شقة مؤقتة
صغر الشقة كان يهوّن عليها عملية التغيير. يكفي شخصان لتبديل مواضع قطع الأثاث دون مشقة، وإذا لم يتوفر شخص آخر، دفعت إيناس بجسدها تلك القطع التي يرتفع صوت جرها على البلاط. دولاب الهدوم فقط بسبب ضخامته ظل شاهدا على التغيير دون أن يتغير موضعه، وتجرّح كثيرا من احتكاك قطع الأثاث به أثناء نقلها، كأنها تعاقبه على ثباته في مكانه.غالبا كان التغيير يتم في الصباح، لكن إيناس أحيانا قررت أن تتم هذه العملية في الليل وقبل أن تنام. وعند فتحها الشباك في اليوم التالي كنت أجد الغرفة المطلة على الشارع صارت غرفة النوم، وأن جزءا كبيرا من السرير مكشوف لي. بالأمس كان التليفزيون ما أستطيع كشفه ويجاوره كمودينو، وقبل أسبوع كان جزء من المائدة وبضعة كراس. كنت أرى أن أثاث شقتها مستمر في لعبة كراسي موسيقية دون توقف. ولم أستطع توقع القطعة التي سيأتي عليها الدور، وأستطيع رؤيتها وأنا واقف في بلكونة شقتنا بالدور الثالث.
كانت الشقق المواجهة لي لا يتغير فيها شيء. قطع الأثاث الواضحة لي في أماكنها منذ سنوات. كبرت ولم تزل في مطارحها. ربما تمّ استبدال قطع جديدة بها لكنها توضع في مطرح القديمة دون أن تتغير مواضع الغرف. أشياء مستقرة في أماكنها كاستقرار تلك الأسر منذ سنوات، واعتيادها على أن كل شيء يجب أن يكون في مكانه. أما إيناس فمنذ أن سكنت تلك الشقة وهي تردد أنها “مؤقتة”. اضطرت إليها بعد تنكيس البيت الذي كانت تسكن فيه. وستغادرها فور إتمام إجراءات نقل عمل زوجها إلى القاهرة. كان زوجها مهندسا ميكانيكيا في أحد موانئ البحر الأحمر. ويأتي عشرة أيام كل شهر. وكانت إجازة زوجها أطول فترة يستقر فيها الأثاث في مكانه، ويندر فيها ظهورها في بلكونات الجارات. في فترة وجيزة وطدت صداقتها مع جاراتها في الشارع. وحمتها تلك الصداقة – خاصة مع الساكنات في نفس البيت – من استياء وتضايق الجيران من الضجيج الذي تحدثه بجر الأثاث. وجدت الجارات مبررات لما تفعله، إما لأن زوجها مسافر أو لعدم حبها للشقة أو لأن بقية أثاثها موزع في شقق أخرى. كانت شقتها القديمة خمس غرف تتنقل فيها براحتها دون الشعور بأنها في مصيدة. وتنتظر بفارغ الصبر شقتها الجديدة ليتجمع كل أثاثها مرة أخرى في مكان واحد. صداقتها مع جاراتها في الشارع وحمتها تلك الصداقة من استياء وتذمر الجيران من الضجيج الذي تحدثه بجر الأثاث. حديثها عن الشقتين: القديمة والمنتظرة كانت تغلب عليه نبرة الشوق والسعادة، كأن الشقتين شقة واحدة سيتغير مكانها دون أن تفقد أيّ شيء أثناء التغيير. وكانت تفضل حينما تزور إحدى الجارات أن تقضي معها الوقت في البلكونة، إلى درجة تصورت معها أنها لم تترك بلكونة في شارعنا إلا وأطلت منها. صارت شقق كل الجارات امتدادا لشقتها المؤقتة تتنقل بينها لتخفف من وطأة الدور الأرضي عليه. وعندما كانت جارة تسألها عن شقتها المؤقتة، تبدأ في السخرية منها ومن الدور الأرضي، وتتمادي في السخرية حتى تدفعك إلى الإحساس بأنها تسكن مكانا تحت الأرض، وتترقب الفرار منه والعودة إلى الحياة. أشارت وهي تقف في بلكونتنا نحو شباكها الموارب:
- عايزة أغير مكان السرير.
ضحكت أمي وقالت لها إنه لم يمض على وجوده في مكانه سوى يومين. لم تكن تعليقات معظم الجارات مثل أمّي، كان عدد منهن ما إن يسمعن رغبتها في تبديل مواضع الأثاث حتى يشجعنها، ويذكرن تصوراتهن عما يمكن أن تكون عليه الشقة، ويبدين استعدادهن لمساعدتها. وبالفعل كنّ يساعدنها في نقل الأثاث. وتعلو ضحكاتهن وهن يتراجعن عن نقل قطعة قبل استقرارها في المكان الجديد وينقلنها إلى مكان آخر.
صديق لي نظر نحو شباكها وهمس لي بأنني بالتأكيد أقضي معظم الوقت في البلكونة في انتظار رؤيتها نائمة على السرير. أفهمته بأنني لم أرها ولا مرة ممددة عليه، وصرت أشك في أنها تنام عليه أصلا. لم يصدقني. وظن أنني لا أريد تشجيعه على الاستمرار في المراقبة طول فترة زيارته لي. كان ما شجعه على تخيلاته رؤيته لها مرة تطل بسرعة من الشباك، وثقته في أن امرأة صغيرة مثلها لا بد أن تغفل عن إغلاقه وهي ممددة على السرير، ولا تنتبه إلى أنه مفتوح إلا بعد مرور وقت يكفيني لتأملها. وعندما عرف أنها لا تكف عن تبديل مواضع الأثاث، أصر على أن حيويتها تلك لا بد أن تدفعها إلى غير المتوقع، خاصة وأنها ستغادر الشارع في أقرب فرصة. كنت غير مقتنع بكلامه لكنني كنت أتمنى حدوثه.
مرة فتحت باب شقتنا وأنا عائد من مدرسة السعيدية مبكرا. واندفعت إلى غرفة نومي لأبدل ملابسي وأخرج مرة أخرى، وقبل أن أهم بإلقاء الكتابين اللذين أحملهما توقفت يدي وأنا أراها نائمة على سريري، وانحسر الغطاء عنها كاشفا عن ساقيها. التفت متوقعا وجود أمي خلفي. وبهدوء وحذر دخلت المطبخ وكل الغرف الأخرى. لم أجد أمي ورغم ذلك أحسست أنها ستظهر فجأة. عدت إلى مدخل غرفتي والكتابان في يدي وقررت التحجج بأنني عدت “دلوقتي” ومستعدا لإظهار كل علامات المفاجأة على وجهي وكلمة آسف على طرف لساني لو استيقظت أو لو عادت أمي من الخارج. بدت إيناس مستغرقة في النوم وانفرجت شفتاها قليلا. تضايقت من سكونها ونومها الهادئ.
أتت جارات للاطمئنان عليها. وامتلأت الغرفة بهن. لم يحدث من قبل أن تجمعت كل هؤلاء الجارات في غرفتي. كن يتجمعن في غرفة أمي حينما تمرض. لم يضايقني وجودهن بل اضطراري إلى عدم الخروج من الشقة. وانتظار أن تطلب مني أمي أو إيناس شيئا. كنت أريد أن أخرج إلى صديقي الذي كان ينتظرني، وأحكي له ما حدث. وأستغرق في وصف كيف تفاجأت بوجودها على سريري. وستجعلني أسئلة صديقي أطيل في وصف ما لم يتم إلا في خيالي. تدريجيا استردت عافيتها قليلا. وبدأت الجارات يخففن عنها بقول اقتراحات لإعادة ترتيب شقتها. وكانت تعلق عليها بصوت خفيض أو بإشارات من يدها.