عقد اجتماعي سعيًا للمساواة أم عقد عرقيّ رغبة في الهيمنة؟

من الكتب الهامّة التي صدرت مؤخّرا في فرنسا، كتاب “العقد العرقيّ” للأميركي من أصول جامايكيّة تشارلز ويد ميلز (1921 – 2021)، أحد الفلاسفة البارزين الذين لهم تأثير كبير في الدّراسات ما بعد الكولونياليّة. وقد عُدّ حدثًا لافتًا منذ صدوره عام 1997، ذلك أنّه في جوهره ردّ مباشر على نظريّة العقد الاجتماعيّ، التي تتبدى في أشكال متنوعة منذ عصر الحداثة إلى اليوم، وتقدّم المجتمع كنتاج لتوافق بين أشخاص أحرار متساوين، يختارون بأنفسهم حكومة، ويمنحون أنفسهم، بالعدل والقسطاس، حقوقا وواجبات. ففي رأي ميلز أن “استعارة العقد الاجتماعيّ”، سواء لدى توماس هوبز أو جان جاك روسّو أو إيمانويل كانْط أو جون رولز، هي جهاز منحاز، ومنحرف في أسسه النظريّة، يختفي تحته عقد عرقيّ، قوامه استعباد الرّجل الأبيض للشّعوب المغلوبة والهيمنة على مصائرها واستغلال مقدّراتها.
إنّ نظريّة العقد الاجتماعيّ تخفي عن الذّاكرة الجمعيّة أحداث القرون الخمسة الأخيرة التي شكّلت تقسيم العالم على أساس عنصريّ كما نشهده اليوم، فهو يتستّر على عقد عرقيّ حقيقيّ، وتوافق ضمنيّ (وعلنيّ أيضًا مثل القانون الأسود في جزر الأنتيل وقانون الهنود في كندا…) بين البيض للسّيطرة على العالم واستغلال موارده واستنزاف شعوبه. وهذا العقد العرقيّ الذي هو بالأساس عقد استغلال، دافعه الرّبح وتكديس الأموال والهيمنة الاقتصاديّة، يستند إلى “عقود فرعيّة” تتكيّف مع الظّروف المحلّيّة وطرق الاستغلال الخاصّة بالأماكن والحالات التي يفرَض فيها. وفي أوج “العقد العرقيّ القانونيّ”، أي إبّان الفترة التي روّجت فيها الإمبراطوريّات الكولونياليّة ومؤسّساتها لذلك العقد، كان الاستغلال يتمّ وفق أنماط ثلاثة: عقود الهيمنة على السّكّان الأصليّين وانتزاع أراضيهم، عقود استعباد السّكّان الأصليّين والأسرى الأفارقة، والعقود الاستعماريّة. وقد تمّ ربط تلك العقود بجملة من النّظريّات القانونيّة والأخلاقيّة مثل عقيدة الاكتشاف (وهي سياسة سنّتها الكنيسة الكاثوليكيّة في القرن الخامس عشر، وأعلنت عن حقّ الأمم المسيحيّة في الاستيلاء على أراضي غير المسيحيّين) والقانون الأسود (الذي ينظّم الاستعباد في جزر الأنتيل ويجعل من العبد قطعة منقولة، يمكن للأبيض بيعه وشراؤه كما تباع وتُشترى قطع الأثاث والأمتعة) وقانون الهنود الحمر في كندا (الذي فرض عليهم التّخلّي عن ثقافتهم واعتناق نمط حياة أوروبّي كنديّ). وكانت تلك النّظريّات تبرّر إبادة غير البيض حينًا، وإخضاعهم واستعبادهم حينًا آخر.
يعتقد ميلز أن التّاريخ والمعطيات التي يفرضها تحتاج إلى إنعام النّظر فيها قبل المبادئ المجرّدة أو الحقائق التي أريد لها أن تكون خالدة. فالتّاريخ بهذا المعنى يتبدّى من خلال موازين قوى يتوزّع فيها النّفوذ والثّراء والتّأثير بشكل غير عادل. وقد سبق أن أثار عدد من المفكرين السّود المناهضين للاستعمار في الأميركيتين مسألة النّفوذ وآليّات الهيمنة، لعلّ أبرزهم البارون جان لويس فاستي (1781 – 1820) بمملكة هايتي في مطلع القرن التّاسع عشر، حيث اعتبر أنّ الكولونياليّة ما هي إلّا “تفوّق النّوع الأبيض”. ثمّ تواصل ذلك التّقليد الرّاديكالي في القرن العشرين مع مفكرين آخرين أمثال مالكوم إكس، وأسّاتا شاكور وفرانز فانون. ولعلّ أهمّ ما يُحسَب لميلز أنّه فتح باب الجدل الأكاديميّ لتلك التأمّلات الاستراتيجيّة والتّحاليل السّياسيّة التي غالبًا ما استهان بها محترفو الفلسفة.
وميلز يرى في ذلك العقد الاجتماعي سيطرة بيضاء شاملة تقوم مقام منظومة سياسيّة تراتبيّة ذات أوجه متعدّدة، لها تأثيرها المباشر على توزيع الثّروات وأنماط العيش وغيرها من مظاهر الحياة. ولئن كان “العقد الاجتماعي” حسب روسو توافقًا أوّليًّا يؤسّس لقيام مجتمع يضع فيه كلّ فرد ذاته وقوّته تحت الإدارة العليا للإرادة العامّة، ليكون كلّ فرد جزءًا لا يتجزّأ من الكلّ، أي أن يقرّ كلّ فرد بوجود المجتمع ويقبل بالعيش عيشة اجتماعيّة، فإنّ ميلز يرى فيه “عقدًا عرقيًّا” لكون المجتمع الذي يتوجّه إليه صاحب “إيميل” هو مجتمع أبيض، لا شأن للأعراق الأخرى به، والعبوديّة الوحيدة التي يتحدّث عنها هي تلك التي تُخضع الرّعايا الأوروبيّين لإرادة ملك أو أمير، وهو ما يفسّر سكوته وسكوت المفكّرين في عصره عن العبوديّة وتجارة الرّقيق واستعمار البلدان وإخضاع الشّعوب ونهب الثروات، والحال أنّ “القانون الأسود”، الذي وضعه كولبير عام 1685 في عهد لويس الرّابع عشر، كان قد مرّ عليه ثلاثة أرباع قرن حين ألّف روسّو عقده الاجتماعيّ. أي أنّ فلسفة التّحرّر لديه لم توضع لتحرير العبيد والمستعمَرين، بل وضعت لكي يستفيد منها البيض وحدهم.
ذلك “القانون الأسود” يقيم الدّليل على أنّ العقد الاجتماعيّ هو تصوّر نظريّ لا يخضع لأيّ فعل تشريعيّ قائم عبر التّاريخ، أمّا “العقد العرقيّ” فبيّن واضح ملموس ومتكرّر، إذ اجتمع الأوروبيّون على اختلاف تخصّصاتهم، علماء أو سياسيّين، رجالَ دين أو قانون، على إقامة فرق جوهريّ بينهم وبين الآخرين، أي بين البيض وغير البيض. وحقّ الأجانب الذي تعلّم المواطنون الأوروبيّون اعتباره من تحصيل الحاصل ليس سوى صورة معاصرة من العقد العرقيّ.
هذا العقد يتبدّى حسب ميلز على ثلاثة مستويات متكاملة ومتشابكة.
أولّ تلك المستويات سياسيّ ويخصّ اتّفاقًا حول أصول الدّولة التي تنطوي دومًا على أسّ كولونيالي، قد يأخذ شكل استيطان كما هي الحال في الولايات المتّحدة وأستراليا وزيلندا الجديدة، أو شكل هيمنة واستغلال من النّوع الاستعماريّ الإمبرياليّ الذي يتعلّل بمهمّة حضاريّة على غرار فرنسا وبريطانيا وبلجيكا…
والمستوى الثّاني أخلاقيّ ويخصّ اتّفاقًا حول المبادئ الأخلاقيّة الجوهريّة للمجتمع، ويستند إلى التّمييز بين البيض الذين يُعتبرون أشخاصًا وبين الآخرين الذين يردّون إلى وضعيّة لا يكونون فيها كذلك. وإذا كانت المبادئ الجميلة الواردة في إعلان الاستقلال الأميركيّ أو الدّساتير الحديثة تُجسّد في الظّاهر قيم عدالة كونيّة، فلأنّها تخفي أنّ هدفها في الحقيقة هو تمتيع “الأشخاص” المعترف بكونهم كذلك وحدهم.
![]()
|
![]()
|
![]()
|
أمّا المستوى الثّالث فهو إبستيمولوجيّ، أي له صلة بالمعرفة، ويخصّ اتّفاقًا ضمنيًّا لضمان سوء فهم المسائل العرقيّة في المجتمع. فالذين لا يُعتبرون أشخاصًا، يُقصَون من مكاسب العقد الاجتماعيّ ويعَدّون همجًا غير عقلانيّين ويوصَمون بالعجز والقُصور، وهو ما يجعل وضعهم موضع دونٍ أمرًا مشروعًا. وبذلك ينطوي العقد العرقيّ على جهالة بيضاء، تحوّل نظامًا ظالمًا إلى ضرورة، بدعوى ضعف قدرات الرّعايا غير البيض.
غير أنّ مليز، بالرغم من نقده الصّارم للتّقاليد السّياسيّة الغربيّة، يبحث عن حلّ وسط بين التّقليد الرّاديكاليّ الأسود والحداثة اللّيبراليّة الأوروبيّة، إذ يختم كتابه بالدّعوة إلى تجديد فكر الأنوار، وإعادة صياغة المشروع اللّيبراليّ السّياسيّ على قواعد أكثر مساواة.
الكتاب صاغه ميلز صياغة غير معقّدة حتّى يكون في متناول الجمهور العريض، وقدّم فيه قراءة نقديّة عميقة للتّقاليد الفلسفيّة والسّياسيّة منذ انبلاج عصر الحداثة إلى اليوم، إذ عمد إلى تفكيك الأساطير التي قامت عليها، مثل أسطورتي الميثاق الاجتماعيّ العادل والأنسنة الكونيّة، ليبيّن كيف أنّ التّفوق الأبيض هو المنظومة السّياسيّة التي أوجدت العالم الحديث في صورته الحاليّة، صورة هيمنة على كلّ ما يجري في الأرض منذ خمسة قرون باسم عقد اجتماعيّ لم يوجد إلّا لخدمة البيض.
يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي: “الغرب لا يحمل قيمه معه خارج حدوده”.