لو عدتُ من هذي القصيدةِ سالمًا
ولقد ذكرتُكِ
ولقد ذكرتُكِ والسماءُ قريبةٌ منّي ومنكِ
أكادُ ألمسُ وجهَكِ القمريَّ وهو يُضيءُ من كلِّ الجهاتِ،
ولا أرى ضوءًا سواكِ أرى به.
لا أشتهي مطرًا برائحةِ التُرابِ يُعيرني جسدًا،
معي جسَدي القديمُ،
معي زجاجةُ خمرِه الأولى الّتي خبّأتُها لكِ أنتِ.
لا أحتاجُ إلّا كلَّ شيْءٍ فيكِ،
حتّى لا أكونَ سوى مكانِكِ أنتِ
حينَ أعودُ من منفايَ دونَ قصيدةٍ
ويدقُّ قلبي البابَ
وهو يكادُ يسقطُ في الفراغِ،
ستَفتحينَ البابَ أنتِ،
ستسألينَ القلبَ: ما اسمُكَ؟ قلبُ مَن أنتَ؟
اعترِفْ كي لا تعودَ إلى الفراغِ،
ستُرسِلينَ الضوءَ لي،
ستُعلّمينَ أصابعي العزفَ الصحيحَ،
ستولَدينَ وتولَدينَ وتولَدينَ بلا سبَبْ
كفراشةٍ سرّيّةٍ
جاءَت من اللهَبِ المقدّسِ
كي تعودَ إلى اللهَبْ.
////////////////
قولي للوردةِ أن تتفتّحَ
قُولي للوردةِ أن تَتفتّحَ في العَتمةِ،
واقتَرِبي منها لتَشُمّي رائحةَ اللهِ
كما يَقتربُ الصوفيُّ العارفُ من بابِ المطلَقْ.
قُولي لفَراشتِكِ السرّيّةِ
أن تَسبحَ مثلَ الموجةِ في البَحرِ،
وأن تَرسمَ صُورتَها باللهَبِ الأزرقْ.
قُولي للنارِ المحبوسةِ في أسفلِ وادي الموتِ:
يَظَلُّ الصَلصالُ مريضًا وبلا قَلبٍ
حتّى يُحرَقْ!
قُولي لنَبيذٍ يَقطُرُ من شفتَيكِ:
تَعتّقْ!
قُولي للنَهرِ المفقودِ هنا:
ألقَيتُ بنَفسي فيكَ
لأعرفَ نَفسي.
////////////////
ما من غدٍ يأتي
ما من غدٍ يأتي ويأخذُنا.
علِقنا في فراغٍ ما بلا ماضٍ ولا مستقبَلٍ.
لكنّنا لم ندْرِ أينَ
أنحنُ موجودونَ،
أم موتى قدامى يملأونَ الذكرياتِ؟
ونحن مَن؟
بدوُ السماءِ الرحّلُ
المتقاتلونَ على عُروقِ الماءِ؟
ظلُّ الليلِ فوقَ الأرضِ؟
أم أبناءُ أنفُسِنا اليَتامى التائهونَ بلا أبٍ؟
مَن نحنُ؟
مَن أشباحُنا؟
مَن هذه الأرضُ الّتي هي نحنُ؟
مَن هذا الفراغُ؟
هناكَ في الضوءِ البعيدِ،
سيعلَمُ الآتونَ من أحلامِنا
أنّ الرؤى هي نحنُ
أنّ أولئكَ الصاحينَ في أحلامِنا هُم نحنُ لا عتماتنا.
أمّا الّذين هنا هنا
في كلِّ هذا الليلِ،
في الطينِ الّذي يَدعونَهُ ليلًا،
فليسوا نحنُ
ليسوا نحنُ
مَن هم كي يكونوا نحنُ؟
طُلْ يا ليلُ،
حتّى، حين يَبحثُ بعضُنا عن بعضِنا،
يَنسى تمامًا كيفَ جاءَ،
وأين ضيّعَ نفسَهُ، ومتى،
وكم سيموتُ وهْو يسيرُ داخلَ نفسِهِ!
////////////////
لا تكوني امرأةً أخرى!
لا تَكوني امرأةً أخرى * جميعُ القرويّاتِ بلا ظلٍّ * وأنتِ انسحبَت أمُّكِ نحوَ الليلِ حتّى اكتملَ الليلُ، وخلَّتْكِ بلا قَطرةِ ضوءٍ * وأبوكِ المختفي كالريحِ لم يرجعْ من الموتِ، ولم يُعطِ اسمَهُ إلاّ لكِ * النسوةُ لا يَحملنَ أسماءً * ولا يولَدنَ إلّا خلسةً أو دونَ قَصدٍ، أو من النسيانِ * لا يولَدْنَ إلّا أمّهاتٍ يتذكّرنَ، ويَبكينَ على أبنائهنَّ القمريّينَ المُضائينَ بعيدًا * شَهرزاداتٌ تمرُّ الريحُ منهنَّ، فيَكبُرنَ سريعًا * ويغادرنَ إلى الليلِ ليَروينَ الحكاياتِ؛ وأنتِ انسحَبَت أمُّكِ نحو الليلِ حتّى لا تَكوني ابنةَ أيِّ امرأةٍ في الأرضِ * أنتِ ابنتُكِ البِكرُ * ابنةُ النبعِ الّتي تُصغي إلى صوتِ نموِّ العُشبِ * كَم هاجرتِ من ظلٍّ إلى ظلٍّ، ولم تنتبِهي أينَ اختفى ظلُّكِ! * كَم مُتِّ لكي تنتبِهي! * كَم مُتِّ حتّى تَلِدي نفسَكِ! …
والموتُ، الّذي في الليلِ، يَمشي دائمًا مثلَ أبٍ حولَكِ * غيبي، واكبري حتّى تَصيري جدّةً للشجَرِ الحيِّ، وللناسِ، وللطيْر الأبابيلِ، ولي..
////////////////
كنتُ أحسَبُ
كنتُ أحسَبُ أنّ القليلَ من الليلِ
يكفي،
وأنّكِ لا تَبعُدينَ عن الحُلْمِ
إلاّ ثلاثَ دقائقَ
تَكفي ليعثرَ بعضِ الفَراشِ
على وردةٍ
كان يسألُ جلجامشُ الريحَ عنها
ولكنّ أحراشَ دبّينَ ظلّت تخبّئُها لكِ أنتِ
بجانبِ تلك السماءِ،
القليلُ من الليلِ يكفي لأعرفَ سرَّ الخلودِ
القليلُ من الليلِ يكفي لأعرفَ أنّي
أقلُّ من الوردِ زخرفةً وغموضًا
وأنّي كما أنا
ما زلتُ أحلمُ دونَ رتوشٍ
ودونَ تفاصيلَ زائدةٍ.
////////////////
قليلًا قليلًا، خذي هذه الخمر
قليلًا قليلًا، خُذي هذه الخمرَ
مُسّي بها شفتَيكِ وصدرَكِ،
وادّهِني،
واشرَبي،
وأريقي على ورَقِ الوردةِ المتفتّحِ للشهَواتِ،
وإنّي أنينَ الجبالِ الّتي وطِئَتها الزلازلُ
إنّي أنينَ الرَحى.
قليلًا قليلًا خُذي هذه الخمرَ
حين تَذوقينَ حُلْما لذيذًا،
خُذيها وأنتِ مشعشعةٌ
مثلَ شمسِ الضُحى.
رآكِ غزالٌ فأكملَ صورتَه فيكِ،
ثمّ امّحى.
رأتكِ الحديقةُ فارتعَشَت
ورأتكِ السماءُ، فصِرتِ لها مَطرَحا.
قليلًا قليلًا خُذي هذه الخمرَ
تلكَ الشِفاهُ، الّتي عرفَتْ
حينَ ذاقَت
وذابَت من السُكْرِ،
حُقَّ لها أن تُميتَ وتُحيي
وأن تَستبدَّ
وأن تُرجعَ الشيخَ ثانيةً لصِباهْ
وحُقَّ لمن عشِقوا أن يَذُوقوا
وأن يَمزِجوا الخَمرَ بالجَمرِ
عندَ الصلاة.
////////////////
نصفُ جنّيّ على نصفِ فتًى أبله
نصفَ جنّيٍّ على نصفِ فتًى أبلهَ أبدو في
مرايا المطرِ المُرجأِ من أوّلِ أيلولَ،
كأنّي سلّمٌ في حوش بيتٍ قرويٍّ،
أسندَتهُ امرأةٌ تخبزُ في طابونِها السحريِّ أقراصًا من الزعترِ،
ثمّ انشغلَت عنه،
ولم تصعَدْ إلى السطحِ لكي تبذُرَ قمحًا للزغاليلِ
كما اعتادَ الفتى الأبلهُ؛
جنّيٌّ ونصفٌ، وبلا رأسٍ أنا
أنظرُ في اللاشيءِ
أو أنتظرُ المرأةَ مثلَ السلّمِ المنسيِّ في
الحَوشِ لكي تَصعدَني ذاتَ مساءٍ فترى اللهَ
وتستسلمَ للضوءِ الّذي أرسلَهُ.
مثلَ يعسوبٍ على زهرةِ صبّارٍ، لدغتُ امرأةً
تخبزُ في طابونِها السحريِّ إنسانًا من الزعترِ
كي تأكُلَهُ.
وتناديهِ من الطينِ إلى النارِ الّتي توشكُ أن تُشعلَهُ.
نصفُ جنّيٍّ على نصفِ فتًى أبلَهَ لا رأسَ لَهُ.
////////////////
تسهرينَ إلى الفجر؟
تَسهَرين إلى الفَجرِ؟
هل تبحثينَ عن امرأةٍ كنتِ ضيّعتِها في النهارِ،
ولم تجِدي بَعدُ صورتَها في المنامْ؟
لا تَكُفّي عن البحثِ في السَهَواتِ
وفي الشَهَواتِ
وفي عثَراتِ الكلامْ.
ربّما هرَبَت منكِ، واختبأَت
خلفَ أغنيةٍ في الطفولةِ
غنّيتِها لحبيبٍ مضى
ونسيتِ اسمَهُ
ربّما اختبأَتْ في رسالةِ عشقٍ
تمنّيتِ أن تَكتُبيها له
ربّما احترَقَت وأضاءَت قليلاً على نفسِها
بانتظارِ الغرامْ.
ربّما ارتعشَت لحظةً وهي تحلُم بالحبِّ
وانطفأَت في الظلامْ
ربّما…
////////////////
قف قليلًا قُربَ ظلٍّ ما
قِفْ قليلًا قُربَ ظلٍّ ما لكي نرتاحَ يا سيّدَنا،
نحنُ غريبانِ هنا كالشجَرِ الوحشيِّ هذا،
هل هو الغَرقدُ؟
هل هذا هو الغرقدُ يا سيّدَنا؟
نحتاجُ أن نَنسى قليلًا مَن هم الأعداءُ،
مِن أيّ الكوابيسِ يجيئونَ إلينا،
ولماذا زرَعوا الغرقدَ في الفكرةِ
والغَرقدُ لا ظلَّ لَهُ؟
قِفْ عندَ هذا الشيْءِ كي نسألَه ما هُوَ:
تِمثالٌ من الملحِ؟
بقايا صرخةٍ عالقةٍ بالصخْرِ؟
بحرٌ ميّتٌ؟
أم رجلٌ قد جفّفته الشمسُ
حتّى لم يَعُدْ يُشبهُ شيئًا؟
جِدْ لنا ظلًّا على الماءِ هنا،
لو أذِنَ النهرُ،
ابنُ ماءِ القمَرِ السرّيِّ،
نَهرُ اللهِ،
نهرُ المريميّاتِ الّذي ينبُعُ من أعلى الأساطيرِ
ويَجري في المجرّاتِ
وحيدًا.. كيَسوعٍ ما صلَبناهُ على الماءِ،
وعلّمناهُ تاريخَ العطشْ.
////////////////
لو عدتُ من هذي القصيدةِ سالمًا
لو عدتُ من هذي القصيدةِ سالمًا
سأقولُ للعشبِ الّذي في الظلِّ:
خبّئْني كأيِّ فراشةٍ سرّيّةٍ نسيَتْ طريقَ البيتِ،
خبّئْني لأكتُبَ بالتُرابِ.
أصابعي يبسَتْ
ورائحتي تُطاردُني كوحشٍ معدنيّ باردٍ
سأقولُ للعُشبِ:
استَعرْ جسدي، ولا تحلُمْ بشيءٍ غيرِ أخضرَ،
واتْبَع امرأةً تجيئُكَ في المنامِ
لكي تُطلَّ على حديقتِها الّتي تُؤويكَ
وهْي مضاءةٌ،
وترى لشدّةِ ما تحدّقُ في ظلامِكَ
أين ضيّعتَ الينابيعَ القديمةَ كلَّها.
سأقولُ:
تَنظرُ فوقُ
كالأعمى الغريبِ ولا ترى شيئًا،
وتقفزُ عاليًا دومًا لتسقُطَ عاريًا
في كلِّ هاويةٍ،
ويَسقُطَ منكَ قلبُكَ..
وهْيَ تَنظرُ تحت
تنظرُ تحت
نحوَ فراشةٍ زارَت حديقتَها الصغيرةَ،
تحت،
حيثُ اللهُ أنزلَ في الترابِ كلامَهُ
ورَمى عليهِ صلاتَه وسلامَهُ
لو عُدتُ من هذي القصيدةِ سالمًا
سأكونُ عشبًا في حديقتِها
تُعرّيها السماءُ أمامَهُ.
////////////////
خرجتُ بكاملِ حلْمي
خرجتُ بكاملِ حُلْمي وحرّيّتي منكَ
أكثرَ أجنحةً وجهاتٍ.
ولم يبقَ في السجنِ بعدي سواكَ.
أتعرفُ كم عددُ الشُهداءِ الّذين أتَوا للسلامِ عليَّ
وتهنئتي بالرجوعِ إلى البيتِ؟
كم حلُمًا قد رأيتُ ولم تستطعْ أن تجرّدَني منهُ!
كم مرّةً لمسَتني يدُ اللهِ وانسكبَ الضوءُ في شفتيّ وقلبيَ!
كم أمطرَت ليَ وحدي،
وأنتَ كما أنتَ منذُ ثلاثةِ آلافِ عامٍ
تفتّشُ في التيهِ عن وطنٍ وإلهِ جنود!
أنا وابنُ عمّي انتظَرنا طويلًا هنا،
وتركناكَ تذبلُ،
ثمّ خرَجنا كما تخرجُ الكمَآتُ من الأرضِ،
والرعدُ ما زالَ يقصفُ في ليلِ هذا الوجود.
لدينا الكثيرُ من الضوءِ والوقتِ والشهداءِ
لدينا السماءُ التي يعرجُ الأنبياءُ إليها
لدينا مسيحٌ مضاءٌ نعلّقُه حولَ أعناقِنا لنكونَ خفافًا.
فماذا ستفعلُ ثانيةً بالمسيحِ
إذا عادَ من بيتِه في السماءِ إلى بيتِه في الجليل،
وعلّم أرواحَنا أن تعود؟
شاعر من فلسطين