"نهاراتٌ لندنية" ومراوغةُ الرواية السيرية
تكتسي “نهاراتٌ لندنية”(1) للأديب جمعة بوكليب نكهة لغوية ممتعة تنساب رقراقة بكل رشاقة وعذوبة فتستقر في وجدان القارئ بأريحية وإمتاع. ويمكن القول إن هذه النهارات قد خاتلت في مضمونها وأسلوبها السردي مصطلح الجنس الإبداعي الذي ينسبها إلى الرواية كما تعلن واجهة غلافها، حيث تنتمي تلك السرديات الأدبية بكل جدارة إلى تقنيات القصص القصيرة أو شبه السيرة الذاتية في مراوغة تعبيرية للرواية التي اتخذتها ستاراً تسعى لإنجازها، ووطَّنت في سياق ذلك الكثير من المعالم والشخصيات والمواقف والمحطات الشخصية التي تعكس تجربة حياتية للكاتب عاركتها وطحنتها الأيام بكل ما فيها من قسوة ومعاناة، وغربة فكرية داخل الوطن، واغتراب جسدي خارجه.
منذ المصافحة الأولى لغلاف “نهاراتٌ لندنية” يجد القارئ نفسه محاطاً برسومات وعلامات تصويرية (Figurative Signs) لبعض معالم عاصمة الضباب، والتي ربما اتخذها المصمم عنصراً بصرياً تصويرياً لتهيئة القارئ فكرياً لولوج نصّ الرواية، وذلك بربط صور تلك المعالم وإيحاءاتها المتعددة في ذهنه بتفاصيل السرد وتنقلاته بين الأمكنة اللندنية العريقة، حيث لا يمكن فصل التصميم الفني لغلاف “نهاراتٌ لندنية” عن متنها الموضوعي وفضاءها المكاني، لأن النصوص السردية ما هي إلاّ تكوينات لغوية مفتوحة تقترن بمظاهر الحياة وأشكالها وصيروراتها المختلفة، وليست مجرد أساليب جامدة مغلفة أو منعزلة، وبالتالي فإن التصاميم والصور والأيقونات والألوان هي علامات دالة ذات مقومات وإيحاءات متجانسة مع سياقات النص المسرود بفضل قدرتها على الإحالة المرجعية، وتوطين رسالته الإبداعية في المتلقي، ولذلك يظهرُ غلافُ “نهارات لندنية” زاخراً باللون الرمادي الذي يعتبره علماء النفس ممثلاً للحياد والتوازن، إضافة إلى إشاراته السلبية الأخرى كالفقد والخسارة والاكتئاب، فنجده يغمر كامل الواجهة الأمامية للغلاف مع مساحة مستطيلة صغيرة في أعلاه باللون الأحمر ظهرت بقعةً مكثفةً قويةً كأنها دفقةُ مشاعر عاطفية وجدانية أو نوباتُ غضبٍ حادة، يتوسطها اسم الكاتب مميزاً باللون الأبيض الناصع، ثم تعقبه أدناه العتبة الأساسية الأولى “نهارات لندنية” مستريحة بلون أحمر كذلك وخط واضح رقيق في قلب البساط الرمادي، بينما نجد في الأسفل مساحة مستطيلة حمراء ثانية كتبت بوسطها مفردة واحدة وهي “رواية” لتحديد الجنس الإبداعي.
لقد جاء التوزيع اللوني لواجهة الغلاف هادئاً وناعماً ومريحاً للمتأمل، ومتجانساً مقسّماً دلالات عتباته النصية بفواصل لونية أفقية خفيفة، وقد توزعت على بساطه الرمادي أربعةُ معالم لندنية تعتبر من أشهر وأبرز مناطق الجذب السياحي في بريطانيا، وهي: تمثال عمود نيلسون (Nelson’s Column) الذي يتوسط ميدان ترافالغار (Trafalgar Square) أشهر رموز لندن، ثم عين لندن (London Eye) العجلة الدوّارة المنتصبة على الضفة الجنوبية لنهر التايمز، بارتفاع يفوق 130 متراً وهي مقصد زوار لندن منذ افتتاحها أثناء احتفالات أعياد الميلاد في ديسمبر سنة 1999م، ثم ساعة بيغ بن (Big Ben) المثبتة في قمة برج الساعة الشهير شمال مجلس النواب البريطاني التي لازالت عقاربها ودقاتها تعلن منذ عام 1924م التوقيت اليومي لمحطات هيئة الإذاعة البريطانية الـ”بي بي سي”، ثم صندوق الهاتف العمومي التقليدي الأحمر المنتشر في ربوع المملكة المتحدة كرمز ثقافي بريطاني. إذن من خلال القراءة السيميائية لكلّ هذه المعالم اللندنية العريقة وتأملها على صفحة غلاف “نهارات لندنية” الأولى بعين فاحصة وحريصة على البحث في دلالات مضامينها، وبفكر يغوص في أبعاد رمزيتها ومعانيها، نتيقن أن الفنان رسَّام الغلاف استطاع ببراعة ربط العمل الروائي بأصوله وإرجاعه إلى أمكنته، وجعل البداية الحقيقية للرواية تنطلق منذ مصافحة هذه الواجهة التصميمية التي استنطقت الكثير من الأمكنة وأسكنتها متنها بصمتٍ أبلغ من الكلام.
النهاراتُ اللندنية
أربعة عشر نهاراً لندنياً تنوعت في تسجيل أحداثها الزاخرة العديدُ من التقنيات الفنية مثل الوصف التفصيلي الغزير، والحوار السلس المتبادل بين شخصياتها الأساسية (الراوي، سعيد، مجيد، حسيبة)، وكذلك المونولوج الداخلي الذي يموج في أعماق الراوي ناقلاً فكر الكاتب وذكرياته وبعضاً من سيرته الذاتية بكل براعة وإتقان. وقد وردت العناوين الداخلية الأربعة عشر لهذه النهارات متتابعة كالتالي (نهارٌ عاديٌّ جداً، نهارٌ غير محايد جداً، نهارٌ مربكٌ ومتعبٌ جداً، نهارٌ عسيرٌ على القلب، نهارٌ مخاتلٌ جداً، نهارٌ متميزٌ، نهارٌ أبيض جداً، نهارٌ يتسكعُ وئيداً، نهارٌ مختلفٌ جداً، نهارٌ للبوح، نهارٌ غيرُ عادي جداً، نهارٌ مؤلمٌ جداً، نهارُ سبتٍ آخر “ملخبط” جداً، نهارُ أحدٍ آخر مليء باحتمالات صعبة التكهن). وعند تأملها وتفحصها ملياً ينبعث في الفكر سؤال بشأنها يقول: هل هذه عناوين قصص قصيرة مستقلة أم أنها فصولٌ لرواية واحدة متماسكة؟ فهي حتى وإن تشاركت في مجموعة من العناصر الفنية خاصة البنية العامة للنص، أي الحبكة الدرامية الظاهرة في عدة أشكال فنية وآليات سردية، إلاّ أنه بالإمكان التعامل معها كنصوص منفردة منفصلة، لما تحمله من خصائص ذاتية في السرد، سواء من حيث الموضوع الفرعي، أو تميز وفاعلية أدوار بعض شخصياتها أثناء المشهد السردي والتي يحركها الراوي بكل اقتدار من خلال فكرة جامعة وموحدة بها الكثير من التشويق، والآلية المرنة التي تمنحها القدرة على التشابك مع ما سبقها وما يتلوها.
فضاءاتُ النهاراتِ اللندنية
معظمُ فضاءات النهارات المكانية وأحداثها لم تغادر بريطانيا، وتحديداً قلبها النابض بالحياة والحركة الدائمة في العاصمة لندن، ولكنها تمددت فيها واستطاعت التنقل والإشارة إلى بعض مدنها وجامعتها المميزة في مدينة “ريدينج” والمقاهي ومحطات القطارات اللندنية، إضافة إلى ظهور الفضاء الداخلي للشقة التي يسكنها الراوي بكل تفاصيل أثاثها ومكتبتها وحجراتها وأركانها المختارة للجلوس والاسترخاء والقراءة والكتابة ومشاهدة التلفزيون. وكل هذه الأمكنة لم تظهر في الرواية كمعالم جامدة مجردة من تاريخها، بل جعلها الكاتب براحاً للتفاعل الحسي والوجداني مع مكوناتها المادية بما تكتنزه من أزمنة وأحداث وكذلك الإحساس بعبق أنفاسها المتدفقة المتصاعدة في أركانها.
وفي ثنايا الفضاء المكاني اللندني العام تبرق الأماكن الطرابلسية كومضات متنوعة ومشوقة تحمل كماً هائلاً من الحنين والنوستالجيا لماض يهيمن ويسيطر على أعماق الراوي، بكل ما يكتنزه من صور لازالت حية ونابضة بذكرياته للشوارع، والأحداث والشخصيات والأغاني وعبارات اللهجة الطرابلسية المميزة، التي حافظت على توطينها ومد جسورها في وجدانه وفكره، رغم معاناة الغربة وما فعلته في كيانه من تشظ وفقدان، وانكسارات وخذلان وخسارات فادحة، “من دون كل الأسماء، التي كانت تُعرف بها بيوتُ جيراننا، بزنقة الحُمّاص، بالمدينة القديمة، بطرابلس الغرب، كان اسمُ البيت الذي ولدتُ فيه، وأينعتْ بين جدرانه طفولتي، وتألقَ في أرجائه خفقُ صباي، بمثابة اللغز الذي أقضَّ مضجعي، وأرهقني لسنوات”(2).
أما التوقيت الزماني في “نهارات لندنية” فكان يتمدد أفقياً عبر فصول الرواية بشكل تلقائي مفتوح لا تحده تواريخ معينة، رغم بعض الأحداث الغابرة التي تستحضر أزمنة بعينها مثل الإشارة إلى الأحداث الطلابية في شهر أبريل 1976م بجامعة طرابلس، ومقتل الشرطية البريطانية “إيفون فلتشر” سنة 1984م أمام مبنى السفارة الليبية في لندن، أو التاريخ الذي نستنتجه من خلال تلميح الراوي إلى تجهيز مجموعته القصصية “خطوطٌ صغيرةٌ على دفتر الغياب”(3)، حين يقول “انتهيتُ، مؤخراً، من إعداد مجموعتي القصصية الثانية. وبعد انتهائي من إجراء بعض التشطيبات واللمسات النهائية والضرورية، في فترة زمنية آمل أن تكون قصيرة، سأدفع بها إلى المطبعة”(4) لنكتشف أن الفضاء الزماني يتصلُ أيضاً بتاريخ صدور تلك المجموعة عام 2013م. وكذلك تاريخ الفترة التي سُجن فيها الكاتب خلال منتصف السبعينات ولازال يبغضها كما يقول في رسالته إلى صديقه محمد “أيها الصديق العزيز، تعرف مدى رعبي وخوفي من كلمة سجن. وتعرف، تماماً، علاقتي بالسجن والسجون، وعلى علم وإدراك بالسنوات المرة والطويلة، التي قضيتها، في زنازين سجون وطني، دون جريرة اقترفتها”(5)، وربما لهذا السبب تجاوزت “نهاراتٌ لندنية” الفضاء السجني مكانياً وحتى زمنياً بتفاصيله الدقيقة، وبالتالي فقدنا التعرف على حجم المعاناة والقسوة التي تكبدها الكاتب ورفاقه أثناء تلك المحنة “لا أخفيك سرّاَ، لا أحبُّ تذكر تلك التجربة العبثية الأليمة. وما زلتُ غير قادر على مواجهتها، لأنها مازالت تقطر دماً في قلبي وخلايا عقلي، وتتعقبني في أدق تفاصيل حياتي”(6)، وفي المقابل فإننا نستشعر من هذا القول ما يعتري الكاتب بشكل مستمر حتى الآن، من هواجس ومخاوف تجعله يعيش حالة اغترابه الخاصة، وهي مرحلة شعورية تمنحه خاصية القدرة والخصوبة ربما على إنتاج نصٍّ روائي معتبر لأن الرواية كما يقول الناقد والفيلسوف المجري جورج لوكاتش تتميز بكونها “تعبِّرُ عن اغتراب الفرد ومنزلته الإشكالية ضمن المجتمع المتصدع الذي فقد انسجامه الطبيعي وبهاءه السحري(7).
بعضُ تقنيات النهارات السردية
1 – اللغة
تميزت “نهاراتٌ لندنية” بسلاسة ووضوح المفردة اللغوية وتركيبات جملها وفقراتها متماسكة المضمون ورشيقة الأسلوب، حيث زخرت اللغة السردية بتراقص المفردات والعبارات المفعمة بروح واثقة تملك ذاتها وتسعى لنفض أغبرة كثيرة علقت بها، وتجاوزها في راهنها الحاضر مثل تجربة السجن، ومكابدات الحياة داخل البلاد حين كانت ليبيا تعاني الكثير من الضغوطات السياسية وانعكاساتها الاجتماعية العامة والفردية الخاصة التي نجدها في تعميم الراوي مخاطباً صديقه “فحينما كنتُ وآلافٌ غيري في السجن، كنتَ أنتَ وملايين غيرك في سجنٍ أكبر وأسوأ وأكثر عفناً من العفن الذي كنتُ وغيري نتنفسه صباحاً ومساءً”(8).
لقد كتبت الرواية بسيمفونية لغوية واضحة كخيوط الشمس، وبسيطة خالية من أيّ غموض أو رمزية، وهي تعكس ثراء قاموس الكاتب، وشاعريته المرهفة، ومقدرته على توظيف مخزونه المعجمي بكل مهارة في صياغة نصٍّ روائي مفعم بالتشويق والإمتاع. كما تبرز مهارته في جعل لغة الرواية تحتضن وتستضيف مفردات وعبارات اللهجة العامية وإسكانها بكل أريحية في ثنايا النص السردي، سواء من خلال الأمثال الشعبية، أو العبارات العامية المتداولة مثل “العظم الرهيف الله لا ترده”(9)، و”في ليلة بلا قمر”(10)، و”فشان قمم”(11)، و”طاح للعكسة”(12) وغيرها، فظهرت اللغة الروائية ثنائية مشتركة كلوحة تتجاور فيها الفصحى والعامية بكل انسجام وتناغم، وظلت وظيفتها مجتمعة إضفاء أجواء بهيجة على النص المسرود، وتقريب المعنى بصورة أدق، سواء خلال الوصف أو الشرح أو الحوارات المتبادلة.
ولا يقتصر إثراء اللغة السردية في “نهارات لندنية” على العبارات العامية من اللهجة الطرابلسية الليبية فحسب بل نجدها كذلك توطن الأسماء الإنجليزية للأماكن والمحطات في بريطانيا بالحروف العربية مثل “إيلينغ برودوي” و”بادنجتون” و”تشيلسي” و”همرسميث” “ويمبلدون” و”ريدينج” وغيرها، وهي أماكن وإن ظهرت بشكل عابر في سياق السرد إلاّ أنها تحمل في وجدان الراوي حضوراً استطاع من خلال امتزاجه في السرد خلق فضاء مكاني زاخر بالتفاعل لإكمال الصورة الفنية العامة للنصّ الروائي.
2 – الحوار
يعد الحوار طريقةً من الطرق الفنية للتواصل، وتبادل الحديث بين طرفين، أو عدة أطراف. ويهدف في الرواية الأدبية إلى التعريف بشخصياتها، ومنح الحبكة السردية دفقة تشويقية مكثفة، كما يسهم في نقل وتبادل المعلومات بين الشخصيات المتحاورة. وإن كان الحوار يُضفي على السرد جاذبيةً ويضيف جماليةً إلى مشاهد الرواية المختلفة، فإن الروائي الجيد هو من يوظفه للدفع بأحداث الرواية إلى تجاوز الملل والرتابة السردية من خلال مفرداته المميزة وأجوائه المليئة بالتلقائية التي تجعله عصباً أساسياً وليس فائضاً زائداً عن حاجة النص الروائي.
وظهر الحوار في رواية “نهارات لندنية” متنوعاً في فصولها بشكليه المتعامد أو المبثوث والمنثور بثنايا النص السردي سواء بنوعه الفصيح أو العامي. وقد تميز باعتدال طول أنفاسه، ووضوح وحميمية ودفء مفرداته، التي استطاع الكاتب توظيفها للغايات الرئيسية للحوار وهي خلق المزيد من الجاذبية، وفتح مساحات تخفيف واستراحة من عناء السرد النثري تحمل تشويقاً وتوطيداً متزايداً للعلاقة الثنائية بين شخصيات الحوار، وكشف جوانب إضافية حول موضوع الرواية. وقد تأسست كل تلك الغايات على لغةٍ حوارية بها الكثير من البساطة والسلاسة والتعبير العفوي غير المتكلف: “كيف عرفت أني ليبي؟” ابتسم، وقال “حاجة والله كبيرة!” وأضاف: “أنا واثق بأنك وقت شفتني، وأنا داخل، عرفت أني ليبي”…. “الماركة الليبية يا صاحبي معروفة، وين ما تقابلك تعرفها على طول”(13).
ونلاحظ هنا أن الحوار بالعامية جاء مطبوعاً بكلمات اللهجة الليبية وعباراتها المميزة التي تعكس أنفاساً تمنح هوية جنسية للنص، وتنشر مناخاً خاصاً في الحوار، وبمثل ذلك التميز الفني ظهر كذلك الحوار بالفصحى وإن غلب عليه الاتجاه الفكري العميق، ومفاهيم الحياة والوطن والغربة بكل تقاطعاتها “استقلينا القطار، وجلسنا على مقعدين متجاورين. حكيت لها بالتفصيل الممل ما حدث لي مع محبس نوارنا. وحين انتهيت من قصتي سألتها:
– أهو الحنين؟
ضحكت حسيبة ثم سألتني:
– الحنين إلى فردوس مفقود أم إلى جنة موعودة؟
فاجأني سؤالها، قلت:
– ربما إلى كليهما.
رمتني حسيبة بنظرة أقل ما توصف به أنها “مُرَّة”، ثم قالت بالإنجليزية:
– من لا يستطيع تحمل الحرارة لا يدخل المطبخ! هل سمعت هذا المثل الإنجليزي من قبل؟
أجبت بهزة من رأسي بالإيجاب، وسألتها:
– ماذا تقصدين؟
قالت:
– علّمني العيشُ الطويلُ في هذه البلاد ألاّ أنظر ورائي. كل ما يهمني هو المستقبل. أنتَ حنينك إلى ماضٍ أليم، وهذا يذكرني بنوع من الناس الشاذين الذين يحبون تعريض أنفسهم للتعذيب. أنا حنيني لمستقبل أكثر إشراقاً!
سألتها مستنكراً:
– والوطن يا حسيبة؟ والأهل والأحبة والطفولة والصبا؟
تساءلتْ حسيبة بصوتٍ حاد:
– هل تسمّي بلاداً يحكمها قتلةٌ ولصوصٌ وقوادون وطناً؟ هل تسمّي بلاداً تخصي فحولها وطناً؟ من يختار العيش في منفى عليه أن يتعلّم أبجدياته. وأبجديةُ منفانا تبدأ بأن تدوس بقدمٍ صلبةٍ على قلبك، ثم تمضي للأمام قُدماً، محرّماً على نفسك الالتفات إلى الوراء. لا حنين إلاّ للمستقبل يا حبيبي.
– والأهلُ والأحبة والطفولة والصبا يا حسيبة؟
– الله يكون في عونهم يا صُحْبَة.
تذكرتُ، في تلك اللحظة، مقطعاً من أغنية قديمة لفرقة “جيل جيلالة” المغربية، يقول: “وعداد ما أنت ساير في الدنيا نيران في قلوب أحبابك مضرومة” ردّدتُ المقطع على مسمعها، وطلبتُ تفسيراً منها. ضحكتْ حسيبة وقالت إنها لا تظن أن للمقطع علاقة بما نحكي، ثم غيّرتْ الحديث بسؤالي عن آخر مشاريعي الكتابية”(14).
ونلاحظ أن الحوار باللغة الفصحى هنا، والذي هو نموذج لحوارات عديدة أخرى في الرواية، قد جاء ثرياً متضمناً عدة أوجه فكرية وعناصر فنية متنوعة، حيث السؤال الاستفزازي الذي يحيل إلى الانشغال السياسي بمعاناة الوطن، وكذلك فلسفة الحياة في الغربة ومفهوم الوطن ذاته كما يتشكل لدى المغترب بكل ما يقدمه من تضحية اختيارية وتنازلات طوعية، وفي جانب آخر نجده في خاتمته يستحضر جنساً فنياً آخر يجعله يتعالق معه بكل اندماج وانسجام وهو الأغنية العربية المغربية وكلماتها المواكبة لسياقات الحوار ومضمون النص وأحاسيس الراوي.
ويظل أبرز ما نحسه بكل مرارة نفسية ومعاناة فكرية في هذا الاقتباس هو استمرارية هيمنة الوطن على وجدان الراوي والذي نلمسه من خلال تكراره سؤاله المؤلم “والوطن يا حسيبة؟ والأهل والأحبة والطفولة والصبا؟” والذي يعكس إصراره وتخوفه من تداعيات ذاك الابتعاد عنهم وفقدان حميمية التواصل معهم، مما يؤكد أنه حتى وإن غادر الكاتب وطنه الجغرافي المادي، فإن الوطن الحسي والوجداني والاجتماعي لم يغادره، بل ظل يتفاعل متجذراً في وجدانه ومسكوناً بالحنين إليه، مما يزيد عذاباته وقسوة حياته حيال ذلك.
3 – التعالقات
تتضمن “نهاراتٌ لندنية” العديد من التعالقات الفنية التي تستهلها بأدب الرسائل الإخوانية التي تجسدها رسالة الراوي إلى صديقه “محمد”، وهي رسالة كتبت بروح مفعمة بالود والشفافية الطافحة بالحنين والنوستالجيا التي تألقت فيها اللغة المطرزة بالمحبة، والمكتسية زخارف بلاغية عديدة كالوصف الخارجي والداخلي، والاسترجاع الماضوي أو الفلاش باك، ونبش الذكريات المشتركة.
كما استضافت الرواية الأغنية العربية ممثلة في “فرقة جيل جيلالة ” المغربية، والفنانة العربية الكبيرة “فيروز” التي تكرر ذكرها والإشارة إليها “صدحت فيروز”(15)، ومحاورة أغنيتها الرقيقة “أنا عندي حنين ما بعرف لمين” بصوت المونولوج الداخلي للراوي أثناء بوحه “إذ رغم تقادم السنين، مازلتُ كلما سمعتُ فيروز تغني في حيرة عن حنينها، الذي لا تدري لمن لا بد أن أرد بيني وبيني، قائلاً: ولكن يا فيروز أنا مثلك عندي حنين وأعرف تماماً لمين”(16).
وتضمنت الرواية كذلك الإحالة إلى عناوين عدة إصدارات روائية “هذا الكتاب سوف ينقذ حياتك” للكاتبة الأميركية إيه. إم. هومز، و”تلك الرائحة” للروائي المصري صنع الله ابراهيم، و”القلعة الخامسة” للروائي العراقي فاضل العزاوي، و”شرق المتوسط” للروائي السعودي عبدالرحمن منيف. وأيضاً الأمثال العربية “وعلى نفسها جنت براقش”(17)، “بريء براءة الذئب من دم ابن يعقوب”(18)، في إحالة إلى قصة سيدنا يوسف عليه السلام الواردة بإحدى سور القرآن الكريم، وغيرها من التقنيات والأساليب الفنية مثل القص الفرعي داخل الحكاية الأساسية الشاملة أو ما يعرف بـ”القصة داخل القصة” والتي ظهرت في الرواية بألسن متنوعة سواء من الراوي أو شخصيات الرواية، وكذلك تقنية الاسترجاع أو الفلاش باك التي تداخلت في السرد بشكل مكثف.
إنَّ كلَّ هذه التعالقات الأدبية والأساليب الفنية المتنوعة تعكس جانبين مهمين أولهما تعدد مناهل الكاتب وتنوعها واتساع مطالعاته، وثراء فكره وقاموسه اللغوي بصنوفٍ من قراءاتِ الشعر والأدب والحكم والعلوم والمعارف. وثانياً براعته في توظيف تلك الذخيرة المتنوعة في ارتباطات فنية مختلفة تتقاطع مع نصه الإبداعي، والتي ظهرت في مواطن متعددة سواء أثناء السرد أو الوصف أو الحوار، وهو ما يبرز قدراته ومهاراته في نسج تلك الخيوط لرسم لوحة روائية زاخرة بالجماليات الشكلية وكذلك المضمون الإنساني المعبّر عن تجربة حياتية بها الكثير من المحطات والتجارب والمعاناة.
نهايات النهارات
ثلاثة عشر فصلاً من “نهارات لندنية” انتهت بعبارة قصيرة مميزة مفتوحة في خواتمها كالتالي: “حان موعد قلقي”، “غادرتُ المحطة”، “صدحت فيروز”، “فاض وجدي”، “ارتجف قلبي”، “تلك حسيبة”، “أبحر مركبي”، “تظاهرتُ بالأكل”، “غادرتُ بيتي”، “أشعلتُ سيجارة”، “أقبلت الحافلة”، “بكى قلبي”، “تكلّم صمتي”.
هذه العبارات القصيرة المكثفة انتقاها الراوي وجعلها كعناوين موجزة لحكايات لم يشأ أن يحكيها رغم الكثير من القص الذي تختزنه، وظل متوارياً خلفها، بحيث يمكن اعتبارها دعوة للقارئ لنسج تفاصيلها حسب فكره، وفرصته لإطلاق خيالاته الرحبة لاستكمالها وتصويرها في ذهنه وفق قراءته للرواية أو رؤيته لأحداثها. وهذه الخواتيم وإن ظهرت تحجب الكثير مما تكتم الراوي عن الإفصاح عنه، فإنَّ كلَّ منها جاءت تحمل بدايات وإشارات لحكايات ينسجها خيال القارئ بالصورة التي يكمل بها بقيتها أو يربطها بالنص المسرود. وهذه بلا شك تقنية أسلوبية وتحفيز غير مباشر لتغيير دور القارئ النمطي بإشراكه بدور فاعلٍ في ثنايا السرد، ومن ثم ليرتقي بحميمية العلاقة بين أطرافه كلها، وربما كذلك تنزع عن الكاتب أحادية صناعة النصِّ الروائي من خلال إضفاء الروح الجماعية المساهمة فيه.
***
تتقاطع العلاقة الثنائية بين السيرة الذاتية للكاتب وعمله الروائي في الكثير من المحطات، وهي تبدو بشكل عام علاقة ملتبسة تتجمع في جنسين سرديين يتيح اندماجهما إنتاج عمل إبداعي ينال أحياناً من المهتمين رضىً واستحساناً بمستويات مختلفة، وإن تعرض هذا الجنس الأدبي المشترك غالباً للكثير من النقد الذي يصل أحياناً إلى عدم القبول به كشراكة أدبية. وفي هذه المقالة البسيطة لرواية “نهارات لندنية” وقراءتها خطياً بمستوى متواضع نكتشف أن محتواها العام يتشكل من محطات سيرية لكاتبها الأديب جمعة بوكليب نقلها بصوت الراوي، وهي تقنية سردية متبعة كقناع يروي ما يختاره من ذكريات وتجارب حياته الشخصية منتقاة بنوع من التخصيص والتميز والفرادة، ربما لأنها تكتسي أهمية بالغة بالنسبة إلى الكاتب في مشواره الطويل المكلل بالكثير من الكد والعناء المادي الجسدي، والإرهاق الفكري النفسي، والانكسار العاطفي الوجداني، الذي ظل يتحداه في غربته متحصناً بزاده الإنساني الوفير، وبما يحمله بين طيات قلبه من أنهار محبة للجميع، وطيبة ورفعة خلقية، وعشق لا يتوقف تجاه الوطن بكل أشكاله ودلالاته، رغم المظالم التي تعرّض لها بين أحضانه، وأثّرت على مسارات حياته وأحلام شباب عمره الربيعي الزاهر وطموحاته.
وهذا بلا شك يؤكد لنا خصلة من خصال هذا الكاتب السامية، وهي أنه لم يكافئ الظلم الصارخ الذي تعرض له من وطنه بالتنكر للوطن وجمالياته، والنفور بعيداً عنه والانتقام منه، وكذلك لم يتاجر بسنوات سجنه وسيول دمعه وظلمات لياليه وأيامه القاسية، أو يزايد بها من أجل مصالح شخصية أو غايات نفعية، بل تجاوز كل ذلك الألم وصاغ لنا سردية زاخرة بكل ما في النهارات من شموس دافئة ساطعة في مواجهة أحداث ومواقف كثيرة مظلمة حد القتامة القصوى. ولكن وكما نعلم بأنَّ “الليلَ سابقُ النهار” ولكلِّ نهاراتِ الحياةِ ليال متلازمة تدور في فلكها اليومي، فهل ننتظر الليالي اللندنية لتتابع روايات نهاراتها الممتعة؟ فإذا كانت “نهاراتٌ لندنية” قد ازدانت بالكثير من الذكريات الماضوية، والإمتاع السردي بما فيه من آلام، وتنوع فني، فكيف يا تُرى ستكون الليالي إن تمكن الكاتب من القبض عليها وتسجيلها في كتاب مثل نهاراته الممتعة؟
الهوامش:
(1) جمعة بوكليب، نهارات لندنية، رواية، دار الفرجاني، طرابلس، الطبعة الأولى، 2021م.
(2) نهارات لندنية، مصدر سابق، ص 22.
(3) خطوط صغيرة على دفتر الغياب، جمعة بوكليب، قصص، دار الهلال المصرية، القاهرة، الطبعة الأولى، 2013م.
(4) نهارات لندنية، مصدر سابق، ص ص 7- 8.
(5) المصدر السابق نفسه، ص 10.
(6) المصدر السابق نفسه، ص 12.
(7) د. السيد ولد أبابه، صحيفة الاتحاد الإماراتية، بتاريخ 12 أبريل 2021م.
(8) نهاراتٌ لندنية، مصدر سابق، ص 12.
(9) المصدر السابق نفسه، ص 8.
(10) المصدر السابق نفسه، ص 20.
(11) المصدر السابق نفسه، ص 30.
(12) المصدر السابق نفسه، ص 32.
(13) المصدر السابق نفسه، ص ص 29 – 30.
(14) المصدر السابق نفسه، ص ص 39 – 41.
(15) المصدر السابق نفسه، ص 28.
(16) المصدر السابق نفسه، ص 101.
(17) المصدر السابق نفسه، ص 11.
(18) المصدر السابق نفسه، الصفحة نفسها رقم 11.