النداء الأخير
حتى الآن، يبدو كل شيء اعتيادياً، حركة المسافرين في المطار، الازدحام، الحراك الذي لا يتوقف، نداءات الإعلان عن إقلاع الرحلات، الوجوه المتجددة، وقع الخطى المتسارع، صوت الحقائب على أرضية المطار، كل شيء يبدو مألوفاً… إلا في الصالة رقم 3!
صالة ذات طابع خاص، تتسع لثلاثة مسافرين فقط لوجهات مختلفة، وعلى جانبها لوحة كُتب عليها:
ستصل إلى وجهتك من هنا سريعاً جداً، ولكن لكل شيء ثمن!
– وأي ثمن هذا الذي سيكون أغلى مما دفعت قبلاً؟
ألقت سيدة في الثلاثين من عمرها بعبارتها اليائسة تلك، ودخلت إلى الصالة دون تردد وقد استولى عليها التعب. رمت بجسدها المُنهك على أول مقعد فارغ أمامها دون أن تلتفت لأي شيء حولها، أسندت رأسها على حقيبتها الصغيرة السوداء، بينما تدلّت ذراعها اليسرى إلى جانبها متصلبة دون حراك. ممزقة الروح إلى أشلاء، متيبّسة الفكر، والألم ينخر في دواخلها بشراسة. وما هي إلا هنيهة حتى استرسل كل جزء منها في الخِدر بتتابع سريع، غدت لا صلة لها بمن حولها، تجوب في ذاتها الضائعة، في رحلة زمنية أخرى، في مكان بعيد، بعيد جداً. شاهدت صوراً عديدة تمر أمامها في شريط أحداث متصل، وطُرقاً تتلوى من الوجع، إشارات مرور زائفة، منازل وهمية تزول سريعاً، مخلوقات تبدو كالبشر لكنها أكثر افتراساً، وأخرى ترتدي أقنعة ثم تخلعها في الخفاء. لمحته هناك، واقفاً، نحيلاً كعود خيزران، ذابلاً كغصن جاف، يرتعش كعصفور صغير تضرب أجنحته الريح والمطر، وفي عينيه الغائرتين تغرق الطمأنينة في بئر المجهول. ركضت نحوه بلهفة، بصدر يلهث بالشوق، تنادي عليه بوعد جريح، ترنو لضمه في عالم بلا قيود، وأيّ عالم يضاهي أمان عالمها؟ وأيّ مقياس يسع هذا الحب اللامحدود؟
وفي لحظة خاطفة، تمنّع القدر، زادت الصور في سرعتها، ازدادت في عُجالتها، تذبذبت الرؤية، تداخلت الأحداث، امتزجت، ابتلعته، واختفى…!
(شششش)… صوت تشويش فجائي أعادها إلى سيرتها الأولى، تسمّرت في مكانها، سالت دمعة حرّة على خدّها، أفرغت أنفاسها الثقيلة بتواتر حزين، وأغمضت عينيها المُجهدتين ببطء لتستريح.
كم كان حُكماً مريراً أن يُسلب منها ابنها الصغير عُنوة ودون انصاف!
أثار ذلك المشهد ذكريات العجوز الجالس أمامها، رمقها بنظرة طويلة شاخصة، وشعر بقشعريرة قوية تسري في بدنه. عاد بذاكرته إلى ذلك المساء الذي لا يُنسى! حين رجع متأخراً من لهوه المعتاد إلى منزله، متأهّباً لخلق زوبعة ما، مُتمسكاً بأيّ سبب تافه ليخفي به خيباته المتتالية. لكن ثمة شيء غريب كان يحدث، وصمت طويل ومريب لم يعهده. لم تنهض زوجته الوديعة هذه المرة من مرقدها لتجهز له العشاء بسكونها المألوف، لم تحاول أن تثنيه برفق عن أفعاله الحمقاء، أو تناقشه بلطف عندما يهدأ، ككل مرة، هي المهزومة أمام تصرفاته الخاطئة وغضبه المتعمّد. والآن، لم يعد لها أيّ أثر للسعي لأيّ شيء، ولا لأجل أيّ شيء…. لقد رحلت في صمت أبديّ، إلى رحلة معراجها السماوي! فيما خرّ جاثياً على ركبتيه، مذهولاً، فزعاً، متجمّداً ساعتها دون حراك… لقد دُكّت صلابته دكّاً.
تأوّه عميقاً عندما استرجع تلك الليلة المُحزنة، المُجلجلة بصياح ابنته المكلومة التي لم تتوقف عن إلقاء اللوم عليه، والحسرة التي أصابته بالاختناق، وعقدة الذنب التي أطبقت براثنها عليه… فغادر يومها هارباً، هائماً، دون عودة.
تبّاً لهذه الذاكرة المُرهِقة، لِم تصيح هي الأخرى؟ لِم لا تكف عن معاتبته؟ تلاحقه كوابيس الندم، لا تُفلته، يختبئ منها في قبو النسيان كلص هارب، فتكشفه، تُعرّي حقيقته، تُمسك بتلابيبه، تهزم ما تبقى منه… فلا ينسى أبداً! يا له من لون آخر للعذاب، ينفث سُمه القاتل، يهذي براحته، وما ألعنه من جحيم، حين لا يُشفى المرء من ذاكرته أبداً!
هاتف ابنته مُغتماً، لعلها تغفر له هذه المرة، استمع إلى صوتها الذي يشبه صوت والدتها كثيراً، تتبع كلماتها التي استبد بها الحزن، لم يقاطعها، لم يستطع أن يقول لها كم كان قاسياً، كم أصبح نادماً، كم فقد، ويفتقد إلى والدتها حقاً. انقطع الاتصال، ولم يقو كذلك على إخبارها عن إصابته بداء نادر استشرى في جسده الهرم والواهن، داء تعاظمت سطوته، قد يميته في أيّ لحظة، وربما لن يراها ثانية بعد رحلته هذه.
الآن لا شيء لديه، الآن لا أحد.
وفيما يلسعه الأسف، انضمت إليهما سيدة صغيرة في عمر ابنته التي حاول يائساً أن يستعيدها، بيد أنها تعكس ملامح لامرأة تكالبت عليها سنين عجاف، وتلاعبت بها رياح الهم والخوف من كل جانب. شاحبة الوجه مثل يوم ضبابي مُربك، متيبّسة في مشيها كآلة صدئة بالكاد تعمل، مشوّشة العينين، تنظر بحذر إلى المكان. استقرت في المقعد الثالث والأخير بجانب العجوز، جلست بقربه متجهمة، متقوقعة على ذاتها، غارقة في بحر تفكيرها العميق، تُنصت إلى الأصوات من حولها وكأنها لا تسمع شيئاً، تُبصر وكأنها لا ترى شيئاً، لم تعد تحس بشيء، لقد ابتعدت لوهلة عن هذا العالم المليء بالشقاء، تنتظر الخلاص.
ستقابل عند وصولها رجلاً ثرياً وطاعناً في السن لأول مرة، لا تعرف عنه سوى صورة مسخ تضعها في حقيبتها، واسمه الذي رددوه عليها أهلها عدة مرات حتى لا تنساه، وعقد زواج مشروط، بتسديد ديون والدها المتراكمة مقابل بؤسها!
اغرورقت عيناها بالدموع وهي تهاتف أهلها؛ لتبدي رغبتها بالفرار، والنجاة من هذا الفخ المُرعب. لكنها عادت شاردة الذهن، ومنزوعة الإرادة تماماً. قرأ العجوز العذاب على وجهها، فوخزه جرح عميق، والتفت ناحيتها بعينيه الكليلتين، قائلاً بصوت مُرتجف وقد داهمه وجع حاد من الماضي، وتصدع صحي مفاجئ:
يا ابنتي… أرجوك، لا تفعلي!
أدهشتها كلماته المفاجأة، وأسكتتها برهة، ثم بدأت أفكارها في النضج. أيّ حماقة كانت ستُرتَكَب في حقها؟ وأيّ جُبّ مُهلك كانت سُتلقي نفسها فيه؟ صحوة أذابت مخاوفها شيئاً فشيئاً… وذبلت روحه شيئاً فشيئاً. أدركت لحظتها أن ثقلاً عظيماً قد انزاح عنها، اُعتقت ذاتها…وكذلك هو. انتابتها رجفة داخلية قوية لحياة أخرى… وولدت من جديد.
أعلن حينها الموظف عن الاستعداد لصعود الطائرة… تكرر النداء الأخير.
لم يسافر أحد!