الشاعر والتأريخ
لم يكن الشعر، في يوم من الأيّام، أداة تأريخ للأحداث وما تنطوي عليه من دراما وتراجيديا. بل كان تعبيراً عن تفاعل الشاعر مع هذه الأحداث، وموقفه منها، سلباً أو إيجاباً. ذلك أن الشعر، ومهما بلغت درجة الإلغاز والغموض واللعب على المجاز فيه، وكان باعثاً على الالتباس والحيرة لدى القارئ، إلاّ أنه لا يوجد فيه موقف رمادي أو مساحة رماديّة، يكون فيها الشاعر محايداً. وعليه، يمكن أن يكون الشعر وجهاً آخر للتاريخ. لكن لا يمكن أن يكون أحد أدواته. نتيجة اختلاف اللغة، وطريقة التفاعل والتعامل مع الحدث.
مقصد القول: حين كتب هوميروس «الإلياذة» لم يكن في وراد كتابة تاريخ الإغريق، وسرد تفاصيل حرب طروادة. بل كتبها تعبيراً عن موقفه من هذه الحرب. وكذلك حين كتب دانتي «الكوميديا الإلهيّة»، لم يكن في وراد تأريخ الرؤية الناقدة للرواية الدينيّة عن الآخرة، وانتقال الكائن بين الجحيم والمطهر والجنّة، باعتبار إيطاليا كانت مركز الكنيسة الكاثوليكيّة، بل أراد دانتي من خلال ملحمته تلك، التعبير عن نفسه، ودرجة أو مستوى تفاعله التخيّلي، الفكري، واللغوي مع السرديّة الدينيّة أو الميثولوجيّة للحياة الآخرة.
صحيحٌ أن الشاعر يروي نفسه، ليس بلغة المؤرّخ أو الروائي، بل بلغة الطير المحلّق فوق هذه المذبحة الكونيّة التي نعيشها، باعتباره الناجي الوحيد منها، والشاهد الأخير عليها. ولكن صحيح أيضاً أن الشاعر في حالته هذه، من المفترض أن يكون لسان حال الشجر والحجر أيضاً، حتى يكون صوته مميّزاً ورافضاً لتعويم القبح وتنصيبه سيّداً على العالم.
بتقديري، ربما نجد في قدرةِ وطاقةِ الشاعر في التعبير عن آلامه وأحزانه باعتبارها جزء أصيل من آلام وأحزان البشريّة، الكثيرَ من النبوءة، لكنه ليس بنبيّ. وربما نجد فيها الكثير من بروق وإشارات الإصلاح أو التفلسف، لكنه ليس بمصلح أو فيلسوف. وربما نجد في طاقته تلك، الكثير من الرموز والإشارات أو الإحالات التاريخيّة، لكنه ليس بمؤرّخ. الشاعر، هو صهوة المجاز والخيال، حين يعبّر عن آلام الحقيقة ومراراتها ومكابداتها، صائغاً من آلامه وآلام الآخر، قيمة جمالية، تقاوم انحدار أو انزلاق العالم إلى أسفل السافلين. طبعاً، أقصد الشاعر، وليس شبيهه.