لا قمح ولا شعير
هل فعلاً يتوجب على الشاعر أن يقول شيئاً؟ هل هو مضطر لذلك؟ هل عليه القيام بأمورٍ معينة وبرتوكولات خاصة؟
لا أظن هذا، فالشعر عدوّ ما سبق، الشعر هو حرية قبل كل شيء؛ وإن لم يخرج من داخلك من تلقائه فلا قيمة لأن تمسك بيديه وتسحبه ليصلب أمام القرّاء عارياً باكياً فقط ليسجل الشاعر موقفاً إذا جاز التعبير أو ردة فعل على حدثٍ ما.
لكن النقطة المهمة هنا هي أن الشاعر ليكون شاعراً صرفاً يجب أن يكون إنساناً أكثر من غيره وصوت ضميره عالٍ ومزعج أحياناً يربك حياته الطبيعية، فإن لم يُبكِ روحه منظر ميت -بغض النظر عن انتمائه وخلفياته العقائدية السابقة وطريقة موته- فهو لا يستحق أن يكون شاعراً ولو أجاد الشعر أيّما إجادة وربما لا يجوز أن يكون إنساناً؛ لذا وحتى لا يختنق الشاعر بحسراته وبخيبات العالم التي تتراكم على صدره، تنمو داخله -وسط كل الجثث والخراب- أمنيةٌ خضراء طريّة، بريئة لحد السذاجة تشغله عمّا يحيط به، فلا يبقى في الوجود سواه بكل ما يحتشد داخله من أشخاص وسواها (أمنيته اليتيمة) تهمس له بأنّ ما يكتبه سيكون شعلة صغيرة تخلق ظلالاً ضخمة للحب للأمل والحياة، تجعل العالم أفضل؛ فهل عليه أن يدع الموت جانباً؟ أم من الأفضل أن يمرّ كل ما يكتبه من خلاله؟ هذا السؤال يؤرّق ليل الشاعر ونهاره إلى أن يسير بقصائده على حرف الموت بتؤدة لئلا تسقط في بحر اليأس وتنقلب إلى نواح وجلد للروح، ولا تحلّق بعيداً جداً في سماوات الحياة الزرقاء، (التي تستطيع دوماً أن تلمّع الحياة في عين الشاعر وتشحنه بكمّ هائل من التفاؤل ليكتب نصوصاً تنبع من صفاء زهرة لوز، من صوت تحطم ورقةٍ يابسة، من شروقٍ استثنائي لشمسٍ مكرّرة..) فالحياة مستمرة ورحاها تدور ولو لم يكن لنا نصيبٌ من قمحها.
بالقصيدة لن نجلب قمحاً ولا شعيراً، سيف خشبي ليس إلا يحارب به الشاعر طواحين الحرب والغياب يواجه العهر والخراب، أنا شخصياً لا أؤمن بقدراتٍ سحرية للشعر فهو لن ينقذ طفلاً من الجوع ولن يعمّر بيتاً أو يحيي جثة، إنما هو محاولة فقط لكي نرتاح، لكي نتحرر، لنصرخ نحن هنا! فهو الوسيلة الأصدق لتأريخ المرحلة بعيداً عن السياسة والسياسيين، لذا إن لم يستطع الشاعر أن يكون مرآة الإنسانية والحق أو إن لم يجرؤ على ذلك، فأضعف الإيمان ألا يهلل للظلم فاللعنة هنا ستكون مضاعفة مئات المرات لأنه شاعر.