الرجل المئوي
(1)
تساءلتْ زوجتي باستخفاف:
“هل هذا ممكن؟”.
أعرف نسبة استخفافها بالخبر الشائع، منذ إعلان بلدية المدينة عنه، لذلك حاولتُ أن أفسّر لها الحالة بطريقة ملتوية:
“لعلّ ذلك يحدث في الزمن من دون علمنا”.
مطّت شفتيها والاستخفاف ذاته يرتسم على وجهها:
“وهل الزمن مطّاط إلى هذا الحد؟”.
“أنتِ تعرفين ذلك أفضل مني”.
لا أودّ الجدال معها في موضوع كهذا.
تتطير من الغيبيات وشواردها وشواذ الحياة التي نُحييها في مناسباتٍ كثيرة. وتتنكر في كثير من الأحيان لتعلقنا بما تركه السلف من أخبار وروايات ومرويات وأقوال وأفعال وطقوس. ولولا أنها زوجتي وأعرف طريقة تفكيرها، لوصفتُها بالارتداد عن مسار السماء الذي نعيشه جيلاً بعد جيل، والخروج عن طاعتها العمياء. لذلك كان من السهولة أن تردّ:
” تسيّرون الزمن بحسب أهوائكم”.
أجيبها بعناد:
“إنه زمن مفتوح على كل شيء”.
تستخفُّ من جديد:
“اعترف بأن خيالكم عجينة تتشكل بحسب الظروف”.
قد يشوب كلامها شيء من الاعتراض وربما السخرية المبطنة. بل التقاطع الكلّي. أفهم طريقتها غير المباشرة بانتقاد الأشياء الصغيرة والهامشية وحتى الكبيرة منها. تُحوّل الخيال – خيالنا – إلى فصول من كتاب ينتهي تأليفه بطبيعة الحال، بنظريات ومفاهيم يُعتدّ أو لا يُعتدّ بها، إلا أن الأمر لا ينتهي بالنسبة إليها إلى هذا الحد، بل تديم وجودها النقدي كلما وجدتْ سبيلاً إليه في مجتمعها النسائي، وحتى الذكوري منه في الجامعة. وكأنها لا تريد أن تقف عند حدّ ما يحدث من خيال طقوسي مستمر. إنما تحلله وتُرجعه إلى أسبابه التاريخية والاجتماعية، وبالتالي تفسّر وتتوقع – حسابياً – خسارات الزمن الذي صرفته مجتمعاتنا على مرّ التاريخ الهجري.
زوجتي متسلحة بالمعرفة الأكاديمية، وأحسدها على هذا المزاج في القراءة والكتابة والتحليل والاستنتاج، كأنها خريطة تتجدّد وتحدّث ذاتها في كل يوم.
تردد في كثير من الأحيان:
“غيّر طريقتك الفطرية في النظر إلى ما يُحيط بنا.. الفطرة توقفكَ عند مستوىً واحد في الحياة”.
لعلي أفهم بالضبط ماذا تقصد، وكيف لا تستثنيني عن غيري ممن تعيش بينهم، من الأهل والمعارف والأقرباء وأساتذة الجامعات من العهد الجديد. غير أنني بطبيعة فطرية حقاً، لا أستجيب لمضامين الحياة الكثيرة إلا ما ندر منها. وقد يكون لها تأثير مباشر على منظومة الكثير من أفكاري وطقوسي المعتادة التي أقوم بها بحماسة وحسن نية، كأنني اقترضتها من زمن قديم، وعليّ واجب تسديدها في هذ الزمن لـِ.. لمَن؟
في كثير من الأحيان لا أعرف لمَن سأسددها، لكنني مطمئن إلى أنها ستصل إلى السماء على أقل تقدير(حتى السماء لنا)، وأحياناً أشعر بالعبث (أجد نفسي في فوضى لا طائل من ورائها)، وأحياناً بالمتعة (أنغمر مع الناس بسعادة شخصية)، وفي غالب الأحيان يعتريني شعور من أن هذه واجبات دينية تشكّلت في أعماقي الاجتماعية (أوليها اهتمامي ووقتي). غير أن زوجتي ترى بأن هذا هدرٌ للزمن والوقت وتعذيب للذات لا ينتهي (إنها محقة بعض الشيء)، تفسّر الحالات التي أمرّ بها على أنها سلوك موروث وعليّ أن أتخلّص من الجزء الأعظم منه (أوافقها إلى حدّ ما) حتى أكون خفيف الأحمال، بدلاً من هذا العنف القسري الذي لا يُوصِل إلى نتيجة، بل يزيد من أثقالي ويجعلني إنساناً مشوهاً، (هكذا قالت لي أكثر من مرة بطريقة المزاح)، لكنه مزاح فيه قسوة، عكس أنوثتها التي أهيم بها حباً وشغفاً.
(2)
زوجتي أستاذة جامعية، وهي ابنة عمي، جمعني بها حبّ طفولي حتى اليوم. اعتدتُ على وجودها في حياتي منذ سنوات القرية التي كانت فيها بيوتنا متجاورة؛ نحن الأعمام والأخوال من فخذ العشيرة. لم نعش قصة حبّ كما يحدث عادة، لكننا متفاهمان وآمنان في هذا الزواج الجميل.
زوجتي حاصلة على شهادة الماجستير بدرجة امتياز من كلية العلوم الأساسية – قسم العلوم الاجتماعية. ذكرت في أطروحتها العلمية – بحسب فهمي لها – أن الزمن فعالية متحركة في المكان، ووَصَفته بأنه جسر لا مفرّ منه للعبور إلى المستقبل، وعلى المجتمع أن يعي أدواره الجمالية في إيجاد ملاذات زمنية أكثر أماناً ودقةً وإنتاجية.
وذكرت في رسالتها أيضاً – التي أخذت من وقتها أكثر من سنة كاملة – بأن الإنسان وليد ظروفه البيئية وموروثاته الاجتماعية والدينية، ومن الصعب عليه أن يتجاوز هذه المحددات التي يولد معها، وبالتالي فهو حالة شائكة ومانعة للتقدم الحضاري والعلمي إن بقيت تلك المغروسات مرافقة له في حياته العامة والخاصة، بمعنى يتعطل الزمن لديه ليكون عنصراً سالباً ضد المدنية والحضارة. وقد جاءت بأمثلة جريئة من الواقع وميدانه، تطبيقاً لمفهومها عن الزمن وهو يتسرب في المكان الاجتماعي بطريقة فوضوية غير مسؤولة.
درجة الامتياز التي حصلت عليها أهّلتها لنيل شهادة الدكتوراه، وهي جادّة في مواصلة دراستها لاختيار موضوعها الذي لم تحدده بعد. لكنها تبحث في المجتمع عن ظاهرة عامة، لتغوص في تاريخيّتها وتحللها وتخرج بنتائج علمية واضحة. وأعتقد بأنها استقرت على دراسة أثر الطقوس والشعائر الدينية في بلاد وادي الرافدين على الحياة العامة، ومدى أهميتها النفسية والروحية في البناء الاجتماعي، ودور الكهنة في إنشاء نظام ديني يتفوق على السياسي، وصفته لي بأنه كان أعلى من سلطات الملوك آنذاك. هذا يعني بأنها ستمضي إلى العصر العراقي القديم، لكن بتطبيقات معاصرة، لتبرهن على أن الزمن عبارة عن سلوك متصل في الحياة الاجتماعية، حتى لو مرّت عليه آلاف السنوات، وأن التوريث الاجتماعي ذو جذر ديني أسطوري وخرافي في أساسه. وتعدّ ذلك مشكلة مرافقة للزمن الاجتماعي.
زوجتي لديها مزاج وصبر استثنائي في مقاومة الزمن واستثماره في الدراسة والقراءة. وأنا لا مزاج عندي لكل هذه التفاصيل وهذه المعرفة الشائكة. اكتفيت بكوني مدرّساً في إعدادية للبنين ولا أكثر من ذلك. لهذا فهي تميل ببساطة إلى حلّ بعض المعضلات اليومية التي تواجه حياتنا البسيطة، وتبعث الروح في يومياتنا الميتة، وتتصرف دائماً بحكمة المرأة التي تسير في الاتجاه الصحيح إلى الحياة. وهذا لا يقلل من شأني أمامها كزوج وابن عم، سوى ما تراه وتلمسه في فطرتي الداخلية والخارجية، وقد تجعله مأخذاً عليّ، وكأنها لم تعش معي سنوات الطفولة والصبا في قريتنا البعيدة، وقد تطبّعنا – أنا وهي – بطباع فيها الكثير من العلاقات الاجتماعية والدينية، كما فيها الكثير من الطقوس الشعبية المُلزمة في كثير من الأحيان. لكن أن تحيلها إلى خرافاتها القديمة وأسطوريتها، فهذا شأن أكاديمي يخصّ دراستها ووظيفتها البحثية.
(3)
زوجتي قلقة.
تقول إن القلق منشؤه الشك.
لا تؤمن بنظريات كثيرة عالجت الزمن البشري وتحدثت عنه، وتميل إلى الشك في كل شيء. ولعل هذا ترك فيها حجة قوية أن تكون علمية أكثر من كونها امرأة تعيش واقعاً، اختلطت فيه الخرافة بالأسطورة في صراع الزمن الاجتماعي بواقعيته المعتادة. لكن هذه المرة كأنما تجسدت أطروحتها الماجستيرية في الواقع.. مصادفة ونبوءة قديمة متكررة في الأساطير والآداب والسرديات تحدث الآن بيننا بطريقة واضحة، جعلت المدينة تخرج عن صوابها وثباتها، وتتصرف برعونة وفوضوية، كأنها فقدت زمامها الأخلاقي والخرافي، وتبعت نداءات متكررة عن حكاية رجل عاش مئة عام ولا يزال حياً بيننا لكن من دون أن نراه.
بدا القلق المصحوب بالشكّ واضحاً عليها، كأنما التعايش مع الحدث الذي مرَّ بمدينتنا واستمرّ لساعات ساخنة طويلة وطّد مصداقية رسالتها في الزمن العشوائي الذي نبتكره ونصدقه ونركض وراءه بعيون مغمّضة. وكرّس لديها التركيز على إعادة النظر في معاينة الواقع المشغول بغيبياته وخرافاته وانتماءاته الكيفية. وهو ما قد يجعلها تستحضر الماضي القديم وآلياته الدينية عبر الكهنة الذين لا ينقطعون عن اللجوء إلى الزمن بكل تجلياته ومراحله الإنسانية. إنهم آلهة بشكل واضح. تردد لي ذلك عندما تريد أن تقرّب إلي صورة القديم من الحياة وعلاقته المتوارثة مع الحاضر.
هذه طريقتها في معاينة ما يحدث في الواقع وتفسيره؛ على العكس مني، أنا المنقاد إلى خرافات الأشياء المحيطة بنا، إذ إني أخاف من كل شيء يخرج عن سجيته الحياتية ونظامه اليومي الذي نعيشه، وأشعر بخوف مضاعف في استثناءات الحياة التي تحصل.
ثمة أفكار قديمة لا تزول من رأسي أنقاد إليها بسهولة؛ لأشعر بأنني مؤتمن على وصايا المجتمع الريفي الذي عشته، ولا يمكن لي أن أتجاوزه أو أن أخرقه. أخاف الضياع والتشتت. مثل طائر الهجرة الذي لا بدّ أن يبقى مرافقاً لسربه حتى الموت.
(4)
يحدث في مدينتنا الصغيرة؛ وهي تعيش رتابة مملة كأنما زمنها تجمّد؛ ما يستثيرني ويجعلني مستفَزاً ومراقِباً لشأنٍ اجتاحنا بطريقة غريبة، فالدعوة المباشرة للأهالي إلى حضور احتفالية الخلود البشري؛ متجسماً في رجلٍ غير معروف؛ أمرٌ أثار فينا الاستغراب، لا سيما زوجتي العنيدة والمتطرفة بعلميتها، فكانت، بين لحظة وأخرى، تتطلع إلى وجهها في المرآة، لتريني – ساخرة – أن مشوارها في الحياة لن ينتهي قريباً، ولديها ضعف عمرها ستعيشه بسعادة، كما عاشه هذا الرجل الذي أثار استغرابنا. حتى إنها قالت، بالسخرية ذاتها؛ إن الزمن رجلٌ طويلٌ، مربع الجسد، بوجهٍ مفلطح، وشارب غليظ نازل إلى صدره، يقبع في زاوية من البيت يراقبنا ولا نراه، بل يرانا ويتحكم في أمزجتنا وتطلعاتنا.
“مَن يسمع هذا الخبر يتصوّر أن الزمن رجل.. ههههه”.
كنت ألاطف شبابها الثلاثيني وأقول لها كلاماً واضحاً بشأن عمرها الجميل، وأحثّها على حضور الاحتفالية، لنرى الزمن على وجه الرجل وروحه. هذا الرجل الذي عاش عشرة عقود متواصلة ولا يزال على قيد الحياة، بعد أن قطع شوطاً طويلاً في أعوامه المئة.
“غداً يبدأ يومه الأول في المئة الثانية”.
“وهل تصدّق هذه الخرافة؟”.
لكنها تعترف بقلق:
“لا أستغرب من أن رجلاً يعمّر حتى المئة عام، ففي الطبيعة استثناءات كثيرة”.
ثم تقول:
“مدينتنا البائسة لا تتحمّل مثل هذا الاستثناء”.
توضّح لي:
“كثيرون في العالم عمّروا مئة عام أو أكثر. لكن هذا يتطلب هواءً نقياً وظروفاً صحية استثنائية، ومجتمعات لا تعرف الحروب والهزائم العسكرية والهزّات الاقتصادية والسياسية”.
تخلص:
“الإنسان ابن بيئته، وبيئتنا لا تنجب خالدين للأسف”.
وقبل أن تُنهي حديثها، تقول حكمتها:
“مدن الحرب يكون الموت فيها هو الحالة الطبيعية، أما الحياة الطبيعية فهي الاستثناء”.
ثم:
“لا خلود في مدن الحرب، ولا استثناء فيها أبداً“.
(5)
لها الحقّ.
لا أجادلها كثيراً.. فعلميتها المكتسبة من الدراسة الواعية تجعلها تقول ذلك. أنا مؤمن بالغيب وظواهر الطبيعة المفاجئة في حياتنا، وهي سيدة علم وثقافة أكاديمية رصينة. وأمام ما أعلنته بلدية المدينة، أعتقد بأننا تقاطعنا نسبياً في النظر إلى الحدث الغريب، فمثل هذه المؤسسة الغائبة عن حياتنا اليومية، والتي لا تعنينا بشيء، خرقت قاعدة تهميشنا ووجودنا الاجتماعي عندما أعلنت عزمها على الاحتفال برجل بلغ من العمر مئة عام، وهيّأت كوادرها الفنية والإعلامية، لتكون المناسبة شعبية متميزة، تبعث الأمل في نفوس الأهالي المصابين بعقدة الموت.
هذا أمر نادر الحدوث في مدينتنا التعيسة.. لهذا، وبشكلٍ عاجل، قام عمّال البلدية ومستخدموها بغسل الشوارع الترابية والفرعية والأرصفة والأزقة الموصلة إلى المسرح الصغير المتروك منذ سنوات. وكانت الحوضيات، منتفخة البطون، ترشّ مياهها من صنابير رشّاشة لامتصاص حرارة الشوارع والأرصفة وترطيب الجو على قدر المستطاع. كما زُيّنت بناية المسرح بأشرطة لمّاعة، وبالونات ملونة وبوسترات تحمل صورة الرجل الشخصية التي نشرها صحفي في إحدى صحف العاصمة، بتحقيق استقصائي مثير أخذ صفحة كاملة من الجريدة، مُذيّلاً بسطر كتبته هيئة التحرير: (هذا ما يمكن نشره من ذكريات الرجل المعمّر).
(6)
بقينا أمام حدث غريب من نوعه في مدينتنا القديمة. وزوجتي ترقب مستويات ردود الفعل عند الأهالي والعامّة من الناس الذين فاجأهم أن تكون المدينة مُنجبة للخلود البشري، وهي التي مرّت بحروب وكوارث وعواصف سياسية وطائفية لا عدّ لها. ومثل هذا الحدث الذي أعلنته بلديتنا، سيبقينا يوم غد على قيد الانتظار لرؤية معجزة الخلود في رجل مئوي لا نعرف من هو على وجه التحديد؛ لكننا سمعنا منذ زمن قديم بمثل هذا الخيال العظيم من جداتنا وأمهاتنا وآبائنا القرويين. فلعله هو.
* تصدر قريبا عن دار الدراويش في ألمانيا