تراجع مرحلي
مكانة القصةِ القصيرةِ في تراجعٍ مرحلي، وهذا تشخيصٌ للواقع ولا يمسّ القيمة الأدبية لجنس القصة القصيرة الذي لا يموت، لكنه أمرٌ واقعٌ، تتصدُّر الروايةُ المشهد الإبداعي، لأنّها فن التفاصيل والرؤى، والقصة فن الالتقاط واللمحة، وفي ظل الظروف الثقيلة وزخم الواقع المعيش المزحوم بالتحديات والاختراقات للروح وللضمير الجمعي العربي والإنساني نجد الرواية تتسيَّد وتشكل سقفا وملاذا للروح المرهقة، بينما القصة تشبه مظلة لا تقي برد الواقع لحظة الهروب. إضافة لانتشار شبكات التواصل الاجتماعي وغيرها جعل الشذرة سيدة العالم الافتراضي والرواية سيدة المشهد الثقافي الواقعي.
بالتأكيد جددت القصة القصيرة من أساليب كتابتها، لكن التجديد لا يكون بالمنحى الإيجابي دائما لكنه حقٌ مشروع، والتجريب يضيف للفن الأدبي ويأخذ منه، لكن التغريب والإغراق بالغموض والرمزية ربّما أفقد القصة القصيرة ما تتصف به من بنية فنية تتفرّد بها وتجذب المتلقي.
ربما في بعض النصوص تحوّلت لغة القصة القصيرة لتصبح أقرب إلى الشعر وفضاءاته منها إلى السرد، لكن ينبغي أن يُشذَّب النص القصصي من فائض الكلمات والتراكيب حتى وإن كانت مزينة بلغة شعرية، إن لم تخدم البنية الفنية للقصة. وتظل اللغة الجميلة ثوب الأدب بصرف النظر عن جنسه.
وأرى أن مكانة القصة القصيرة تراجعت مرحلياً لكنها لا تفقد هذه المكانة لأنَّ الحياة هي نسيج من قصص مبعثرة وأحداث ومواقف ترتبط معا بطريقة غامضة وتنتظر من يكشف الخيط الخفي الذي يجمعها معا.
للرواية مكانتها المتألقة مرحلياً وهذا -كما أرى- زمن الرواية لكن الساحة تتسع وتستوعب وتتعطش لكل الألوان الأدبية والفيصل هو صدق وأصالة وإبداع ما يقدم وليس جنسه، ولا أرى أنّ ثمة فنا أدبيا قادرا على التعبير عن الراهن العربي والإنساني اليوم، فما يحدث يفوق قدرة العقل على الاستيعاب، والأدب الحقيقي ليس انفعاليا ولا هو تجاوب فوري، القصة لقطة وموجز سريع واختزال، كل قصة تشبه لقطة لكن لنعترف بأنّ ثقل الواقع عربيا وعالميا يناسبه أكثر الرواية ولكن هذا لا يقلل من دور ومكانة القصة القصيرة. الرواية أقدر على التعبير ورصد الحياة بعمق وتصوير الإنسان في صراعه مع الحياة وتعاطيه مع الوجود، والظروف المجللة بالسواد.
ويعدّ هجران أغلب القصاصين كتابة القصة القصيرة إلى الرواية، ظاهرة لافتة ربما تضيق القصة القصيرة بزخم وتدافع وتداعي البوح والرؤى والأفكار، وليس في هذا قصور لكن القصة القصيرة لا تحتمل زخم التفاصيل ولا تستطيع أن تستوعب ملامح تجربة مكتملة بينما الرواية تمنح كاتبها مساحة فسيحة، وتترك له حرية الغوص في عمق الشخصيات وتحليل الأحداث وتوظيف الواقع ورصد المرحلة، وبث الأفكار، ورسم لوحة من الحياة بكل أبعادها وتفاصيلها ونبضها. القصة القصيرة تمرّ بمرحلة تراجع، لكن وجودها كجنس أدبي قادر على العيش والتعايش والتجدد والبقاء.