المفكرون الجدد ضحايا الإعلام
على أساس مما سلف، يتنزل حوار الباحثة الجزائرية أسماء كوار مع الفكر الفرنسي “ميشال أونفري” حيث اعتبرت الحديث مع مفكر غربي مستقل في مشروعه عن “أيّ عقيدة دينية” بمثابة مسلك معرفي يقودنا بصورة آمنة صوب الاعتدال الفكري والتوازن الذهني، ويبعدنا قدر الإمكان عن “الشطط الفكري”، الذي نزاوج فيه بين الإيمان بالحقائق الأولى ورغبة العقل الجسورة في طرح أسئلته الكبرى دون أيّ سقف أيديولوجي يريد أن يحتكر المعرفة لصالح قوى لاتاريخية، لأن الجسارة الفكرية هي التي تمكن الإنسان من امتلاك زمام أموره الأنطولوجية ومن التفكير خارج أفق الإكليروس الديني.
يمكن الإقرار أولاً أن المكاسب التي نتعلمها من متن حوار أسماء كوار مع ميشال أونفري تتمثل في أنه نظر إلى العلاقة القوية بين الفلسفة وباقي العلوم الإنسانية والاجتماعية وخاصة التحليل النفسي، الذي يفتح لنا مسالك معرفية في فهم تضاعيف وأخاديد النفس البشرية بحسبان العلاقة الغليظة المتقاطعة بين السيرة الذاتية للفيلسوف ورؤاه الوجودية. وبحكم تزويد الباحث بعدة معرفية ثرية لأن “الفيلسوف يفكر وفق الأدوات المعرفية المتوفرة لديه، وإلا فإنه سيفكر خارج الواقع″، من هنا اتكأ على نصوص أبيقور، إسبينوزا، نيتشه، من أجل تقديم مقاربة فلسفية برؤوس متعددة، وبخلطة نعتقد أنها إمكانية خلاقة لاستئناف القول الفلسفي.
ينطلق هذا الاستئناف من عبارة رشيقة لميشال أونفري فيها الكثير من الحكمة التي تنظر إلى الوجود برؤية ترصد الانحطاط في جميع صوره مثل “المال المهيمن، فقدان كل المعايير الأخلاقية والمعنوية، إفلات الأقوياء من العقاب، وعدم قدرة السياسيين، السوق الذي يجعل القانون في كل مكان، الأميّة الجماعية وأميّة أولئك الذين يحكموننا، وفقدان الأسرة أو المجتمع والوطنية لمصلحة القبيلة والمحلية، وأصبحت السطحية قاعدة عامة، الاغتراب عن الواقع وانتشار الحرمان، وانتشار التهكم، كل إنسان يفكر في نفسه”، حيث يكون الاستئناف مؤسسا على مبدأ المسؤولية الذي يصير قانونا إتيقيا عاماً يلتزم به كل من يعتبر ذاته جزءاً أصيلاً حاملا لهمّ أنطولوجي ينخرط في تعرية هذا الواقع القبيح وطرد الأشباح المزعجة والمخيفة من فضائنا.
وهي رؤية تعضدها وسائل الإعلام التي غدت مؤسسة أسطورية مهيمنة على الفضاء العام ولها المقدرة المطلقة في صناعة الواقع وتسييره وتوجيهه إلى مرام تصنع في غرف السياسيين ورجال المال وعصابات المنفعة العكرة، وهي أيضا تمقت كل شكل من أشكال التفكير الحر، حيث “لا تحتاج وسائل الإعلام لأن تفكر، ولكن تحتاج لأن نشاهدها عندما ترسل الإعلانات التي تدعمها. وهذا يتطلب أقصى عدد من الناس أمام الشاشة الصغيرة.”، وبهذا “دفن الشعب حياً، واستبدل بالغوغاء التي صنعتها وسائل الإعلام، منذ سنوات لم تعد المدرسة هي المكون للضمائر والعقول، بل أكثر من ذلك، تحولت المدرسة إلى صف جديد، وبيعت في الأسواق وللمنظرين. وأصبحت المدرسة هي التلفزيون، الأنترنت والتويتر… إن وسائل الإعلام تحوّل الشعوب إلى حشود، ونحن نعلم أن الحشود لا تفكر، لا تحلل، ولكن تنخرط في الوضع كرجل واحد نحو الشعار”. وعليه، يكون لزاما علينا أن نقر أولاً بمدى وعي “ميشال أونفري” بهيمنة الإعلام على الفضاء الفكري وإدراكه ثانياً لخطورة المال، هذا الصنم الجديد، الذي تحول إلى زيوس (Zeus) جديد.
إن المبتغى من هذا التحليل ليس هو إظهار مدى صدقية ومصداقية الطرح الذي قدمه “ميشال أونفري” وإنما هو بالتحديد تبيان طبيعة العلاقة القوية التي انعقدت بين الإعلام وصناعة الرأي العام وتحول المعرفة إلى سلطة بالمفهوم الفوكوي “نسبة إلى الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو”، وانخراطها في خطاب يعلو على الحق والصدق والأمانة ويسعى جاهداً إلى تبني مفردات النجاعة، والمنفعة، والمردودية، والإذهال، وكأن الأمر هنا والآن ليس درك الحقيقة وإنما درك الأثر الذي يحدثه الإعلام على فهوم الحشود، وبالرغم من هذا الإدراك العالي والمكثف لمقدرة الإعلام المخيفة في بلورة الرؤى، إلا أن “ميشال أونفري” وقع هو أيضا في شركه وأصبح فريسة سهلة لألاعيبه المتعددة والمتكاثرة والتي تشهد ربواً متزايداً، فقد أعلن مرة أنه “يوجد في فرنسا مشكلة عويصة اسمها المشكل الإسلامي”، معتبراً أن “القرآن نفسه يحث على الاقتتال والعنف وأنه دموي”، وهو موقف يخندقه رأساً في خندق اليمين المتطرف، وفي تعليقه على حادثة تشارلي إيبدو “الجريدة الساخرة”، قال إن “المشكل ليس مشكل إسلام بل هو مشكل عنصرية الفرنسيين، موجهاً لومه للحكومة الفرنسية التي شجعت الإعلام والصحافة الفرنسية على الإساءة للمسلمين ولنبيهم محمد”، مما يشي بوجود ترنح في مواقفه أمام وسائل الإعلام، وبالتالي فإنه لا يملك ولا يحوز على رؤية حصيفة لمجريات الأحداث على المستوى الواقعي، فهو أسير منطق المغايرة من أجل المغايرة دون أن يقعّدها على أسس معرفية.
لا أريد هنا أن أناقش جملة الأحكام التي أصدرها حول الديانات والتي تحمل طابع التسرع وعدم الإلمام الكافي بمتون النصوص الدينية، خاصة المتعلقة منها بالإسلام، غير أن المستقرئ لمستوى خطابه يجد فيه الكثير من الترحال المتسرع الذي لا يقف عن كنه وجوهر الأشياء والصفات التي تميز مثلا الدين الإسلامي، فهو لا يدرك مستويات التخاطب داخل النص القرآني ولا يميز بين نوعية المعاني المنتشرة في السور والآيات، وطبيعة المتحدث ونوعية المتلقي وأفقه التاريخي. إنه حديث عن مدى حضور الإعلام في أذهان المفكرين الجدد.
إن الحوار بالرغم من أهميته وقيمته التاريخية في معرفة موقف النخبة الفرنسية من الأحداث الجارية، وهو نصيحة أو فضيلة بتعبير إيتيقي، لكل المثقفين العرب لكي ينخرطوا في النقاشات العامة والتي تهم الرأي العام، إنما هو حوار لم يذهب صوب المستقبل بحسبانه سؤال الفلسفة الحارق، وخاصة السؤال حول مستقبل أوروبا في ظل موجات التطرف اليميني والديني الذي عاد إلى الساحة كمكبوت متمرد، وعن دور النظام الثقافي والسياسي والاجتماعي الذي يتكفل بصناعة الفرد العلماني، وما مصير القيم الجمهورية في أفق الأمركة.