المسيح الأندلسي
ليلة البرج
في طريقي نحو بيت الشريف الأندلسي، استولى على مخيّلتي وجه الغريب الذي قال إن اسمه الطبيب دون بيراث، محمّد ابن أبي العاص، وراح يشغل مساحة تفكيري، ليحلّ مرّة واحدة محلّ وجه فيروزة. وجدتُهُ وجهاً مألوفاً في كلّ مَلمَح من ملامحه. في العينَيْن الزيتونيَّتَيْن، والأنف الدقيق، والفم المكتنز، واللحية الشقراء المشوبة بشيب خفيف. كان وجهاً مألوفاً إلى درجة شكَّكتْني بنفسي. كيف يكون مألوف الوجه لي إلى هذا الحَدِّ؛ وأنا واثق تمام الثقة بأنني لم أره من قبل؟
في لقائنا العابر عند البدر بن الحَكَم؛ لم أتبيّن ملامحه البتّة، بسبب العتمة التي دهمتْني حين ولجتُ إلى المخزن مسرعاً، هارباً من شمس رابعة النهار. ولكنني تذكّرتُهُ من نبرة صوته.. من نبرة صوته فقط.
فاجأتني بركة موحلة زلقة، كان لا بدّ من اجتيازها للوصول إلى بيت الشريف الأندلسي، وإلّا؛ كان عليّ أن أسلك طريقاً آخر، سوف يكلّفني وقتاً وجهداً كبيرَيْن، فحزمتُ أمري وجازفتُ بالسير على حوافّها، على أن ألجأ إلى الزقاق السهل الذي يسكنه الفرنجة المتربّصون بكلّ ذي عِمَامَة.
بعد جهد جهيد؛ تجاوزتُ تلك البركة، ونجحتُ في تجنّب طريق الفرنجة، وعندها لمعت في ذهني فكرة غريبة، ولكنها شديدة المعقولية: لمَ لا يكون هذا الطبيب ابن أبي العاص هو نفسه دُون خيرونيمو راميريز؟ الدلائل كلّها تشير إلى أنهما شخص واحد، حتّى الجملة الأخيرة التي قالها: لا أحد يعرفه مثلي هي حجّة عليه. كيف غَرُب عنّي ذلك الأمر؟
وصلتُ سريعاً إلى بيت الشيخ، ولكنني، ولسوء حظّي، لم أجده؛ كان قد خرج للتوّ ليقضي بعض الأمور مع شيخ الإسلام في إِسْطَنْبُل، كما أخبرني ابنه الصغير حين فتح لي الباب ودعاني لانتظاره.
– ألحّ والدي علينا بأن نُدخِلكَ لتنتظره، فهو على أُهْبَة الوصول.
– سأبقى هنا في الجوار، أنتظر عودته.
بيت الشيخ ليس ببعيد عن برج غَلَطَه الذي يروي الأندلسيون عنه برهبة؛ الكثير من القصص، وخصوصاً قصّة الأصوات المخيفة المنبعثة منه في ليالي الصيف المقمرة!
فكّرتُ في أن أستفيد من وقتي بالصعود إلى أعلى البرج ريثما يصل الشيخ. اقتربتُ من جداره، فصدمتْني خشونة البناء، وعشوائية كسر الحجارة الكلسية البيضاء؛ المخلوطة بكسر حجارة النار السوداء، والآجرّ الأحمر المشوي، والمربوطة جميعاً بمِلَاط غريب أراه للمرّة الأولى، لا يشبه المِلَاط الذي يربطون به حجارة الأبنية في بلادنا.
ثمّة حارس أندلسي سمين أبيض الوجه بخدَّيْن منتفخَيْن ولحية حمراء خفيفة، مسلّح بغَدَّارة وعددٍ من الخناجر، يجلس على كرسيّ متهالك، مشغولاً بشرب منقوع عشبي. عرفتُ أنه أندلسي من عِمَامَته الملوّنة. اقتربتُ منه وقلتُ بعربيّتي الأندلسية:
– السلام على ابن العمّ؟
ابتسم الحارس وهو يعبّ آخر جرعة من كأسه:
– وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
– هل تأذن لي بالصعود إلى أعلى البرج؟
– هذا خطر عليكَ؛ قد تسقط وتموت.
– أدعى عيسى بن محمّد التُّطَيْلِيّ، ولستُ عبّاس بن فرناس الرُّنْدِي .. انظرْ، أنا لا أحمل معي أجنحة للطيران.
نظر الحارس إليَّ مليَّاً وهو يبتسم، على الأرجح أنه رآني أنيقاً نظيفاً، يوحي مظهري بأنني من علية القوم، فقال وهو يضع كأسه على حافّة الدرج القصير المؤدّي إلى باب البرج:
– ليس من عادتي أن أسمح لأحد بالصعود إلى الأعلى، ولكنْ، بما أنكَ من أبناء أمّتنا التعسة، سأصحبكَ إلى الأعلى وأعود، وأحذّركَ منذ اللحظة، إن تأخّرتَ هناك، سأغلق الباب وأغادر في موعدي، وعليكَ أن تبقى سجيناً مع الأرواح المحبوسة في البرج حتّى صباح الغد.
عند كلمة الغد؛ انفجر الحارس الأندلسي ضاحكاً بطريقة ماجنة أثارت حفيظتي، ولكنني تبعتُهُ من دون أن أعلّق بكلمة واحدة على هذه المداعبات الغريبة.
أخرج الحارس من حزامه الكتّاني مفتاحاً بطول شبر، وفتح باباً صغيراً يتّسع لشخص واحد، يقع في أسفل الدَّرْفَة اليمنى للباب الكبير للبرج، ثمّ دعاني للدخول. أخذ قنديل زيت مشتعل كان على رفٍّ وراء الباب، ثمّ دلف إلى الدرج.
يرتفع القبو الحجري الضيّق المعتم، الذي يحيط بالدرج، مقدار قامة رجل متوسّط الطول، كأنه سرداب من سراديب تقسيم الماء في طُلَيْطِلَة، ويرتكز على الجدار الداخلي للبرج، ولذلك يأخذ شكلاً متحلزناً، تتخلّله طلَّاقات أسهم دفاعية، وفتحات تهوية، تطلّ كلّ واحدة منها على أحد الطوابق المتراكبة بعضها فوق البعض الآخر، وتأخذ شكل محابس، كان لها فيما مضى أبواب ضيّقة، بالكاد تسمح لرجل واحد بالخروج أو الدخول.
أخبرني الحارس، ونحن نواصل الصعود؛ أن هذه المحابس، كانت حتّى سنوات قليلة مختصّة بأسرى الفرنجة الذين سخَّرهم أمراء البحر لبناء الأسطول. وفي أثناء توقّفنا للاستراحة في الطابق الخامس، لفت نظري أن فتحات التهوية لهذا المِحْبَس بالذات مغلقة بما يشبه الشبابيك، وله باب خشبي مغلق بإحكام. نظرتُ إلى الحارس متسائلاً، فقال حين فهم قصدي:
– لا شأن لكَ بهذا الطابق؛ هل فهمتَ؟ لا شأن لكَ!
امتثلتُ لأمر الحارس، ومضيتُ خلفه إلى السطح المنفتح على فناء رأس البرج شاهق الارتفاع. كان ثمّة عدد من النوافذ الواسعة المقبوَّة، المطلّة على الجهات الأربع، وفي أحد الجوانب سُلَّم حديدي يفضي إلى الشرفة المستديرة الضيّقة في أقصى علوِّ البرج.
قال الحارس وهو يهبط الدرج عائداً إلى محرسه عاجزاً عن مداراة ضحكاته:
– إيّاكَ ثمّ إيّاكَ أن تتأخّر، عليكَ أن تنزل بعد قليل، فلن أصعد ثانية لكي أطلب منكَ النزول، وعندها تعرف ما سيحصل!
قرأتُ على الجدار أسماء وذكريات محفورة بحروف لاطينية، لم أتبيّنها جيّداً بسبب تقادُمها، أو جهل كاتبيها، وتهيّأ لي أن أصداء الصرخات التي تخيف الأطفال في بيوت غَلَطَه، ما تزال تتردّد في زوايا المكان ودهاليزه، لأتنَّبه فجأة إلى أنها صرخات حقيقية أطلقها الحارس على سبيل الدعابة من أسفل الدرج، قبل أن يعاود الضحك الماجن.
بدت لي غَلَطَه أصغر بكثير ممّا كنتُ أظنّ، رأيتُها محاطة بسور مثلّث الأضلاع، مسحتُهُ بنظرة واحدة، قاعدته عريضة قليلاً، لكنها مقوَّسة مع تقوُّس الساحل، تبدأ من نهاية ساحل خليج القرن الذهبي قبل أن يستدير باتّجاه البُوغَاز، وتنتهي بالبرج الدفاعي المحاذي للإِسْكِلَة الجديدة المسمّاة ميِّت إِسْكِلَة سي، أمّا رأس المثلّث، فهو النقطة التي كنتُ أطلّ منها على هذا المنظر المهيب.
داخل المثلّث ثمّة مثلّث آخر من الأسوار والأبراج التي بُنيت حديثاً، لتفصل أحياء الجِنْوِيِّيْن الفرنجة، والروم الإغريقو، واليهود القدماء ومعهم الحلبيون، عن حيِّ الأندلسيِّيْن بعد أن زادت التعدّيات بين الجانبَيْن. كنتُ أعرف شوارع الحيِّ الجِنْوِيِّ وأزقّته زقاقاً زقاقاً، فقد أمضيتُ الشهور الخمسة الماضية وأنا أبحث فيه عن أيِّ شيء يمكن أن يهديَني إلى طرف خيط يُوصِلني إلى دون خيرونمو.
تلك كنيسة القدّيس بندكت في الجهة الشرقية، وتلك أزقّة الجِنْوِيِّيْن وحاناتهم. حين كنتُ أقصدها مدّعياً أنني تاجر حرير قَشْتَالِيّ؛ كنتُ أرتدي بزّتي الإشبانية، بسروالها المنتفخ المحبوس بالأزار أسفل الركبة، وقبّعتها الرمادية الكبيرة باستدارتها، والمزيّنة بريشة حمراء.
تلك أحياء الإغريقو ببيوتها الفقيرة المتهالكة، وأزقّتها الضيّقة، التي تلاصق بيوت اليهود، وإلى الشمال منها بيوت الحلبيِّيْن، وهي أقرب النواحي لـحيِّ الأندلسيِّيْن وجامع العرب، وذاك مَرسَى ميِّت إِسْكِلَة سي. هذا المَرسَى هو السبب في سكنى الأندلسيِّيْن هنا في غَلَطَه، فبعد أن اتّخذ الرايس خضر من ناحية قاسم باشا مستقرّاً له، بدأ ينتخب من الأندلسيِّيْن الذين نقلهم في وقت سابق من مُرْسِيَة وغَرْنَاطَة إلى الجزائر، علماء، وتجّار، وأصحاب حِرَف، ليزرعهم هنا في غَلَطَه، وسط طوائف الفرنجة المتغلّبين على المكان.
جُلُّ الفرنجة من بقايا الجِنْوِيِّيْن المتوطِّنين، وكثير من سفراء اختاروا أن يبنوا مساكنهم وبعثاتهم بعيداً عن “عاصمة بني عثمان” التي كانت مآذنها وقبابها تستفزّهم من الفجر وحتّى مغيب الشمس. ثمّة أعداد متفاوتة من رهبان فرنسيسكان، ودومينيكان، وجِزْوِيْت، وكبوشيين، يسعون جهدهم لهداية الهراطقة الأرثوذوكس إلى الكاثوليكية الصحيحة، قبل أن يبتلعهم تيّار الإسلام التركي الجارف!
أذكر أن الشريف الأندلسي قال لي ذات مرّة إن خطّة الرايس خضر هذه لقيت هوى لدى المغفور له السلطان سليمان، بعد أن كان اليأس قد بلغ منه مبلغاً وهو يحاول إقناع الترك بأن يسكنوا هذه المدينة الملعونة.
يومها سألتُ الشريف الأندلسي باستغراب شديد:
– ملعونة، يا شيخ! كيف ذلك؟
– كانت غَلَطَه في نظر أحفاد الألبلار، وهم المتصوّفون الأبطال أسلاف تُرْك هذه البلاد، مكاناً آثماً يَعِجُّ بالحانات، ودُور البغاء، ولا يليق بأرواحهم النقية، ونفوسهم الأبية أن تسكن فيها، ولذلك شملت مِنَح السلطان وعطاياه الجزيلة الأندلسيِّيْن الذين اعتادوا على العيش بين النصارى من دون أدنى حَرَج.
لقد عرف أبناء أمّتنا كيف يستفيدون من قانون السلطان سليمان المختصّ بمِنَح مزايا وعطايا وهبات لمعتنقي الإسلام من نصارى الروم الإغريقو والبلقان، فحصلوا على المِنَح والعقارات، على قَدَم المساواة مع معتنقي الإسلام الجدد، كونهم أُكرهوا على اعتناق النصرانية والعماد في الكنائس، ولذلك كانوا يبالغون في طقوس استبدال الأزياء الفرنجية بالعباءات والعِمَامات الزاهية الملوّنة على رؤوس الأشهاد، وإقامة حفلات الختان الجماعية الضخمة، وهي احتفالات كانت تستفزّ جمهور الجِنْوِيِّيْن، والبنادقة، ومعتنقي الكاثوليكية من روم إِسْطَنْبُل!
انتشلني من تداعيات فكري التي لا أعرف كم استغرقت من الوقت صوت صياح خارج البرج. صعدتُ سريعاً إلى الشرفة الدائرية ونظرت إلى الأسفل، فرأيتُ مجموعة من الشباب الأندلسيِّيْن، على رأسهم “الحارس الضاحك” يقاتلون بالعصي مجموعة من الفرنجة المسلّحين هم الآخرون بالعصي. وليس ثمّة داع لمعرفة سبب هذا الشجار، فهو قد ينشأ لأتفه الأسباب، ومنها لمجرّد تبادل النظرات.
كان الأندلسيون هم المتفوقون في الشجار، ولكن قائدهم، حارس البرج، تلقّى ضربة قوية على رأسه أوقعته أرضاً، وأسالت دمه. راح الشبّان منهم يلاحقون شبّان الفرنجة في الأزقّة، بينما حمل شابّان الحارس الجريح، ومضيا به إلى أحد البيوت مَغْشِيَّاً عليه.
أسرعتُ بالنزول رغم صعوبة الدرج المحلزن وعتمته، ولكنني فوجئتُ بأن الباب مغلَق بالمفتاح. حاولتُ أن أجذبه فلربّما كان مفتوحاً، غير أنني أدركتُ، بعد محاولات فاشلة، حقيقة أن الباب مغلَق، ولن يستطيع أحد فتحه سوى الحارس. أُسْقِطَ في يدي، وجلستُ في العتمة أنتظر قدوم أحد ما يمكن أن يخلّصني من هذا المأزق.
بعد انتظار طويل صعدتُ إلى سطح الطابق الخامس، ورحتُ أبحث عن النافذة التي تطلّ على جهة بَلَاطْيَة. كان المطر قد عاود الهطول، وأصبحت الرؤية ضبابية. لاحظتُ أن الغيوم غدت على مستوى نظري، بل لامست النافذة التي أطلّ منها. مطر إِسْطَنْبُل ثقيل غزير، على العكس من مطر الأندلس العالي الخفيف، ومع ذلك سرعان ما كانت غيوم إِسْطَنْبُل تنقشع، وكأن شيئاً لم يكن، لتعود السماء زرقاء، والشمس مشرقة.
ارتوت المآذن والقباب، والأسقف الحمراء بماء المطر، فبدت صارخة الألوان نظيفة. رحتُ أبحث عن بيت حاجي رمضان، فعجزتُ للوهلة الأولى عن تحديد مكانه وسط الأسقف المتشابهة، ولكنني، وبعد أن اهتديتُ إلى موقع بَوَّابة بَلَاطْيَة، وتتبّعتُ بنظري الزقاق الذي سلكتُهُ صباحاً، اهتديتُ إلى مكان البيت تماماً. لقد تميَّزتُهُ الآن جيّداً بين البيوت المتراصّة، بعلامة كنيسة خورا، وسقفه القِرْمِيْدِيّ الكبير الذي يأخذ شكل مربّع مفتوح إلى السماء.
فجأة عادت إلى مساحة مخيِّلتي فيروزة ابنة حاجي رمضان، ووجدتُ نفسي أستعيد ابتسامتها المحيِّرة وعينَيْها المبطّنتَيْن الناعستَيْن، بلذّة محبّبة تشبه طعم الحلوى في فم طفل رضيع.
لا أدري كم مضى علي غافياً في مكاني، متلفِّعاً بردائي الثقيل، وحين استيقظتُ وجدتُ الشمس قد فارقت سماء إِسْطَنْبُل، وحلّ الظلام، وانتشر البرد في زوايا المكان. كان الجوع قد بدا يقرقر في بطني، فقاومتُهُ بحبّات من السُّكَّر المعقود بعصير الرمَّان، احتفظتُ بها مصرورة بورق ملوّن، كان حاجي رمضان دسّها في جيبي وهو يودّعني.
أخيراً أدركتُ بأنني سأمضي ليلتي في هذا المكان، فسلَّمتُ أمري لله ورحتُ أفكّر بالزاوية المثلى لقضاء ليلة غير مقرورة بالبرد، وفيما كنتُ سابحاً بأفكاري، أبدّل بوجه فيروزة وجه الأندلسي الغريب، سمعتُ صوت مفتاح يدور دورات عدّة، ومع كلّ دورة صوت تَكَّة ذات صدى عميق. شعرتُ برعب شديد، فمَنْ ذا الذي يفتح باباً في هذا الليل البهيم؟!
بالكاد نجحتُ في النهوض من مكاني، وتوجّهتُ إلى سرداب الدرج، لأسترق نظرة نحو مبعث الصوت.
يا للهول؛ ثمّة رجل يحمل سراج الطريق ولج لتوّه باب المِحْبَس الخامس، وأغلقه من الداخل. وبعد هُنَيْهَة انبعث ضوء خافت من فرجة أسفل الباب، ومن حوافّ نوافذ فتحات التهوية الداخلية المغلقة بدَرْفَات خشبية.
جلستُ على إحدى الدرجات التي تسمح لي برؤية الباب، إن مددتُ رأسي قليلاً. فكّرتُ في أن أطرق الباب على الرجل، ولكني تراجعتُ في اللحظة الأخيرة، فأنا لا أعرف مَنْ هو؟ ولماذا أتى في الليل؟ وماذا يفعل في الداخل؟ ولم أشأ أن أقف في موقف لا أعرف عواقبه.
بعد مضي مدّة طويلة من الوقت، لم يحدث شيء. أُطفئت الأضواء في الداخل، ولم أعد أسمع أيّ حركة. يبدو أن الرجل غطّ في نوم عميق، آيته شخير متقطّع.
عدتُ إلى موضعي الأوّل في الأعلى، فوجدتُ البرد شديداً غير محتمَل، ولذلك قرّ رأيي على أن أمضي بقية الليلة في سرداب الدرج، فهو أدفأ، ويمكن أن يسمح لي برؤية الرجل حال خروجه من القاعة.
استيقظتُ على صوت حركة الرجل الآتية من داخل المِحْبَس، وما هي إلّا لحظات حتّى عاد الضوء لينبعث من جديد من حافّة الباب السفلى، وحوافّ نوافذ التهوية. ثمّة أمر يحدث في الداخل. وبعد قليل وصلني صوت المؤذّن الأندلسي عميقاً يعلن موعد صلاة الفجر. صعدتُ على رؤوس أصابعي إلى الأعلى، ورحتُ أبحث عن جامع العرب في هذا الظلام الدامس، كان هناك ضوء حفيف منبعث من نوافذ عديدة، أدركتُ أنها نوافذ الجامع، وبعد قليل بدأ بعض الأندلسيِّيْن بالتقاطر إليه هابطين المنحدرات الزلقة. عندها قرّرتُ أن أصلّي الفجر في مكاني سرّاً، رغم أن الجهر سُنَّة واجبة في مذهب الإمام مالك، ولكنه، عزّ وجلّ، لا يكلِّف نفساً إلّا وسعها.
مع بزوغ شمس الصباح؛ سمعتُ مفتاح باب المِحْبَس يدور دورات عدّة ثمّ ينفتح، ليخرج الرجل حاملاً بيده اليسرى سراج الطريق، وقد سمح لي وقت إغلاق الباب من الخارج أن أتأكّد من ملامحه.
يا للهول؛ إنه الأندلسي الغريب الذي صادفتُهُ صبيحة اليوم الماضي وقال إن اسمه الطبيب محمّد بن أبي العاص! هبط الرجل الدرج مسرعاً، وتبعتُهُ بحذر شديد، بعد أن غاب عن ناظرَيّ تماماً. كان ضوء السراج دليلي الوحيد إلى مكان الرجل، لم أشأ أن يراني أو يشعر بوجودي، فقد أيقنتُ أن وراءه سرّاً، ولربّما يقودني هذا السرُّ إلى دون خيرنيمو راميريز، هذا إذا لم يكن هو الدون نفسه.
******
سرُّ المفتاح
استيقظتُ على ضحكات الحارس الماجنة. في البداية ظننتُها مناماً، ولكنني، حين فتحتُ عينَيَّ، رأيتُ وجه الحارس مغموراً بالظلال المتحرّكة خلف لهب السراج المتراقص في ظلام سرداب الدرج. تعمّد الحارس أن يظهر على هذه الصورة الطريفة إمعاناً في المداعبة. وما إن تأكّد من أنني أسمعه حتّى قال:
– لا تقلْ إنني لم أحذّركَ!
اعتذر منّي بشدّة وهو يغلق باب البرج وينظر إلى السماء التي بدأت تمطر رذاذاً حفيفاً، وقال:
– في الحقيقة تأخّرتُ عليكَ بسبب فقدي للمفتاح في أثناء الشجار، وكان عليّ أن أنتظر حتّى الصباح كي أحضر نسخة من ديوان القاضي.
قلتُ باسماً كي أبدّد عنه الشعور بالذنب:
– لا عليكَ، مرّت الليلة بسلام، ولم تظهر لي الأرواح في البرج.
قهقه عالياً، وزال الحرج عن وجهه، وهو يكشف عن رأسه المعصوب بعصابة قطنية يظهر فيها أثر الدم.
– أراذل الجِنْوِيِّيْن فاجؤونا بالضرب.
قلتُ بشيء من المداعبة:
– حمداً لله على سلامتكَ، رأيتُ الشجار كاملاً من فوق، ورأيتُكَ وأنتَ تكرُّ عليهم كأسد هصور، وهم يتراكضون أمامكَ كالقطط المذعورة.
احمرّت وجنتا الحارس غبطة، وقال:
– بحمد الله تمكّنّا من ردّهم على أعقابهم خاسئين. كلّ يوم يفتعلون مشكلة.
سألتُهُ:
– ما هو هدفهم؟
– منذ مدّة قبضنا على فرنجي متنكّر يحوم حول البرج، وحين قبضنا عليه وسقناه إلى قاضي غَلَطَه، اعترف بأن هدفه كان الصعود إلى البرج.
– لماذا يريد أن يصعد إلى البرج؟
ابتسم الحارس الأندلسي ابتسامة العارف ببواطن الأمور وقال بثقة:
– يريدون أخذ البرج، وتحويله إلى دَيْر للرهبان، فهم يعتقدون بأن السيّد المسيح عيسى بن مريم، عليه السلام، سيهبط منه عند الملحمة الكبرى!
أضحكني موضوع الملحمة الكبرى، فقلت:
– هل تعرف عدد الأبراج التي سيهبط منها المسيح يوم الملحمة؟
فغر الحارس فمه مستغرباً، فقلتُ وأنا أغادر:
– أحصيتُ أكثر من عشرين برجاً.
تركتُ الحارس في ذهوله، وأخذتُ الطريق الهابط إلى بيتي، وحين عبرتُ من أمام بيت الشريف الأندلسي ازداد المطر قوّة، فرأيتُها إشارة لزيارة الشيخ.
فور دخولي بادرني الشيخ مشيراً إلى سماط عليه أصناف من الطعام:
– أهلاً بعيسى بن محمّد، حضرتَ في الوقت المناسب، فقد كنتُ أتهيّأ لتناول الفطور. ما وراءكَ؟
قلتُ وأنا أتهيّأ لتناول قطعة خبز غمستُها بطبق العسل:
– في الحقيقة جئتُ البارحة لكي أستشيركَ بأمر سفري إلى الجزائر، كي أبحث عن القرصان البوني، فعنده الخبر اليقين عن خيرونيمو.
قال الشيخ:
– الخيرة في ما اختاره الله.
– أودّ أن أسألكَ عن رجل أندلسي أخبرني أنه طبيب واسمه محمّد بن ابن أبي العاص، هل تعرفه؟
اعتدل الشيخ في جلسته، ونظر إلى عينَيّ، وقال:
– نعم، جاءني قبل وصولكَ بأيّام، وسهّلتُ له أمر الحصول على بيت من بيوت الحيِّ المتروكة، إنه يسكن قريباً منكَ، في البيت الذي بابه عند شجرة الكستناء الضخمة على منعطف الزقاق الذي يأخذ إلى بيتكَ، من جهة الطريق الهابط باتّجاه الجامع.
فاجأني حديث الشيخ، فأنا لم أره سوى البارحة، ووجدتُني أسأله:
– هل كنتَ تعرفه في غَرْنَاطَة؟
هزّ الشيخ رأسه نافياً، قبل أن يقول:
– هذا الرجل حيّرني حقيقة، لا يكاد يختلط بأحد، ويمضي وقته في البحث عن خزائن المخطوطات العربية. تخيّل أنني لم أره ولو مرّة واحدة في صلاة الفجر! قبل أيّام سألتُهُ عن سبب ذلك، فقال إنه حضر صلاة الفجر مرّة واحدة ووجدها تُصلّى على مذهب أبي حنيفة النعمان، وتختلف كثيراً عن صلاة المالكية، فقرّر أن يقضيها في بيته.
– هل هذا كلّ شيء؟
نظر الشيخ مليَّاً ثمّ قال:
– سمعتُ أن شيخ الإسلام أعطاه أحد طوابق البرج، لكي يجمع فيه مخطوطات الأندلسيِّيْن المنهوبة.. هذا ما سمعتُهُ.
لم أشأ أن أُخبر الشيخ عن ليلتي في البرج، ورؤيتي له، إذ كنتُ أظنّ في تلك اللحظات أن ثمّة سرَّاً خطيراً وراء الرجل، عليَّ أن أكشفه، ولذلك قرّرتُ تغيير الموضوع:
– هل تعرف سليم أفندي الأندلسي؟
بدا الاستغراب على وجه الشيخ:
– لم أسمع بمثل هذا الاسم من قبل؟ سليم وأندلسي؟
– ما الغريب في ذلك؟
– لا يسمّي الأندلسيون سليماً، ولكنْ، ما شأنه؟
– لا شيء، ذُكر البارحة اسمه أمامي، وقيل لي إنه ترجمان عند الصدر الأعظم!
لم يعلّق الشريف الأندلسي بشيء، ولكنْ، بدا الاهتمام على وجهه، فكيف لا يعلم شيئاً عن سليم أفندي هذا، وهو شيخ طائفة الأندلسيِّيْن في إِسْطَنْبُل؟! عند هذا الحدّ انتهى الكلام عن الرجلَيْن الغريبَيْن، ابن أبي العاص وسليم أفندي، وفي تلك اللحظات، ولمّا فرغت الأطباق من الطعام، اعتدل الشيخ في جلسته، وقال لي:
– سأخبركَ بأمر مستجدّ.
– كلّي آذان صاغية.
تحامل على نفسه، ونهض بقامته الضئيلة، ليخرج من الباب ويغيب حصّة، جال نظري خلالها في تلك الخطوط الزرقاء على مفارش الجلسة، لكم تشبه تلك التي مازالت صورها في ذاكرة طفولتي.. يا للأندلسيِّين كم يتشابهون في ما يُؤثِرون! وبينما هو يدلف الحجرة؛ ناولني صفحة من ورق الكَاغِد، وقال هو يعاود الجلوس على ركبتَيْه:
– هذا الكتاب وصلني قبل أيّام من صديقنا أحمد بن البَرْطَال الغَرنَاطِيّ، أريدكَ أن تترجمه لي كونكَ أكثر معرفة منّي بالقَشْتَالِيَّة، وأرجو أن تُحضِر الترجمة صباح الغد، لكي نرى ما سنفعل.
حملتُ الكتاب، وغادرتُ بيت الشيخ وقد أكّدتُ له أنني سأبذل قصارى جهدي لأن أعود به مترجماً صباح الغد.
ما إن جزتُ بضع خطوات بعيداً عن البيت؛ حتّى عاد المطر ليهطل، وبغزارة أكبر. فكّرتُ في العودة، لأنني كنتُ أرتدي نعالاً يكشف كعابي، ولكن الباب كان قد أُغلق سريعاً، فاستأنفتُ سيري أسرع على الطريق المنحدرة نحو بيتي.
كنتُ حذراً قدر ما أستطيع، من أن تنزلق قدمي إلى إحدى بِرَك الماء المخادعة التي تخفي تحت سطحها العَكِر حفراً عميقة، أو حجارة ملساء يمكن أن تطوّح بي على منزلق قاس، فيبتلّ الكتاب الذي دسستُ في جبتي ويحول حبره. حذري وهواجسي يتناوبان طريقي.
ازداد هطول المطر، وبدأ يتجمّع في سيل كبير، ترفده سيول أصغر من مختلف الأزقّة، ليمضي متدحرجاً إلى بَوّابة حيِّ الأندلسي الكبيرة المفتوحة على مياه الخليج العكرة.
نجحتُ في تلافي دفقة ماء كبيرة اندفعتْ نحوي فجأة. المطر نعمة في كلّ مكان، إلّا في إِسْطَنْبُل فهو نقمة. انتبهتُ لهذه السخرية الشيطانية، فاستغفرتُ ربّي؛ وسارعتُ إلى ارتقاء حجر مكعّب صادفني تحت شرفة بيت، هرباً من سيل وصل ارتفاع مياهه إلى ركبتَيّ.
بدا المطر المتساقط من حوافّ تلك الشرفة أشبه بستارة من سلاسل فضّة، تداعبها نسمات لطيفة. تذكّرتُ أنني قرأتُ في سِفرٍ باللاطينية عن ملك فارسي كان يزيّن قصره بستائر حيكت بخيوط الفضّة. هل رأى ذلك الملك منظراً كهذا حتّى خطرت له فكرة الستائر الفضّية أم أنه مجرّد ترف جامح؟
يسخر الفرنجة عادة من ترف الفُرْس والعرب، ولكنهم حين يتحدّثون عن التُّرك لا يذكرون هذا الأمر مطلقاً.. يسخرون من أشياء كثيرة، ولكنْ، ليس من بينها موضوع التَّرَف. خلال الشهور الخمسة الماضية عرفتُ السبب الكامن وراء ذلك، فالتُّرك بعيدون كلّ البعد عن التَّرف والكُفر بالنعمة، ولذلك أنا واثق تمام الثقة من أن دولتهم ستعيش طويلاً.
أشدّ ما كان يغيظني في دولة بني الأحمر، حكّام غَرْنَاطَة، حياة التَّرف الباذخة التي عاشوها، على الرغم من العدوّ المتربّص، المحدِق بهم من الجهات كلّها.
ملتُ ببصري نحو الباب، ففاجأتْني عبارة لا غالبَ إلّا الله؛ مكتوبة على الأُسْكُفَّة بخطٍّ غَرْنَاطِيّ مُتقَن داخل زخرفة تشبه زخارف مشيّدات بني الأحمر. تبسّمتُ من هذه المصادفة الغريبة، وعادت إلى رأسي تساؤلات قديمة عن سبب اختيار بني الأحمر لهذه العبارة شعاراً لهم؟ هل كانوا يهجسون بمصيرهم الغامض، بينما هم يشيّدون قصورهم وقلاعهم محمولين على وَهْم القوّة والسيطرة والرفاه؟
ها قد توقّف المطر، وطُويت ستائر الفضّة كأنها لم تكن، وانقشع المدى أمامي، فظهرت بكلّ وضوح مئذنة جامع العرب المربّعة، القريبة من طُرُز المآذن الأندلسية، ولكنْ، مضافاً إليها قَلَنْسُوَة مخروطية تميِّز مآذن بني عثمان. أخبرني الشريف الأندلسي الذي كان شاهداً على الحَدَث، أن معماراً أتى من طوبقابي سراي، بعد انتهاء تجديد المسجد، وجَّه عمّاله بوضع هذا المخروط الرصاصي فوق المئذنة المربّعة، من دون أن يستأذن الأندلسيِّيْن القائمين على أمر البناء. لكنه قال للشيخ الشريف الأندلسي:
– لا أحد يستطيع أن يقول إنها إضافة جميلة، ولكنها ضرورية.
المآذن المخروطية؛ عنوان من عناوين غلبة العثمانيِّيْن على الأراضي التي أخضعوها، تماماً كما هو حال المذهب الحنفي في الفقه، والمذهب الماتريدي في العقيدة. التُّرك لا يساومون على رموز غلبتهم، وعين هذا هو سبب الرهبة التي زرعوها في قلوب ملوك فَرَانْصَة وإشبانية، ونبلاء شبه جزيرة إيطالية جميعاً، حتّى أطلقوا على سلطان إِسْطَنْبُل لقب السيّد الكبير. السيّد الكبير، باللاطينية والإيطاليانية، يعني الشخص المرهوب الجانب، المرهوب من دون أن يضطرّ لقول أو فعل شيء، رهبتُهُ تأتي من ذاته، من نظراته، من صمته!
مع انحسار موجات السيل، بدت حجارة الطريق نظيفة لمَّاعة، فنزلتُ عن الحجر المكعّب، وتابعتُ سيري، عائداً إلى لعبة التداعي التي هيمنت على تفكيري في الآونة الأخيرة، ولم تبارحه منذ مغادرتي بيت الشيخ.
في بدايات وصولي إلى إِسْطَنْبُل لم أكن أفهم الأتراك جيّداً، كنتُ أستغرب إصرارهم على منح قبور المسلمين القديمة أسماء صحابة ثبتت وفاتهم في الشام أو الحجاز. لن يغرب عن بالي كيف امتقع وجه الشريف الأندلسي حين سألتُهُ مشكّكاً بصحّة تلك القبور، وكيف منعني من الحديث بالأمر أمام أحد سواه! يومها روى لي قصّته مع الضريح المزعوم لمَسْلَمَة بن عبد الملك في جامع العرب، فقد كانت لدى الشيخ قناعة تقول: إن ضريح الرجل المسلم القابع في الجهة الجنوبية الغربية من “جامع العرب”، يعود، في حقيقة الأمر، لـأبي أيّوب الأنصاري ذاته، وليس لـمَسْلَمَة بن عبد الملك كما يتوهّمون هنا. وقد أخبرني الشريف الأندلسي أنه حاول أن يُوصِل رأيه لصديقه شيخ الإسلام خوجة سعد الدِّيْن محمّد جلبي أفندي، إلّا أن الأخير زجره بشدّة، وقال له غاضباً:
– كيف تجرؤ على التشكيك برؤيا مولانا العارف أق شمس الدِّيْن، التي رأى فيها موضع النور قرب ناحية القسمديون؟
كان شيخ الإسلام يشير إلى حادثة “لقاء الأرواح” التي لم يكن الشريف الأندلسي سمع بها قبلاً، وهي قصّة متداوَلة بين التُّرك تقول؛ إن معلّم السلطان محمّد الفاتح، الشيخ أق شمس الدِّيْن الدمشقي البكري، رأى، في ما يرى النائم، نوراً في المكان، فقال لعلّ قبر أبي أيّوب هنا، وتوجّه لذلك الموضع، فالتقت روحاهما، وهنّأه بالفتح، وقال له: شكر الله سعيكم؛ لقد خلّصتُمُوني من ظلمة الكَفَرَة. عندها أخبر الشيخ أق شمس الدِّيْن مريده السلطان محمّد الفاتح بالرؤيا، فأمر السلطان ببناء قبّة في ذلك المكان، ولذلك؛ لزم الشريف الأندلسي الصمت بعد ذلك اللقاء العاصف، ولم يعد يذكر الأمر إلّا أمام الأندلسيِّيْن المقرّبين، وباللغة القَشْتَالِيَّة، خشية من إغضاب شيخ الإسلام الذي حذّره بشدّة من إعادة التجديف بمثل هذا الكفر!
بتُّ أفهم الآن ما يبدو للآخرين تصلُّباً عند التُّرك في قضايا ليست من أصل الدِّيْن. إنكارها، أو إقرارها لا يمسّ جوهر العقيدة، ولا يُخرج من الملِّة، فهذا التصلّب هو سبب دوام ملكهم. وقد لخّصه القطب الصوفي أق شمس الدِّيْن بمقولة عرفانية قرأتُها كثيراً في زوايا إِسْطَنْبُل ورُبَطها: مفتاحُ الجنَّةِ معلَّق بلا.
وصلتُ أخيراً إلى الزقاق المؤدّي إلى بيتي، وكنتُ قد تفقّدتُ الكتاب مراراً خلال سيري، حامداً الله أن المطر لم يتسلّل إليه. وبينما كنتُ أنعطف يميناً، لفت نظري جُرَذ كبير يسحب شيئاً لمّاعاً من بركة الماء العكرة، يريد أن يدخل به جُحْره. قرفصتُ لأتحقّق من هذا الشيء الذي أثار شهية الجُرَذ. فإذا به مفتاح مصبوب من النحاس، نجح الجُرَذ بإدخال سنّه وساقه، وبقي قوسه الكبير عَصِيَّاً على فتحة الجُحْر. ثمّة كلمة محفورة لم أتبيّنها جيّداً. أمسكتُ قوس المفتاح بسبّابتي وإبهامي وجذبتُهُ. فاجأتني قوّة السحب من داخل الجُحْر! جذبتُ بقوّة أكبر، ونجحتُ بإخراج المفتاح، ولكنْ، مع الجُرَذ الضاغط بأسنانه على سنّ المفتاح.
نفضتُ المفتاح بقوّة مرّات عدّة، والجُرَذ متشبّث فيه. ضربتُهُ بحائط البيت ضربات متوالية أنهكت الجُرَذ، وأجبرته على التخلّي عن المفتاح، ولكنْ، وبعد سقوطه من الضربة الأخيرة على الحائط، انقضّ على قدمي اليمنى، وخدش كعبي بأسنانه الحادّة، فصرختُ متألّماً.
مضى الجُرَذ لائذاً بجُحْره، ورحتُ أتفقّد جرحي النازف.. ثمّة في الجوار مَنْ سمع صرختي، وإذ بصوت أعرفه جيّداً يقول لي من نافذة الطابق الأوّل:
– سأفتح لكَ الباب، اصعدْ إليّ بسرعة.
نظرتُ إلى الأعلى، وإذ به الطبيب ابن أبي العاص مكشوف الرأس، يشير لي بإصرار أن أصعد إليه.
انتبهتُ إلى أن المفتاح ما زال في يدي. دسستُهُ في حزامي، وتوجَهتُ نحو باب البيت الذي انفتح عن الطبيب وهو يدعوني للدخول.
في حجرة كبيرة غير مرتّبة، تعجّ بزجاجات الأشربة والأعشاب الطبّية، والمخطوطات المكدّسة في مكتبة مهملة، جلستُ على كرسيٍّ خشبيٍّ قرب موقد النار الذي أسرع الطبيب بوضع حديد الكَيِّ عليه.
قال، وهو منهمك بخلط أشربة داكنة اللون في كوب نحاسيٍّ صغير:
– من حسن حظّكَ أنكَ قرب بيتي. سأكوي جرحكَ الآن، وأعطيكَ هذا الدواء، ولن ترى المرض، بإذن الله.
شربتُ الشراب المُرَّ، ووضعتُ يدي على الطاولة، بعد أن حشا الطبيب فمي بقطعة قماش، طلب منّي أن أعض عليها بقوّة.
مضى الأمر بيُسر.. لم أصرخ كما توقّع الطبيب، فتنفّس براحة وهو يمضي إلى منضدة أدواته ليجلب مرهماً وضِمَادَاً من القطن المقصور. وضع المرهم على موضع الكَيِّ، ولفَّه بالضِّمَاد، وهو يقول:
– الطاعون تبدَّى من الشمال، وسيصل إلى إِسْطَنْبُل هذا الصيف.
قلتُ باستخفاف:
– أنا في غاية الامتنان لكَ، أيّها الطبيب، ولكنه مجرّد خدش!
تبسّم الطبيب ونهض نحو منضدة عليها شمعدان وسِفر مخطوط ودواة وحبر. أمسك السفر بيده وقال:
– هذه رسالة في تحقيق الوباء، ما زلتُ أكتبها بناء على طلب القاضي إسعاد أفندي. الجُرْذان هي الناقل الأسرع لوباء الطاعون. لا تَستهنِ بالأمر.
قلتُ بثقة:
– الأعمار بيد الله، يا سيّدي.
هزّ رأسه هزّات خفيفة وقال وهو ينظر إلى عينَيّ:
– ما الذي كنتَ تحمله بيدكَ حين خدشكَ الجُرَذ؟ أَهو مفتاح؟
– نعم؛ مفتاح بيتي سقط منّي، وحين انحنيتُ لأنتشله عضّني الجُرَذ.
لم يزح نظره عنّي قيد أنملة، بل صار يتفرّس في وجهي بتصميم أَدْخَلَ الرعب إلى قلبي.
بعد فاصل صمت قال:
– لم تُخبرني باسمكَ؟
قلتُ وأنا أحاول أن أبدو متماسكاً:
– عيسى بن محمّد؟
– واسمكَ القَشْتَالِيّ؟
– خيسوس ..
شهق شهقة جعلتْني أنهض عازماً على الفِرَار إن بدر منه شيء، وحين رأيتُ أنه لم يأت بحركة قلتُ:
– خيسوس غونثالث.
فجأة استبدل بنظراته المخيفة ابتسامة عريضة وهو يقول:
– خيسوس غونثالث؟
نظر إليّ مليَّاً، ثمّ قال:
– مِن طُلَيْطِلَة؟
– نعم، من طُلَيْطِلَة.. هل تأذن لي بالانصراف؟
لم يتحرّك من مكانه، واكتفى بإشارة من يده إلى الباب، وهو يشدّد عليّ الطلب بأن أُراجعه يوم غد، لكي يكشف على موضع الكَيِّ.