مهابط الكلمات ومعارجها
ما الذي يجعل المرء قادرًا على استدراج الكلمات إلى فخاخه في مكان ما دون غيره؟ وما الذي يجعله مستعدًا لخضّة الكتابة ورجفتها في وقت محدّد، أو في وضعيّة جسدية معينة دون سواها؟ سؤالان لا تكمن إجابتهما الشافية، إن كان ثمّة، إلّا في سياق الكلام عن الإلهام، في عين ذاته، وما تطاير حول ذلك من أدخنة كثيرة، وما صاحبه من قرع طبول كثير.
كان الإلهام الشعري (والفنيّ عمومًا) عند الإغريق حالة من النشوة يغيب فيها القلب عمّا حوله، طائفًا من الملكوت العلوي. يدخل الشاعر، في تلك اللحظة، في نوبة إلهية، أو في ما يسمّونه الجنون الشعري (furor poeticus): يغيب في ما وراء عقله غيبةً لا يعود منها إلّا وقد قذفت في روعه كلمات الآلهة.
ولم تشذ عن تصوير الإلهام الشعري، كقوة غيبيّة، المرويات العربية القديمة. فوادي عبقر هو المكان الذي يسكنه شعراء الجنّ، ومن يبيت ليلة في بطن ذلك الوادي يأتيه شيطان يلقنه الشعر. ويذكر أبو زيد القرشي في “جمهرة أشعار العرب” حكايات عن وجود أقران من الجن لفحول الشعراء كانوا ينطقون بالشعر على ألسنتهم: من لافظ صاحب امرئ القيس، وهبيد صاحب عبيد بن الأبرص، وهاذر صاحب النابغة الذبياني، ومسحل السكران صاحب الأعشى، إلى جالد صاحب عنترة.
وفي عصر النهضة، تم الحديث عن الجذل النشوان ولحظة الانخطاف التي كانت تصاحب الشاعر وكيف أنه ملهم من السماء. وأمّا في عصر الأنوار، فقد تنافست الأفكار السيكولوجية الوليدة مع الاحتفاء المتجدد بالطبيعة الباطنية الملغزة التي تكتنف الإلهام، والتي تكاد تقترب، في جوهرها، من لحظة الوجد الصوفيّ. ففي الوقت الذي تحدث فيه الفيلسوف الإنكليزي جون لوك عن أنّ الأفكار تتداعى في العقل البشري مرتبطة ببعضها في تناغم فجائيّ، وأنّ الفكرة المجلجلة هي التي تكون قادرة على قدح الذهن بشررها المتطاير، إلّا أنّ كبار شعراء الرومانسية، كرالف والدو إمرسن، قد عدّوا الإلهام حالة جنون لا تختلف كثيرًا عمّا جاء به الفكر الإغريقي؛ فيما رفع صموئيل تيلر كوليردج وبيرسي شيللي، الشاعر إلى مرتبة “النبيّ” الذي تكون روحه قادرة على استقبال الرؤى، متناغمة مع “الرياح الإلهية”. وفي العصر الحديث، يربط سيغموند فرويد الإلهام بالعقل الباطن، وأنه قد يتدفق فجأة من اللّاشعور. تبنى هذا المفهوم السرياليّون، فنشدوا الإلهام في الأحلام والكتابة الآلية.
وسواء كان الإلهام مرتبطًا بقوى غيبيّة، أو متمركزًا في اللّاشعور وينجم عن صراع سيكولوجي أو صدمة طفوليّة، إلا أن الكتّاب قد سعوا إلى استقباله، ضمن طقوس مقرّرة، وفي أماكن معلومة، ووضعيات بعينها. فنرى مطرح الإلهام ومهبط الوحي ينتقل من وداي عبقر في الأساطير العربية القديمة، على سبيل المثال، إلى السرير والكفن المفتوح وغرف الفنادق وحوض الاستحمام في الحقبة المعاصرة.
فحين قرر الشاعر والروائي الفرنسي فكتور هوغو كتابة “أحدب نوتردام” حبس نفسه في بيته، ولكي يحرم نفسه من المغادرة، لم يترك متاحًا من ثيابه سوى شال رمادي كبير يلتف به ليكتب. وكانت الشاعرة الإنكليزية إديث سيتويل، ملهمة “أنشودة المطر” لبدر شاكر السياب، تصعد إلى كفن مفتوح، وتتمدد فيه لبرهة، قبل أن تشرع في مشاريع كتابتها اليومية. وأمّا جورج برناردشو، صاحب جائزة نوبل في الأدب للعام 1925، فكان يكتب في كوخ بناه في حديقة منزلة على قاعدة متحركة ميكانيكيًّا تسمح له بملاحقة أشعة الشمس أنّى ذهبت خلال النهار. فيما كان الروائي الأميركي ترومن كابوتي لا يكتب إلّا مستلقيًا، ولا يبدأ أيّ كتابة ولا ينهيها في يوم جمعة، وكان يصرّ على تغيير غرف الفنادق التي تتحوي أرقام هواتفها على الرقم 13، وكان لا يسمح بوجود أكثر من ثلاثة أعقاب سجائر في المنفضة، واضعًا ما يزيد في جيب معطفه. وأمّا الروائي الروسي فلاديمير نابكوف فكان يفضل الكتابة في سيارة مركونة، وكان أيضًا يترك قصاصات بيضاء تحت وسادته لكي يدوّن عليها ما يختلج في صدره حين يجافيه النوم. ولم يكن الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو يقدر على الإتيان بفكرة ما قبل أن يتمشّى لمسافة طويلة، فالجلوس إلى مكتب كان يصيبه بالغثيان. بيد أنّ الروائية الألمانية ألفريده يلنيك، الحائزة على جائزة نوبل في الأدب للعام 2004، تحتاج إلى أن تكون في أماكن فسيحة كي تستطيع الكتابة، أو مجرّد النظر إليها من نافذة غرفة ما. فيما كانت الشاعرة الأميركية غيرترود ستاين تكتب قصائدها في مقعد السائق في السيارة، وكانت الشاعرة الأميركية مايا أنجيلو لا تكتب إلّا في غرف الفنادق. أما الروائي الإنكليزي دي. إتش. لورنس فقد كان يفضل الكتابة تحت شجرة ما؛ والشاعر الأميركي كونراد إيكن يفضل الكتابة على طاولة في غرفة الطعام؛ والشاعر الإنكليزي روبرت غريفز في غرفة مؤثثة بأشياء مصنوعة يدويًّا.
وأمّا الروائي الفرنسي بلزاك، فكان يلتهم وجبه دسمة في الخامسة صباحًا، وينام حتى منتصف الليل، ثم ينهض للكتابة على مكتب صغير في غرفته لست عشرة ساعة متواصلة، تشحن طاقته أكواب لا تنتهي من القهوة. وكان الروائي الأميركي إيرنست هيمنغواي لا يكتب إلّا واقفًا، ضاربًا حكاياته على الآلة الكاتبة؛ وكذلك كانت الروائية الإنكليزية فيرجينيا وولف، تفضّل الكتابة في وضعية الوقوف. فيما كان الشاعر الأميركي والاس ستيفنز لا يطيق الكتابة وهو جالس، مفضلًا نظم قصائده على قصاصات وهو يسير، ثم يدفعها إلى سكرتيرته كي ترقنها على الآلة الكاتبة.
ولم يكن الروائي الفرنسي مارسيل بروست هو الوحيد الذي كان يكتب في السرير. فالقائمة تضم أيضًا الشاعر الإنكليزي وليام وردز وورث والروائي الأميركي مارك توين والروائية والرسامة المكسيكية فريدا كالو والروائي الأيرلندي جيمس جويس والقاصة الأميركية إديث وارتن والمفكر الصيني لين يوتانغ الذي كتب في مديح ذلك قائلًا “إنّ الكاتب يستطيع العثور على مزيد من الأفكار في هذه الوضعية الجسدية أكثر من الجلوس بإصرار أمام مكتبه صباحًا وعند الأصيل، حيث يكون متحرّرًا من عاديّات الحياة اليومية وتفاهاتها، فيرى الحياة عبر ستارة خرزيّة كما هي، وهالة من خيال شعري مطروحة حول عالم الأشياء الحقيقية، نافخة فيها جمالًا سحريًّا”. ثم يكمل قائلًا “إن الكاتب حينئذ لا يرى الحياة في فجاجتها، بل وقد استحالت، على حين غرّة، إلى صورة أكثر واقعية من الحياة نفسها”.
وفي مقالة له بعنوان “سرّي”، يعترف الشاعر الأميركي تشارلز سيميك بأنه لا يكتب إلّا في السرير، في فوضى من الملاءات والأغطية المتشابكة، لا ممددًا في أريكة، ولا مرتاحًا على كرسيّ هزاز، “فالشعر، كالحُبّ، يصنع في السرير”، كما يقول أندريه بريتون في إحدى قصائده، و”لا شيء أكثر طبيعية من خربشة قصيدة حُبّ بقلم حبر جاف على ظهر حبيبتك” وهي ممددة إلى قربك عارية في السرير.