سؤدد كعدان

مخرجة سينمائية وكاتبة سيناريو سورية حائزة على جوائز دولية، ولدت في فرنسا وتقيم في لندن. درست المسرح في المعهد العالي للفنون المسرحية في سوريا وصناعة الأفلام في جامعة القديس يوسف (iesav) في لبنان. بدأت حياتها المهنية في صناعة الأفلام الوثائقية في سوريا قبل الحرب، واكتسبت شهرة دولية بفيلمها الروائي الطويل الأول، “يوم فقدت ظلي”، الذي عُرض لأول مرة في مهرجان البندقية السينمائي عام 2018 وفاز بجائزة “أسد المستقبل” لأفضل فيلم أول. حقق الفيلم تاريخًا لكونه أول فيلم روائي سوري يفوز في البندقية، وعُرض في العديد من المهرجانات بما في ذلك مهرجان تورنتو السينمائي الدولي، ومعهد الفيلم البريطاني في لندن، وبوسان، ومهرجان البندقية السينمائي الدولي. بعد ذلك، فاز فيلمها الروائي القصير aziza بجائزة لجنة التحكيم الكبرى في مهرجان صاندانس السينمائي في عام 2019، وفاز فيلمها الروائي الطويل الثاني nezouh بدعم من bfi/film4/starlight بجائزة الجمهور armani beauty في مهرجان البندقية السينمائي في عام 2022، مما يجعلها المخرجة العربية الوحيدة التي فازت مرتين في البندقية. وغالبًا ما تتشابك في أفلامها عناصر الواقعية السحرية مع الواقعية الصارخة، مما يخلق سرديات قوية شخصية وواقعية للغاية، ولكنها أيضًا ذات صدى عالمي.
ثالث أعمالها الروائية فيلم “نزوح” الذي أنجزته عام 2022 وشهد عرضه الأول في “مهرجان فينيسيا” في دورة العام نفسه حضورا لافتاً وفاز بـ“جائزة الجمهور”، بعد فوزه قبل ذلك بـ“جائزة باومي” لتطوير السيناريو في “مهرجان برلين”. الفيلم عرض في صالات غير عاصمة بأوروبا وسيعرض في مركز الباربيكان في العاصمة البريطانية أواسط الشهر المقبل.
إلى جانب أعمالها الروائية للمخرجة منجز كبير في صناعة الأفلام الوثائقية التي عرضت في مهرجانات عربية وعالمية عديدة، وحصلت على جوائز دولية مثل (مارتين فيليبي)، والجائزة الكبرى للاتحاد الدولي للإذاعة والتلفزيون، وجائزة مهرجان تلفزيون (مونت كارلو)، وجائزة المهر الذهبي للأفلام الوثائقية في مهرجان دبي السينمائي الدولي.
“الجديد” التقت في لندن بالمخرجة السورية سؤدد كعدان لتجيب عن عدد من الأسئلة المتعلقة بتجربتها السينمائية وتبدي آراءها حول جملة من القضايا الفنية والفكرية المحيطة بتجربتها كصانعة سينما.
قلم التحرير
الجديد: عملك في السينما يبتعد تماما عن كل أيديولوجيا، تحقيق شيء كهذا أمر شديد الصعوبة لاسيما عندما نصنع فيلما ينحاز نهائيا إلى جانب الإنسان في تطلعاته الأساسية، بما في ذلك حقه في الاختيار، والحلم بالحرية، والوجود السعيد. أشير إلى هذا لأن السينما العربية الموصوفة بـ”الطليعية” و”البديلة” السورية والعربية مع بعض أبرز المخرجين مشرقاً ومغربا نحت منحى أيديولوجيا غالباً، أو هي انطلقت من منطلقات تتصل بالقضايا من منظور ثقافوي، بخلاف ذلك نجد في أفلامك نزوعا يتجنب هذا المطب. كيف بنيت تصوراتك وخياراتك السينمائية حتى الآن؟
سؤدد كعدان: أعتبر أفلامي بأنها أفلام لها بعد أيديولوجي، ولها موقف سياسي واضح، ونقد اجتماعي واضح، والهموم السياسية، والاجتماعية والنسوية تكون السبب الأساسي لاختياري الحكاية، والشخصيات، والدافع الأساسي لما أرغب أن أحكي هذه الحكاية الآن. المختلف في أفلامي عن باقي الأفلام أن الشخصيات ليست ناطقة بحوارات وخطابات مباشرة، وليست مكنات لسرد تطلعاتي والأفكار التي أعتنقها. ما أن اختار الموضوع، ومكان الحدث والسبب لاختياره، حتى أخلق المعنى ليس من الحوار المباشر اللفظي، بل من المعنى الذي يخلقه الفيلم السينمائي من تعقد تركيب السرد، من حكاية، صورة، وصوت، كل ذلك يخلق المعنى الكلي للفيلم. هذا نابع من الإيمان بأننا كسينمائيين قادرون بأن نخلق المعنى باللغة السينمائية، دون أن نثقل السيناريو بالخطابات، وخاصة خطابات المرحلة الماضية. لا أريد أن أعيد وأكرر اللغة نفسها. تشابك عناصر السرد السينمائي، يخلق المعنى، لذلك لا يمكن أن تأخذ ما تقوله الشخصية في الفيلم، لتقول هذا منحى الفيلم، لأن الشخصيات قد تناقض نفسها، أو قد أشكك بما تقوله، عبر الصوت، والصورة. المختلف أيضاً في أفلامي رغم البعد السياسي الاجتماعي، بأنها أفلام غير إقصائية، بمعنى أنها لا تقصي الآخر الذي يختلف سياسياً عني أو عن الشخصيات، ولذلك تبدو أفلامي وكأنها تتخذ منحى إنسانياً فقط، لأنها أفلام لا تفرض على الجمهور خطاباً واحداً، أو أحادياً، ولا تعطي أجوبة مسلماً بها، وهذا ما يجعلها أكثر انتشاراً وأكثر خطورة. أفلامي تطرح أسئلة، تدعو المشاهد عبر عنصر الفرجة والمتعة إلى التشكيك بقناعاته، والمسلمات والبدهيات التي يؤمن بها، من دون أن تحاول التعالي ثقافياً على المتفرج.
علاقة تبادلية
الجديد: الحكايات البسيطة يمكن أن تصنع أفلاماً عظيمة، ويمكن في الوقت نفسه أن تصنع أفلاما ليست ذات قيمة. أين يكمن المعيار الجمالي الذي يقود قصة بسيطة إلى مستوى جمالي رفيع ومؤثر ويحمل إضافة إلى فن السينما؟
سؤدد كعدان: إنها الصنعة السينمائية التي ترفع الحكاية التي تبدو بسيطة إلى مستوى جمالي رفيع ومؤثر. اعتماد الحكاية البسيطة نابع من الإيمان بأن السينما هي فن جماهيري. نحتاج إلى الجمهور مثلما يحتاج إلينا، إنها علاقة تبادلية وثيقة. ولذلك فن السينما خطير، لأن هدفه أن يجمع على الأقل 200 شخص في صالة واحدة. والحكايات البسيطة تصل إلى كل الجمهور مهما اختلفت مستوياته الثقافية، ولكن الفارق بين السينما الفنية التي نريد والسينما التجارية، أن الأولى لا ترغب في أن تلبي المشاعر الغريزية للمتفرج، ولكنها سينما تعتمد على متعة سينمائية، بصرية، وهي بالنسبة إليّ ذات منحى شعري. إنها السينما ذات الصنعة السينمائية، واللغة الفنية، والصور الشعرية واللوحات البصرية، هو ذا ما يرتقي بالحكاية البسيطة، لتجعل الفيلم وثيقة تتجاوز الزمن، وتعبر في الوقت نفسه عن زمن بعينه ومرحلة محددة.
الفيلم مركب من مستويات متعددة، هناك المستوى الأول حيث الحدوتة التي نحاول من خلالها أن نصل إلى أوسع جمهور ممكن، ومن ثم هناك مستويات أخرى للسرد، سينمائية، اجتماعية، تاريخية تختلف مستويات تلقيها وقراءتها حسب مستوى ثقافة المشاهد وإمكاناته.
على قدم المساواة وبلغة سينمائية، وبحكاية تتظاهر بخفة ماكرة بأنها بسيطة أدعو المتفرج إلى التشكيك والتساؤل عما يجري، وربما مراجعة أفكاره وتصوراته.
عالم خاص
الجديد: كيف تبلورت خياراتك الجمالية والتعبيرية في السينما، بحيث أمكنك تظهير ميولك الفكرية والفنية من خلال فيلم سينمائي في ظل وجود تيارات ومدارس عديدة في السينما؟
سؤدد كعدان: الفنان، بطبيعة الحال، هو حصيلة التجارب المختلفة التي عاشها، وكل ما يمر به ويختبره، فضلا عن ثقافته السينمائية. لكن في العمل السينمائي، كمخرجين عندما ننجز فيلماً إنما نبني العالم الخاص للحكاية انطلاقا من وجهة نظر المخرج/المؤلف، من دون تأطيرها بصرامة. نبني عالم الفيلم من كل ذلك التراكم المتنوع والشخصي، وهكذا يكون لدينا فيلم يعبّر عن وجهة نظر خاصة، وخيارات جمالية خاصة بشخص له الدور الحاسم في صناعة الفيلم، بعيداً عن أي تأطير في مدرسة معينة، أو محاكاة لها. طبعاً نحن لا ننجز من العدم، هنالك تاريخ سينمائي سوري، عربي، وعالمي تشربناه، ساهمت كنوزه وعلاماته في صناعة ذائقتنا، ولكننا عندما نشرع في بناء فيلم إنما نحاول أن نشق دربنا الخاص الفني والفكري والجمالي.
الفيلم الوثائقي
الجديد: بداياتك كانت مع السينما الوثائقية، ما هي فلسفتك الشخصية بالنسبة إلى الفيلم الوثائقي، وهل مازالت لديك مشاريع في هذا الميدان؟
سؤدد كعدان: هنالك متعة في اشتغال الفيلم الوثائقي. هناك علاقة شخصية حميمية بين الشخصية والموضوع، والمخرج/المخرجة، كما لو أنها لحظة بوح شفاف. هنالك متعة كبرى، تتمثل في أنك تستطيع أن تباشر بالتصوير من دون أن تنتظر الميزانية الضخمة التي يتطلبها الفيلم الروائي، وثمة خفة في الإنجاز، في الوصول إلى التصوير، مع عنصر الارتجال، العفوية، المباشرة، عبر لغة سينمائية مدروسة. أحد المشاريع التي أشتغل عليها الآن هي فيلم وثائقي يلعب بالنوع السينمائي، بعناصر روائية، مشروع ممتع. هذه مجرد إشارة، من دون الخوض في تفاصيل عمل قبل الفراغ منه.
جائزتان
الجديد: ما الذي عنته لك فكرة أن تنالي جائزة في السينما، إلى جانب أثرها في الترويج للفيلم؟
سؤدد كعدان: كانت مفاجأة جميلة أن يفوز فيلمي “يوم أضعت ظلي” في 2018 بجائزة “أسد المستقبل”، كأفضل فيلم أول، وهي أرفع جائزة في تاريخ السينما السورية إلى الآن لفيلم روائي. أن تفوز أفلامي في مهرجان فنيسيا، الأقدم والأعرق في العالم، هو تعويض لمسيرة تعب طويلة سينمائية، غير مجزية ماليا، وتضع الأفلام تحت الضوء وتجعلها أكثر مشاهدة، مع فيلمي “نزوح”، الذي فاز بجائزة الجمهور في مهرجان فنيسيا 2022 أكون المخرجة العربية الوحيدة إلى الآن التي فازت مرتين في هذا المهرجان. وهو شيء أعتز به.
المغامرة الحرة
الجديد: المحنة الكبرى بالنسبة إلى السينمائيين المستقلين، كما هو الحال بالنسبة إليك تتعلق بالإنتاج والتمويل، كيف تمولين أفلامك؟
سؤدد كعدان: إنها مع كل فيلم لي أشبه برحلة سيزيف. فكل فيلم وكل حكاية، تتطلب تمويلا مختلفا، ولذلك لم أحصل على التمويل من جهة إنتاج واحدة مرتين. فأنا لا أصنع أفلاماً على قياس جهات الانتاج والتمويل. ما يشغلني باستمرار، وأنا أخطط لمشروعي التالي هو أن أطور الفيلم بالكامل وحدي، وأكتب السيناريو بعيداً عن دوائر الإنتاج، لأكون حرة فنياً بشكل كامل، ومن ثم أبحث عن جهة التمويل، بالإفصاح عن موضوع فيلمي القادم، لمن يرغب في أن يكون جزءا من هذه المغامرة معي. وعندما أجد هؤلاء الشركاء وقد أعجبهم ما لدي أكون سعيدة جداً، وفي حال انسحاب البعض، وقد حدث شيء من هذا القبيل، بسبب تمسكي بصيغتي في إنجاز الفيلم، ولا يضيرني أن أعود فأطرق أبواب التمويل في المنطقة العربية، أو في الغرب، أعرف أن طريقتي تجعل تمويل أفلامي أصعب، لكنها تضمن لي حرية التفكير والإبداع في السينما على النحو الذي أؤمن به وأحلم بإنجازه.
سينما مهاجرة
الجديد: بالنسبة إلى سينمائية في وضعك، مقيمة خارج بلادها، ما هي التحديات الأبرز في صناعة الفيلم وكيف تتغلبين على محنة الإقامة “خارج المكان” في إنجاز أعمالك؟
سؤدد كعدان: التحدي الأكبر هو إنجاز أفلامنا بلغتنا وبوجهة نظرنا في ظل فقداننا للجمهور المحلي الذي يذهب إلى السينما لمشاهدة أفلامنا. الجمهور في أوروبا حيث أقيم مختلف، والأفلام باللغة الإنجليزية توزيعها أسهل. فالسؤال الأصعب هنا، هو كيف ننجز أفلامنا ونصل إلى جمهورهم، وإلى صالاتهم، وكيف نحصل، بداية، على التمويل من هنا، لأجل سينما هي بالضرورة لها حكايتها المختلفة وممثلوها المختلفون؟ ما يزال الاهتمام بالسينما العربية في الغرب يعتمد على عنصر الكارثة، والأخبار، بمعنى إن كانت بلادنا في نشرات الأخبار بلا توقف سوف يهتمون بحكاياتنا، من باب الفضول بما يجري، وإن لم نكن نتصدر نشرات الأخبار، سوف لن تجد مشروعاتنا أي اهتمام بها، سيعتقدون أن ما من سبب يجعلنا نروي حكاياتنا. عندما أنجزت فيلمي الروائي “نزوح”، الكثيرون أخذوا يقولون بأن الشأن السوري لم يعد أولوية، ولذلك كانوا يترددون في التمويل، وللسبب نفسه الكثير من أفلام السينما السورية في السنوات الأخيرة عانت إما من صعوبة المشاركة في المهرجانات، أو من العثور على تمويل، أو في عرضها. إننا كسينمائيين نمر بمرحلة صعبة في تبرير وشرح أهمية ما لدينا، لاسيما بعد ما لفظت الأخبار الغربية أحداث ما يجري في سوريا. في فيلمي “نزوح”، رغم أن الحكاية سورية عن عائلة بسيطة ترفض الرحيل، أمضيت فترة في إقناع الممولين، بأن الحكاية تخصهم رغم أنها باللغة العربية، لأن على الجمهور الغربي أن يعي إلى أي مدى كان صعباً قرار الرحيل بالنسبة إلى من وجدوا أنفسهم على أبواب اللجوء، وأن هجران عائلة لبيتها وفضائها وعالمها الأليف ليست خياراً. ولعل هذا الجمهور عندها يتعاطف مع اللاجئين والمغتربين الموجودين في دياره. وعلى الرغم من تكرار الجميع بأن الشأن السوري ليس أولوية الآن، كنت سعيدة بأن إصراري على روي حكايتي، وبلغتي وخارج منطق الكوارث وما يرغبون به عادة، تم توزيعه في صالات السينما في بلدان مثل بريطانيا، فرنسا، بلجيكا، سويسرا، وإيطاليا. في فترة تصاعد اليمين المتطرف، استطعنا أن نجذب إلى أفلامنا السينمائية جمهوراً غربياً، إلى جانب الجمهور العربي.
البطولة للمرأة
الجديد: كونك امرأة تصنع أفلاما ما المختلف في تطلعاتك السينمائية من جهة، ومن جهة أخرى في طبيعة نظرتك إلى موضوعاتك وطريقتك في اختيار الشخصيات وتجسيد قضاياها واهتماماتها وأحلامها؟
سؤدد كعدان: أسعى في النصوص التي أكتبها لأفلامي أن تكون الشخصية الأساسية امرأة، وأن أقدم نظرة مركبة من المرأة، مختلفة عن نظرة الرجل المخرج من المرأة، ودورها السينمائي. أسعى إلى تقديم أدوار ذات أكثر من بعد للمرأة، وتقديم طموحاتها والكشف عن توقها وقدرتها اللامحدودة في أن تكون على قدم المساواة مع الرجل في صناعة الحياة، من دون تسطيح في الموضوعات وبعيداً عن تلك الثنائيات البسيطة والساذجة التي تصور المرأة ضحية الرجل كل رجل. أعتقد أن تحرر الرجل جزء أساسي من تحرر المرأة.
الجديد: هل تشتغلين حالياً على فيلم جديد أم أنت في حالة استراحة؟
سؤدد كعدان: الواقع أنني أعمل على أكثر من مشروع معاً دائماً، لأرى أي مشروع ينجز أولاً، حسب ظروف التمويل. لا توجد استراحة للمخرجين، عادة ما تكون استراحة محارب، استراحة لشحذ الأدوات وتطوير الخبرات على كل صعيد قبل البدء بالتصوير.
الجديد: ما الذي تتطلعين إلى تحقيقه في السينما أولا كمخرجة صاحبة موقف في ظل ظروف استثنائية تمر بها بلادك؟
سؤدد كعدان: أطمح إلى أفلام تجدد في اللغة السينمائية، ذات صنعة جمالية عالية، متوجهة إلى جمهور عربي وعالمي معاً، انطلاقاً من رؤية خاصة ذالت بعد نقدي من الموقف من الحاضر والتاريخ.
الجديد: هناك أجيال سورية تعيش اليوم في مناف ومهاجر أوروبية بات لديها قدر وأحوال مختلفة كليا عما هي عليه الأحوال والمصائر بالنسبة إلى أجيال سورية أخرى تعيش في بلدان اللجوء في الجوار السوري… هل تشكل هذه المفارقة الوجودية مصدرا لتفكيرك السينمائي كمخرجة؟
سؤدد كعدان: أكيد، الإنسان النابه، ينفتح على ثقافة البلد المضيف الذي وجد الأمان فيه، دون أن يدعو ذلك على إلغاء ثقافته الخاصة. وجودنا على حافة عدة ثقافات تجعلنا أشخاصاً أغنى على الصعيد الفكري، والإنساني. أنا سورية، عشت في فرنسا، لبنان، وبريطانيا، وسأحمل الخبرات التي اكتسبتها في هذه البلدان إلى أفلامي، العشق والهوى والحنين سوري، والبلدان التي عشت فيها، أكسبتني وعيا أعمق بذاتي وبالعالم، وعيناً نقدية متحفزة باستمرار لطرح الأسئلة ومراجعة المسائل والتأمل النقدي بالظواهر وعدم الاطمئنان إلى المسلمات، والتمسك بالمبادئ بقوة.
الواقعية السحرية
الجديد: تتحدثين عن شيء اسمه “الواقعية السحرية” في عملك السينمائي هل لك أن تضيئي لنا هذه الخصلة أو النزوع في أفلامك؟
سؤدد كعدان: الواقعية السحرية كما تعرف ظهرت في الآداب التي كتبت في البلدان التي عاشت تحت الأنظمة الدكتاتورية للتعبير عما لا يمكن التعبير عنه صراحة وبواقعية. نجدها أولا في أدب أميركا اللاتينية الذي شغفت به مبكراً. في حالتي بدأت “الواقعية السحرية” مع فيلمي الأول “يوم أضعت ظلي”، نتيجة التروما. الواقع كان أشد قسوة ووحشية من الكلمات والصور، لم أتوقع يوماً أن حينا سيكون ساحة للدماء المسفوكة وحدثا عاجلا في نشرات الأخبار، هذه الصدمة القوية، والألم الذي تسببت به لنا أفقدتنا القدرة على التعبير بالكلمات، “الواقعية السحرية” ساعدتني مثلا على التعبير في فيلمي الاول من خلال تجسيد فكرة صورة الناس التي تفقد ظلالها في الحرب، ما كنت أشعره عبرت عنه في فقدنا لظلالنا في الحرب، قد نبدو الأشخاص أنفسهم، ولكننا لن نكون يوماً ما كناه قبل الحرب. في فيلمي “نزوح”، تسللت الواقعية السحرية عبر وجهة نظر الشابة المراهقة زينة، التي بدأت ترى البحر في السماء، هي صدمة قساوة الواقع، والمدينة المدمرة، تريد عبر مخيلتها أن تهرب إلى مكان آخر، هنا شيء من الواقعية السحرية، وتجسيد لليوتوبيا: البحر، كفضاء يفصل بين المكان المحترق والمدمر والبلاد التي يحلم بها أكثر اللاجئين، الذين يغادرون كأسراب طيور تهاجر معاً رغم مخاطر الطريق، إلى مستقبل آمن، حتى لا أقول وردياً.
دمشق ملهمتي
الجديد: بوصفك ابنة دمشقية نشأت في بيئة شامية هل يمكننا أن نتعرف على هذه المرجعية في أفلامك؟
سؤدد كعدان: الشام دائما حاضرة في أفلامي، بشكل أو بآخر. عمارة المدينة، خصوصيات مجتمعها، غناها الفكري والاجتماعي، مشاكلها وهمومها كمدينة مرت عليها الاجتياحات واستطاعت على الرغم من ذلك أن تستمر. هي في محل تفكري، ومصدر إلهام لي في كل أفلامي، حتى لو لم تكن القصة تجري في دمشق.
الجديد: كيف تختارين عادة الممثلين الذين سيجسدون الأدوار والشخصيات في أفلامك؟
سؤدد كعدان: أعتمد مبدأ الكاستينغ وقراءة المشهد وكيف يقدم الممثل الشخصية، سواء كان نجماً أو ممثلاً للمرة الأولى، الجميع على قدم المساواة، أي لا أمنح دوراً بصورة أكيدة ونهائية قبل أن أختبر الممثل كيف سيؤدي الشخصية. أحاول دائماً أن أمزج بين ممثلين نجوم، وممثلين لم يقفوا أمام الكاميرا من قبل، وأتطلب من الجميع، صدقاً في الأداء، وعملاً حثيثاً ومبدعاً في تحضير الدور، بمعنى أن يكونوا حاضرين في البروفات، حتى لو كان ذلك صعباً بالنسبة إلى النجوم، بسبب انشغالهم. هذا هو الشرط الأول في العلاقة مع الممثل/الممثلة. لأن البروفات مرحلة أساسية وحاسمة في نقل الشخصية من الورق إلى الممثلين، ليمتلكوها بالكامل، وتصبح جزءا منهم، اعتماداً بطبيعة الحال على قراءتي للشخصية وتصوري النهائي لها.
الممثل والارتجال
الجديد: كيف تبنين المسافة بين المرسوم سلفا في سيناريو الفيلم وبين ممكنات الارتجال في مغامرة إنجاز الفيلم، وهل أنت من المخرجات اللواتي يتوقعن من الممثل مبادرات ما تقوم على مفاجآت الارتجال؟
سؤدد كعدان: أحب الارتجال، وأحب الممثلين الذي يرتجلون. متعة الارتجال، قد تكون قادمة من عملي المسرحي، أو الوثائقي، فهي جزء أساسي من عملي مع الممثل. لكنه ارتجال مدروس، يعتمد على كيف إدراج هذا الارتجال، ضمن إطار، ومتى يمكن أن نفتح هذا الإطار لإدخال عنصر المفاجأة من قبل الممثل.
من السهل أن يقوم الممثل بتقديم النص كما هو، ومن السهل القبول بالارتجال، بالنسبة إليّ إدارة الممثل، تعتمد على يقظة دائمة، لكل تفصيل يقدمه الممثل، لاختيار ما يمكن أن يغني الفيلم، والشخصية، وما الذي يتوجب عليّ حذفه والتراجع عنه. من الممثلين الذين استمتعت معهم بالارتجال أذكر على سبيل المثال لا الحصر: سامر المصري، عبدالمنعم عمايري، وأويس مخللاتي، وكاريس بشار. هؤلاء ممثلون من الطراز الأول على صعيد الارتجال، والمرونة في السعي إلى ما يتطلبه المخرج\المخرجة في الفيلم.
الجديد: ما هي أبرز المصاعب التي واجهتك في أثناء إنجاز أفلامك في العالم العربي؟
سؤدد كعدان: المصاعب نفسها، التمويل، وعرض الأفلام. التمويل العربي مهم لصناع السينما العرب، لأنه يدعم صناعة أفلام عربية بلغة عربية ورؤية نابعة من خصوصية عربية. هناك مشكلة حقيقية تتعلق بعرض الأفلام. فنحن ما أن ننجز الأفلام حتى نكتشف أن خيارات عرضها في صالات السينما، أو في التلفاز قليلة، في ظل الرقابات على أنواعها، والأجندات المختلفة.
سحر السينما
الجديد: إلى من تتوجهين في أفلامك؟
سؤدد كعدان: أتوجه أولا إلى جمهور سوري، فيعنيني بصورة خاصة أن يشاهد السوريون أفلامي، أينما كانوا وأينما كان ذلك ممكنا، في داخل البلاد، وخارجها. ولذلك عندما وجدت أفلامي على مواقع القرصنة سعدت بذلك رغم أن ذلك يحمل عبئاً على الموزعين. قرصنة الأفلام برهان على أن الجمهور الذي لا يستطيع أن يصل إلى الفيلم في صالة سينما، لأنه محظور، أو لأنه لا يملك ثمن التذكرة، يحاول بأي طريقة أن يصل إلى الأفلام، وهو ما حدث مع أفلامي. أتوجه أولاً إلى جمهور سوري، وهو ما يجعلني أصرف وقتاً طويلاً في العناية بكل تفصيل، وكل جملة، وكل جزء من المكان ليبدو وكأن الفيلم صوّر في سوريا، رغم أن أفلامي أغلبها صوّر خارج البلاد، وكأنني لم أحرم من فرصة التصوير في بلادي. كثر أولئك الذين شاهدوا أفلامي وظنوا أنها صورت في سوريا، بالنسبة إلى فيلم مستقل بميزانية صغيرة، يعتبر هذا إنجازاً حقيقياً.
من ثم بعد جمهوري السوري أتوجه إلى الجمهور العالمي، أؤمن أن الحكاية المحلية، كلما كانت محلية، وصادقة ومتقنة البناء، كلما انفتحت على جمهور أوسع. تناقض كبير، ولكنه سحر السينما.
سينما جديدة
الجديد: السينما السورية بدأت خلال العقد الأخير خصوصاً في تجديد دمها بصانعي أفلام لهم تطلعات مختلفة عن الأجيال التي سبقت، هل يمكن الحديث عن ملامح من نوع خاص تميز التجارب السورية الجديدة في السينما؟
سؤدد كعدان: الشيء المختلف، أن السينما السورية الجديدة تحررت من سيطرة مؤسسة السينما على صناعة الأفلام. الجيل القديم، مع السينما الجميلة الرائعة التي قدمها، كان واقعاً معظم الأوقات تحت رحمة المؤسسة منتظراً موافقتها ليصنع أفلامه. أما جيلنا فلا شيء يوقفه اليوم، في مغامراتنا الشخصية لصناعة أفلامنا، نذهب فنطرق كل باب، ونصنع الأفلام التي نريد، بصعوبة، ومعاناة نعم، لكن لا شيء أجمل من إنجاز فيلمك الخاص وحضور عرضه الخاص الأول مع الجمهور بعيدا عن هيمنة واشتراطات مؤسسة رسمية كمؤسسة السينما في سوريا. من الصعب الآن تحديد كيف ستغير الأفلام السينمائية الجديدة من ملامح السينما السورية، لأن السينما أولاً وأخيرا تقوم على الاستمرار والتجديد معاً، نحن ورثة تلك السينما الرائعة التي أنجزها المخرجون السينمائيون السوريون الأوائل، اجتهادنا في تطوير وجه هذه السينما من وسائل جديدة بما يتوافق مع همومنا وطموحاتنا. من الصعب أيضاً تحديد الملامح الجديدة من الآن، فعلى الرغم من كفاح المخرجين للحصول على تمويل لأفلامهم، ما زال عدد الأفلام السينمائية الدرامية في العشرية الأخيرة لا يتجاوز عدد الأصابع.
صانعات السينما
الجديد: هل يمكن الحديث اليوم عن دور مميز للمرأة يشكل ظاهرة في صناعة السينما في سوريا ويمكن الاستدلال عليها من ميول مميزة يمكن تحديدها؟
سؤدد كعدان: في الحقيقة بدأت النساء خلال السنوات العشر الأخيرة تجدن فرصاً أكبر في حقل الإخراج السينمائي، لاسيما مع وجود فرص التمويل الخارجي. على اعتبار أن مؤسسة السينما، والأماكن الثقافية السورية، وحتى المعهد العالي للفنون المسرحية، مؤسسات ثقافية وأكاديمية لم تكن تشجع النساء على خوض مغامرة الإخراج، ما لم يكن والد المرأة، أو بعض أهلها من الوسط الفني. لم نكن نجد الكثير من المخرجات من قبل. وكان هذا شيئاً طبيعياً إلى درجة حتى أساتذتنا من النساء في المعهد العالي للفنون المسرحية، اللواتي ندين لهن بالكثير، حتى هن لم يدعمن النساء ليخضن في حقل الإخراج، وكن يقسمن وبشكل عفوي بين الطالبات والطلاب في الدفعة: الطلاب الذكور للإخراج، ونحن النساء فقط للدراسات المكتوبة، أو مساعدات، لم تكن هنالك أيّ فرصة لنا. مع موجة المخرجين الذين حاولوا الحصول على تمويل من الخارج، بدأنا نرى عدداً متزايداً من النساء. المواهب كانت موجودة دائماً، الدعم والتمويل هو ما كان مفقوداً في بلادنا.
أحياناً كنا نشعر أن الساحة الثقافية السورية كانت تعكس نفس الهرمية الذكورية، التي يعاني منها المجتمع في الميادين المختلفة. وهذا لا يعني أن وضع النساء في الحقل نفسه في العالم الغربي كان أحسن كثيراً. في دارسة أخيرة عن المخرجات في العالم الغربي، أكدت الأرقام أن هنالك فقط 30 في المئة من النساء في الصنعة السينمائية، وراء الكاميرا وأمامها، وأن النسبة تصبح أقل إلى النصف مع المخرجات اللواتي استطعن إنجاز فيلمهن الثاني. أما أفلام الميزانيات الضخمة فهي للرجال، مع استثناءات نادرة للنساء.
إن وجود عدد أكبر من النساء في السينما، يمكن أن يخلق، بالضرورة، سينما أكثر غنى على الصعيد السردي، الجمالي، والإنساني.
هذا هو حلمي
الجديد: ما هو حلمك الأكبر كمخرجة سينما؟
سؤدد كعدان: لدي أحلام كثيرة، الفيلم القادم هو دائماً الحلم القادم، إنجاز أي فيلم سينمائي مهمة صعبة كما أسلفنا، وأحياناً شبه مستحيلة. أحلم بأن أروي حكاياتنا على مستوى أعلى سينمائياً، بميزانيات أعلى، ومن وجهة نظر خاصة، لتصل إلى جمهور عالمي أكبر يتيح لنا كسوريين وعرب أن نكون مؤثرين في السينما العالمية، لا أن نكون مجرد زوار. أحلم أن أعرض أفلامي في وطني سوريا، وبأن أكون حاضرة في صالة العرض أقدم الفيلم بنفسي، وأحلم بأن أصور مجدداً يوما ما في مدينتي دمشق، وبأن يكون لنا سينما عربية، لها تمويل، ولها صالات عرض، وقدرة على التوزيع بصورة واسعة، وأن يكون في وسع جمهورنا الخاص الذهاب إلى صالات السينما، وتمويل أفلامنا من شباك التذاكر. إن صناعة السينما هي دليل حقيقي على عافية البلاد. أحلم بألا يكون هذا الحلم بعيداً.