وجوه الأحادية اللُّغويّة عند جاك دريدا
![](/sites/default/files/styles/article_image_800x450_scale/public/2025-02/Untitled-1_0.jpg?itok=Wlky6gv9)
انشغل عدد من الدارسين بعبارة جاك دريدا (1930 – 2004): «أنا لا أملك إلّا لُغة واحدة ومع ذلك فهي ليست لُغتي» الواردة في كتابه “أحادية الآخر اللُّغويّة”. هؤلاء ذهبوا إلى تفسيرها في سياق أقاليمه اللُّغويّة بحمولاتها الحاضرة ودلالاتها الغائبة. نحن هُنا لن نحاولَ أن نضعَ دريدا على محك البحث الهرمينوطيقي كما فعل مُترجم الكتاب عمر مهيبل الذي اكتفى ببعض الدلالات المُتقاربة، إنما سنقوم بتحليل مرموزاته المُستعملة وتأويلاته الفكريّة المتعددة في إرثه الفلسفيّ، التي تميزه عن غيره من المفكرين، الذين يركزون على غرائبية الجمل والتفكيك المنهجيّ.
إن التحليل هو عملية دراسة موضوع ما بتفصيلٍ دقيق؛ ممّا يؤدي إلى تقسيم عناصره وأجزائه الأساسيّة بطريقة واعية توحي بفهمٍ شاملٍ، يتضمن ذلك اتباع نهج نقديّ مثل التفكيك الذي يفحص الطبيعة المُعقّدة للنصوص والافتراضات الثقافيّة المضمرة في هوامشها؛ بهدف بيان المعاني الخفيّة والمضامين الغامضة.
اهتم جاك دريدا باللُّغات بشكلٍ عامّ واللُّغة الفرنسيّة بشكلٍ خاصّ وهو اهتمام في غاية الأهمية والحساسيّة، أثمر عنه تمحيص ونقد أقرب إلى الحوار المونولوجيّ منه إلى الخطاب اللااستشعاريّ، بعيدًا عن منهج دريدا التاريخيّ – التراكميّ – الذي عادةً ما يتبعهُ.
لعلّه أراد من مقولتهِ المُوجزة أن يخبرنا بأننا لا يمكننا إتقان إلّا لُغة واحدة وأن العديد من اللُّغات الأخرى ليست سوى مُحاولاتٍ لإقناع الذات بقدرتنا الاحترافيّة على التواصل مع العالم المُفرط في التظاهر اللُّغويّ، وهذا لا يعني أننا لا يمكننا أن نتكلمَ إلّا بلُغة واحدة فقط.
استعرض في كتابه علاقته المُلتبسة باللُّغة الفرنسيّة ومواقفه من الجزائر بغية الوصول إلى ما هو ثابت وواضح أي غير مُشتت ولا مُفكك مع سعيه الدؤوب لتفسير الهُوية، الأنا، المواطنة وخوفه من الترحال اللُّغوي والجغرافيّ.. هذه مصطلحات أساسيّة ومفتاحيّة، يمكن أن تؤسس مباحث قائمة بذاتها وفقًا لرأي – أستاذ الفلسفة – مهيبل.
يعدّ دريدا اللُّغة بيتًا آمنًا تسكنه ويسكنها دائمًا، لا يستطيع أحدٌ أن ينتزعه منها أو ينازعه في لُغته الأحاديّة على الإطلاق، يقول « لقد كنتُ دائمًا أرغب في أن أكون أنا، فهذهِ الأحادية اللُّغويّة بالنسبةِ إليّ هي أنا ذاتي». شعرَ بوجود الأنا ومعنى الذات من خلال هذهِ اللُّغة التي يتقنها ولولاها لما كانت أناه كما هي. وهذا أمرٌ طبيعيّ، إذ تشكّل اللُّغة هُوية المرء وتمنحهُ جواز مرور للسفر إلى أعماق المُراد في كُلّ شيء بلا شكّ.
نعتقدُ أن اللُّغة الأحاديّة تعطيه وقتًا طويلًا وخاصًّا للتعلم واكتشاف العالم، حيث توفر له الوحدة الرشيدة وبدورها ستمنحه الاستقرار والاختلاء المُنتج كالرهبان. يبدو أن اللُّغة الأُم هي مصدر السعادة والشقاء معًا، تجرح الإنسان تارة وتشفيه تارة أُخرى؛ اعتبرها دريدا مكمنًا لآلامه، عذاباته، رغباته وصلواته وحتّى آماله ولا يتصوّر أن هُناك لُغة ثانية يمكن أن تتحمل هذه المهاوي والمتع جميعًا التي تحملتها وعالجتها اللُّغة الأحاديّة الأولى. يؤكد أن الإنسان لن يتكلم عن مُعاناته باللُّغة الأوليّة نفسها، سيكون ثمّة اختلاف جليّ في الشرح والتركيب بين اللُّغتين، وهذه المعضلة اللُّغوية ليست سهلة الحلّ. يمتلك دريدا لُغة واحدة لكنها ليست لُغته وهُنا تتولد التناقضات، المُفارقات والتساؤلات، كيف تكون لُغته في الحقيقة ليست لُغته، في حين أنه لا يملك لُغة أجنبيّة ثانيّة إطلاقًا؟! هذه الفكرة تستدعي حضوره داخل المجاز والتناقض، وتبيّن أن جملته زجت به داخل تناقض منطقيّ معطوفًا على تناقض تداولي فعلًا.
نكاد نجزم أن قضيته اللُّغويّة تستنزف الآخر بالتفكير العشوائي والحشو ومع ذلك نسعى إلى بلوغ جوهرها والتوصل إلى بواطنها المعنويّة على الرغم من أن جملته تغدو مُتناقضة ظاهريًّا. وإلّا ما معنى أن يتكلم الفرد بلُغة ليست بالضرورة لُغته؟
تبرهن عبارته على أنها ازدواجيّة اللُّغة، عندما تخلق مستويين في اللُّغة المُستعملة، تجعل الناطق بها مرتبكًا ومُضطرًا للتحدث بمستوى مُعيّن ليس مستواه كأن يكون لُغة شائعة بنبرة مُحدّدة ضمن اللُّغة العامّة المُقسمة أو لهجة عامية دارجة غير مرغوب بها، ولا يدرك هذا إلّا مَن كان يقظًا وفاعلًا كجاك دريدا، الذي يظنّ أنه لا يوجد سوى التعددية اللُّغوية.
ربطَ الأحادية اللُّغويّة بالقضايا السياسيّة وكتبَ أن لُغة قوم هي ليست بالضرورة لسانهم، ولسان قوم ليس هو لهجتهم، فاللُّغات المُتبعة في المُستعمرات يصير لها انتشار ووزن أكثر من غيرها. اعتنى المحللون بهذه الظاهرة ودرسوها بنظرٍ نقديّ مُتيقظ، مُشيرين إلى ملحوظات مُكثفة، تفسر التنقلات المنطقيّة في الآراء والتخطيطات التأوليّة.
حلل بعضهم رؤيته على أنه نظر إلى الأحادية اللُّغويّة كأداة سياسيّة كولونياليّة تتخذها الأنظمة والدول لفرض سيطرتها وتحديد الهُويّة الوطنية. من هذا المنظور تصبح اللُّغة وسيلةً للسيطرة والإقصاء، وعليه تُهمش اللُّغات والثقافات الأخرى لصالح لُغة وثقافة واحدة مُهيمنة. يُظهر السياق السياسيّ للأحادية اللُّغويّة كيف يمكن للُغة أن تكون وسيطًا لتحقيق نوع من الاستيلاء السلطويّ التامّ.
تعدد اللُّغات يمثل تنوعًا للأفكار والثقافات، وهو ما لا يريده الاستعمار لئلّا يفقد تسلطه ونفوذه في مُدّة قصيرة. لم يكن دريدا ينتمي إلى الجماعات ذات اللُّغات المُتشابهة فكُلّ فرد لهُ طريقته الخاصّة في التحدث حتّى لو كانت لُغته الأصليّة هي ذاتها التي يتحدث بها الآخرون؛ لذلك فإنه يتحدّث بلُغة فرنسيّة أصيلة وبطريقة تميزه عنهم نوعيًا وفكريًا.
يتوهم أحدنا أن لُغته تشبه لُغة الأصدقاء والعائلة لكنها في الواقع لا تشبه أيًّا منها تمامًا. تستند مثل هذه اللُّغة الفريدة من نوعها إلى الثقافة المُتنوعة والمعرفة الانتقائية المُستمرّة؛ فهي تصنع طرائق وأساليب لُغويّة لا تتكرر، وهذه المُمارسات تعكس اللُّغة الشخصيّة وحدها، تلك اللُّغة الرائقة بمستوى اللُّغة التي يمكن تمثلها والإقامة فيها، وقد تكون أساسًا لُغةَ الآخر؛ ممّا يدفع بنا الطموح اللُّغويّ إلى الاغتراب السحيق.
إن الكتابة خطوة من خطوات تملّك اللُّغة المُمتنعة فهي بمثابة طريقة ودودة ويائسة، تعطيها شكلًا مُميزًا وأرشيفًا لا يُمحى في النهاية ببساطة على حدِّ تعبيره. تَوَلّعَ باللُّغة الفرنسيّة الخالصة، فرنسيته التي يتماهى معها بصوتٍ عالٍ، ويخشى الشعور بالضياع عندما يكون خارجها، أمّا اللُّغات الأُخرى التي يستطيع قراءتها بصعوبةٍ بالغة أو يفكّ رموزها فهي لُغات لن يتمكن من العيش فيها لفترة طويلة.
اعترفَ بأنه يكتب ما لا يمكن ترجمته أو استبداله وآمن في الوقت نفسه بأن لا شيء لا يمكن ترجمته، فقط علينا إعطاءه الوقت اللازم للفهم والاستهلاك بغض النظر عن اقتصاد الألسن الشِّعريّ، رأى أن نصّه يظلّ في حدادٍ إلى أن يُترجمَ من غير تشويه مع أن أفضل مَن يترجم النصّ هو كاتب النصّ نفسه قطعًا. كان واثقًا بأن هناك جوانب في النصوص غير قابلة للترجمة بالكامل، ما يفضي الأمر إلى صعوبة إيفاء النصوص حقها عند ترجمتها.
تكلّمَ جميع اللُّغات لكن بالفرنسيّة، بمعنى قرأ كُلّ اللُّغات عبر الترجمة إلى الفرنسيّة، التي جمعت اللُّغات والقُرّاء مع بعض. بقيت الفرنسيّة موطنه الأم وأفنى حياته في التكلم بها فهيمنت عليه كُليًا، وتعلق بها كالغريق الذي يتشبث بقشة.
كان يعرف بطبيعة الحال أنه سيموت باللُّغة الفرنسيّة أي باللُّغة الفرنسيّة سيفاجئه الموت، لأنه عاش بلُغة واحدة لا أكثر على النقيض من ذلك عاش بورخيس بأربع لُغات وتساءل عن اللُّغة التي سيموت بها، مُتذكرًا أنه سيموت بالعربيّة، باللُّغة الأقرب إلى قلبهِ، تعلم بورخيس العربيّة فتوفي، ولكُلّ كاتب قصته الشخصيّة مع اللُّغة أو اللُّغات إجمالًا.
احتاج دريدا اللُّغة الفرنسيّة بقدر ما احتاجت إليه، فتمسك بها بقدر ما تمسكت – هي – بهِ وهذه كانت قناعته الراسخة، عمل وواصل كتابة أعماله الفلسفيّة بناءً عليها. أضافت الكثير إلى كتاباته المُهمّة ولولا حُبّه العميق لها لما كتب بها وظل حبيسًا/سجينًا فيها.
هذا الشعور يقارب ما عبّرت عنه الكاتبة الأميركية الحائزة على جائزة نوبل للآداب توني موريسون (1931 – 2019) “أنا في بلدي ولستُ في بلدي، نحن غرباء في ديارنا”. تعكس عبارتها شعورًا مُشابهًا للاغتراب والأحادية التي عبّر عنها دريدا، توحي بالحنين إلى الوطن، حتى أُصيبت بهِ في وطنها.
اختبر دريدا الأحادية اللُّغويّة من خلال نشأته في الجزائر المستعمرة الفرنسيّة، حيث كان واعيًا للصراع بين اللُّغة الفرنسيّة واللُّغات أخرى، جعلته هذه التجربة الإنسانيّة الشخصيّة يستوعب التوترات والتناقضات المُرتبطة بفكرة الأحادية اللُّغويّة وفلسفتها المُبهمة، لذا استدعى تفكيكها من عدّة زوايا من أجل تحقيق فهم أشمل وأعمق لواقع اللُّغات والهُويات.
نستنتج أن الإنسان قد يجيد العديد من اللُّغات دون أن تكون لديه معرفة علميّة عميقة، فيظلّ مُجرّد متعدد اللُّغات، إذ أن إجادة عدّة لُغات لم تكن يومًا غاية علم اللُّغة ولا أحد أهدافه الرصينة، بل هي ميزة من ميزاته التطويريّة المطلوبة. في المقابل هُناك من لا يتقن سوى لُغته الأصلية (أُحادي اللُّغة) لكنه يُقدم دراسات لُغوية قيّمة وغنية مثل دريدا، الذي جلبت له لُغته الأحاديّة الخوف من اللُّغات المُجاورة، وكأنّها محاولةٌ لرؤية اللُّغة الأُم على أنها أكثر ذاتيّة وجماليّة.
يدعم عمل دريدا ادّعاء سارتر بأن اللُّغة عبارة عن شبكة هائلة تغلّف وجودنا دون أن ندركَ أننا نتخبط فيها، وهي إشارة ليست منزوعة الدلالة والمعنى، إن اللغة وحدها ما بقي لهم جوهريًا هذهِ المرّة، تحكمت في نمط تفكيرهم وتصورهم للعالم، وأدت إلى إثارة السجال مُجدّدًا بشأن علاقة اللُّغة بالفكر؛ كونها نتاجًا جماعيًا أبدعته الجماعة التي تستخدم هذا النمط من الاتصال الرمزيّ أو الإشاري.
بالنسبة إلى دريدا، اللُّغة ليست فقط وسيلة للتعبير، لكنها أيضًا قيد. كُلّما تحدثنا بلُغة معينة، نخضع للقواعد، والبنى، والأطر الثقافيّة لتلك اللُّغة. هذا ما يشير إليه بأننا “ممنوعون من اختيار لُغتنا الخاصة” حيث أننا مرغمون على استعمال لُغة غيرنا (اللُّغة الأم التي لم نخترها بأنفسنا) أحيانًا، وبالتالي يشكك في فكرة أن الإنسان يمكن أن يكون “أحادي اللُّغة” على نحو نقي أو صافٍ. حتى لو تكلم شخص ما لُغة واحدة طوال حياته، فإن تلك اللُّغة ليست ملكًا لهُ بالكامل.
لا يُقدم التعددية اللُّغويّة كحل بسيط، على الرغم من أن نقده للأحادية اللُّغويّة من زاوية فلسفيّة بعيدة كُلّ البعد عن النقد التقليديّ، فهو يرى أن حتى التعددية اللُّغويّة تحمل في طياتها تناقضات وأعباء. ولكن بفهم تعقيدات العلاقة بين اللُّغة والهُويّة والسياسة، يمكن للناس أن يبدأوا في التحرر من بعض هذه القيود اللغويّة والثقافيّة التي تُفرض عليهم وتخلق لديهم شعورًا بالاغتراب عن لغتهم الأم.
طوّر دريدا أساليب لغويّة حساسة كانت تهدف إلى نقد وفحص الأنظمة الفكريّة واللغويّة التقليدية؛ لأنّ النصوص تتداخل مع بعضها بعضًا، وأن معانيها تتشكل عن طريق هذا التداخل التقنيّ. يعزز نظرته إلى أن الفهم الشامل لأيّ نصّ يقتضي فحصًا واسعًا للروابط بينه وبين النصوص الأخرى. غالبًا ما لا يتمّ فهم النصوص بمعزل عن بعضها، بل هي جزء من شبكة عملاقة من المعاني والتأثيرات المتبادلة.
وفي الخلاصة طرح رؤية فريدة للأحادية، تتجاوز التفسيرات السطحية لمفهوم التحدث بلُغة واحدة. يعُدّ الأحادية اللغويّة ليست مجرّد حالة لسانية، بل انعكاس لعلاقات القوة، والهوية، والانتماء الثقافيّ، وكُلّ هذه الجوانب مشبعة بنزاعاتٍ عميقة وسياسيّة استعماريّة؛ لذلك فهمها من منظورهِ يتطلب الالتفات إلى اللُّغة بوصفِها حقلًا مُعقّدًا وشائكًا يصنع حياتنا وهويتنا بطرائق مُغايرة وغير متوقعة دومًا، وليست كأداة للتواصل المعروف وحسب.
كان تأثير دريدا عظيمًا ومُهمًّا، أثّر في عدد كبير من الفلاسفة، والنقّاد والباحثين في مختلف المجالات والتخصصات الأكاديميّة. انتشرت أفكاره في أنحاء الولايات المتحدة وأوروبا وأثّرت في مدارس فكريّة كثيرة مثل: ما بعد الحداثة، والنقد النسوي، ودراسات ما بعد الاستعمار ولاسيما تأثيره في ما يتعلق باللغة وتحليل النصوص والآراء التأويليّة. إنه واحدٌ من أبرز الفلاسفة المُحدثين في القرن العشرين.