الشاحنة أمام بيت تنتصب أمامه شجرة خرّوب عجوز هائلة الحجم، به يحيط سور بباب حديديّ كبير. زمّر صالح ثلاث مرّات. بعد بضع دقائق برز من الباب الحديدي رجل نحيف، غامق السّمرة، بلحية خفيفة، ورأس أشيب، وعنق طويل. وكان يرتدي دجينز بهت لونه، وقميصا أزرق بمربّعات بيضاء .نزل صالح من الشاحنة، واندفع نحوه ليعانقه بحرارة، ثمّ أشار إليه أن يأتي ففعل. بعد السلام، قادهما الرجل إلى غرفة فسيحة بها طاولات، وكراس بلاستيكيّة. منها تفوح روائح الخمر، والبيرة، والسجائر، واللحم المشوي، والزيت المقلي. على الجدار جهاز تلفزيون ينقل مباراة قديمة لكرة القدم بين فريقين أجنبيين. في وسطها أربعة رجال بوجوه تنزّ عرقا، وعيون محمرّة يشربون ويأكلون اللحم المشوي المكدس أمامهم بنهم وشراهة. وهو يعرف فقط أكبرهم سنّا. وهو تاجر خرفان أصلع قليلا، بشارب كثيف، وبطن مُنْتَفخ. جميعهم وقفوا للترحيب بصالح، والسؤال عن أحواله، وأحوال عائلته. أما هو فلم يعيروه أيّ اهتمام…
شرب كل واحد منهما بيرتين لـ”إطفاء نار العطش” بحسب تعبير صالح، ثمّ انتقلا إلى “الكوديا الروج”. ولم يكن صالح يكفّ عن طلب المزيد من اللحم المشويّ، ومعه معكرونة وسلاطة مشويّة. في آخر الظّهيرة، لعبت الخمرة برؤوس الرجال الآخرين فشرعوا في ترديد أغاني الحبّ البدوية بأصواتهم الغليظة، القبيحة. غير أن ناجي تدخّل بحزم طالبا منهم الكفّ عن ذلك خشية أن تلتقط الآذان الفضوليّة ما يحدث فيجيء رجال الحرس الوطني ليسوقوا الجميع إلى السجن، أو يَهْجُم أصحاب اللحيّ على البيت فيحرقونه، ويحرقون من فيه.. أطاعه الرجال مكرهين. بعد قليل، انبرى تاجر الخرفان يتحدّث عن مغامراته الجنسيّة في الماضي، والحاضر، مُتباهيا بما يأتي به من عجائب مع النساء حتى بعد أن تجاوز سنّ الخمسين. وجاراه الآخرون. كلّ واحد منهم راح يفاخر بفحولته راويا قصصه مع النساء، مشيدا بفضائله معهنّ في الجماع. وكشف صالح أن له عشيقة جديدة تعيش في القيروان. وهي “جننّته” لأنها تأتي بفنون في الفراش لم تأت بها أيّ عشيقة من عشيقاته السّابقات. ومن شدّة غرامه بها، هو يذهب إليها في كلّ لقاء وهو يرجف كالمحموم. أما هو فلم يتدخّل في الحديث، مكتفيا بالاستماع. بين وقت وآخر ترنّ في رأسه الصّفعة التي تلقّاها في الصباح فيصعد الدّم إلى رأسه، ويشتغل الغيظ في صدره نارا حامية. في لحظة ما، خاطبه تاجر الخرفان قائلا:
– ها…أنت يا سيّد … أشبيك حزين ومهموم… ما تشيخش مع النسا كيفنا؟
بسرعة تدخّل صالح ليردّ عليه قائلا:
– هو ولد عمّي …حشّام لكنه فحل! هههههه
مدّ الجالس إلى يمين تاجر الخرفان رأسه باتجاهه، وهو رجل قصير، ضئيل الحجم، يلمعُ الخبث والشّر في عينيه الصغيرتين وقال ساخرا:
– مش باين فيه فحلْ!
ثم انفجر ضاحكا، وضحك الآخرون أيضا…
تدخّل صالح من جديد ليقول:
– اسمعوا يا رجال… راهو ولد عمّي… من فضلكم خلّوه رايض… راني من نحبش فيه!
– باهي! قال تاجر الخرفان…
ساد صمت ثقيل…أشعل صالح سيجارة. رمى في جوفه كأس “كوديا”، ثمّ أضاف قائلا:
– بربي يا رجال…خلونا شايخين… نكمل شيختنا في الرياض..٬
انتصب ناجي واقفا وخاطب الجميع قائلا:
– اسمعوا يا جماعة…راني ما نحبش العرك في مَحْلي…
– ما تخافش قال تاجر الخرفان….
لكن عندما طلب تاجر الخرفان زجاجة أخرى، نظر ناجي إلى ساعات اليدويّة ، ثمّ ردّ قائلا:
– تو الثمانية يا جماعة…أنا تعبان، وعندي عائلة تتسنى فيّ… وأنتم شختو… لذا أرجوكم أن تغادروا بهدوء!
كان هو وصالح أوّل المغادرين. في الطريق إلى القرية، أوقف صالح الشّاحنة… أخرج علب بيرة من حقيبة بلاستيكية، ثم نزلا من الشاحنة، وراحا يشربان صامتين… على جانبي الطريق حقول زيتون غارقة في ظلمة الليل… بين وقت وآخر يتعالى نباح كلاب بعيدة… أشعل صالح سيجارة، وراح يدخن مُطلقا زفرات، ثم التفت إليه وقال غاضبا:
– حشمتني قدّام الرجال!
– كيفاش حشمتك؟
– علاش ما شاركتناش في الحديث؟
– آش تحبني نقول؟
– قول أي شيء…المهم حلْ فُمّكْ وتكلم…
– تحبني نكذب؟
-يا نعم…
– مالا هُوما يكذبوا زادا؟
– يكذبوا… وإنت كاركْ تكذب كيفهم!
– نكْره الكذب!
– الناس الكل تكذب في هذا البلاد! وإنت تحب تكون ملايكة؟
– وإنت زادا كنت تكذب وقت إلّي تحدثت على هاك المرا إلّي جننتك في القيروان؟
– وعلاش تسأل فيّ؟
– هكّا…
– كيفاش هكّا؟
– ما تغضبش يا ولد عمي الغالي… راني نعرفك فحل!
– يا نعم ..فحل ونصف .. ومشني كيفك!
– آش معناها؟
– معناها الله غالب عليك !
– عجب!
– يا نعم… ومشْني وحدي نعرف… الناس الكل بكبيرها وصغيرها تعرف! ومرتك قالت هذا للنساء الكل!
آآآآ… الآن فقط أدرك سرّ السّخاء الذي أغدقه عليه ابن العمّ المشهور ببخله، ونفاقه، ودجله، وسوء طبعه. ومن المؤكّد أنه لم يكرمه إلاّ ليذلّه، ويهينه في هذا الظلام، وفي هذا الخلاء الموحش. وقد يكونون على حقّ أولئك الذين يروّجون أخبارا تقول بأن ابن العم تربطه بزوجته علاقة غراميّة. وهذا ما يفسّر الود الذي تظهره له على مرأى ومسمع منه. وهذا ما يفضح أيضا سرّ اختفائها الغريب يوما أو يومين من دون أن تفْصَحَ عن سبب ذلك. وثمّة واحد روّجَ في القرية أنه شاهد زوجته أكثر من مرة في القيروان بصحبة ابن العم. ومن المحتمل أن تكون هي العشيقة التي تباهى بها أمام أولئك الغرباء السّكارى…. نعم… هي لا غيرها!… وحده المغفّل والمخدوع يشكّك في مثل هذه الحجج الدّامغة…
تحسّس المدية التي لا تفارقه، ثمّ هجم على ابن العم ليطعنه طعنات عديدة في أماكن مختلفة بينما كان هو يصرخ ويولول. في النهاية انهار على الأرض، وفاحت في الهواء البارد رائحة دمه السّاخن. رمى بالمدية المُلطخة بالدم بعيدا… للحظات ظلّ يفكّر في الغراب الذي يحطّ على سطح بيته كلّ صباح، ثم تاه في ظلام بدا له أنه لن ينجلي أبدا.