ثقافة ما بعد الزلزال
إذن، فتلك الانتفاضات الشعبية الواسعة لم تكن في انطلاقتها وليدة عوامل خارجية، لكنّ العوامل والتدخلات الخارجية، الإقليمية منها والدولية، نتيجة عدم توفر أو قصور العوامل الذاتية الضامنة لنجاح تلك الانتفاضات، قد دخلت فيما بعد على خطّها لتفعل فعلها في حرفها عن مسارها الطبيعي وتشويه هويتها واغتيال أهدافها، وذلك خدمة لمصالح تلك الدول والجهات الأجنبية في هذه المنطقة الاستراتيجية من العالم، لتتحول تلك الانتفاضات في معظم الأقطار التي شهدتها نتيجة فقدان المناعة المجتمعية وضعف الرابطة الوطنية إلى حروب أهلية وإثنية ودينية ومذهبية مدمرة أضحت تهدد كيانها الوجودي كدول ومجتمعات ووحدات جغرافية وسياسية.
لقد مثّلت تلك الانتفاضات بطابعها الشعبي الواسع وبعنفوانها ومطالبها العادلة، والتي فاجأت معظم المراقبين الدوليين والمحليين، زلزالاً عنيفاً هزّ أعماق المجتمعات العربية الراكدة والمتخلفة عن ركب التطور الحضاري العالمي عدة قرون، ووضع حاضر ومستقبل هذه المجتمعات أمام تحديات مصيرية، وأمام أسئلة ملحّة حول تفهّم وإدراك واقع وبنية هذه المجتمعات في مختلف الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية وعلى الأخص على صعيد الفكر والوعي الشعبي العام.
وإذا كان لنا هنا أن نحاول بصورة وجيزة، وبما يسمح به المجال، أن نُحدد ونُشخّص أبرز تلك الأسئلة والتحديات المطروحة وأن نحكم على مدى قدرة العقل العربي على التعامل بالكفاءة المطلوبة معها، فلا بد لنا أولاً أن نتعرف على طبيعة الوعي العربي الراهن الذي واجه تلك الانتفاضات وعلى كيفية استجابته للمهمات وللأسئلة الأساسية التي طرحتها، أي هل كان وعياً علمياً وعقلانياً يستجيب لمهمات إصلاح وتطوير هذا الواقع، فالمعروف أن بنية العقل العربي كما هي عليه اليوم ترجع إلى اتحاد وتركيب نوعي لثلاثة مصادر أو مكوّنات أساسية، أولها وعي الواقع الموضوعي الراهن الذي تعيشه مجتمعاتنا بكل أبعاده، وثانيهما الخلاصة التي تزوّد بها في ضوء طريقة ومنهج نظرتنا إلى التراث وتعاملنا معه باعتباره ما يزال، بصورة أو بأخرى، يسكن فينا، وثالثها نتائج انفتاحنا على سيرورة تطوّر الفكر العالمي وتفاعلنا معه أخذاً وعطاءً وخاصة في عصرنا هذا، عصر العولمة وثورة المعلومات وتكنولوجيا المعرفة، العصر الذي جعل من العالم قرية واحدة وحمل إلى كل بقاع المعمورة إنجازاته واكتشافاته النوعية المتواصلة وتأثيراتها الإيجابية والسلبية، إنّ مراجعة عامة لمسار الفكر السياسي والاجتماعي العربي تبين لنا، كما يتفق في ذلك معظم المؤرخين وعلماء الاجتماع السياسي العرب وكذا جل المستشرقين المحايدين، أن الفكر السياسي العربي في مختلف الحقب التاريخية التي مرّ بها يتسم بحالة فقر دم وبالشحوب والضعف المستديم، فالعرب لم يبلغوا شأوا متميزاً في علم السياسة ونظم الحكم والفلسفة والاجتماع كما كان شأنهم في ميادين وحقول الحضارة الأخرى، وذلك مقارنة بما كانت عليه أحوال الشعوب والدول التي سبقتهم أو عاصرتهم أو أتت بعد انهيار إمبراطوريتهم العربية الإسلامية وانقسامها إلى دول سلطانية وممالك وولايات وإمارات ضعيفة ومتناحرة واستمرت هذه الحال حتى مطالع عصر النهضة القومية الحديثة بداية القرن التاسع عشر التي أيقظتها الصدمة الحضارية الأوروبية لمجتمعاتنا الراكدة في أعقاب غزو واحتلال مصر من قبل نابليون بونابرت، هذه هي الحقيقة التي يعكسها مسار التطور التاريخي ولا يضعف من مصداقيّتها تلك المحطات المضيئة المحدودة والمحاولات المتفرقة والمتباعدة المتمثلة بابن رشد: فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، ومدينة الفارابي الفاضلة، والأحكام السلطانية لأبي الحسن الماوردي، ومقدمة ابن خلدون التي أرست المداميك الأولية لعلم العمران، هذه بلا شك محطات متميزة في الفكر السياسي والاجتماعي العربي لكنها لم تبلغ درجة تكوين منظومة القيم القانونية والأخلاقية التي تشكل في مجموعها إطاراً لتأسيس الدولة وتعيين وظائفها ومرجعيّاتها الدنيوية كما كان الأمر عند الكلدان والفرس والإغريق والرومان وغيرهم من أمم الأقدمين.
يمكن لنا أن نُميّز، بصورة عامة ومع التفاوت الكمّي بين بلد وآخر، في تأريخ مسار الفكر العربي منذ بداية عصر النهضة، منتصف القرن التاسع عشر وحتى اليوم، من حيث بنية هذا الفكر والغايات التي استهدف بلوغها، ثلاث مراحل متعاقبة:
مرحلة الدعوة إلى الإصلاح، التي قادها رفاعة رافع الطهطاوي وخيرالدين التونسي وجمال الدين الأفغاني من خلال دعوتهم لتطوير اللامركزية في إطار دولة الخلافة العثمانية وإدخال بعض الإصلاحات وأوجه التحديث في أنظمة الحكم اقتباساً من الدول الغربية، ولمّا كان مصير تلك الدعوات التجاهل والرفض التام من قبل نزعة التتريك الطورانية التي هيمنت آنذاك على مقاليد السلطة في الدولة العثمانية، كان الأمر الطبيعي أن يتجه الكفاح التحرري للشعوب العربية إلى المطالبة بالاستقلال التام، وكان على الفكر العربي أن يركّز على حق الأمة العربية في الاستقلال والحرية وأن يعيد الثقة لها بتاريخها المجيد وماضيها الزاهر فكانت هذه المرحلة بحق مرحلة الإحياء القومي وهذا ما ركّز عليه كل من بطرس البستاني وجورجي زيدان وفرح أنطون ومحمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي وغيرهم، ومطلب الاستقلال هذا هو ما أكدت على ضرورة إنجازه خريطة الطريق التي كانت خلاصة أعمال المؤتمر القومي العربي الأول الذي انعقد في باريس عام 1913.
فما يزال الكثيرون يميزون بين الدولة المدنية والدولة الديمقراطية والدولة العلمانية متجاهلين عن قصور في الوعي أو عن عمد أن الدولة المدنية هي نفسها الدولة الديمقراطية وهي نفسها الدولة العلمانية
المرحلة الثانية كانت مرحلة الكفاح الوطني للتخلّص من الانتداب والسيطرة الاستعمارية المباشرة التي خلفت اقتسام تركة الرجل المريض، وفي الوقت نفسه التصدي للمشروع الصهيوني وأخطاره المستقبلية، وقد تميزت تيارات الفكر العربي الوطني والقومي فيها بشحنة أيديولوجية طاغية كما كان منتظراً، كما تميزت بنهج عاطفي وحماسي متوتر ولم تتوفر لهذا الفكر الرؤية الاستراتيجية التي تعنى بمهمات بناء الدولة بعد الاستقلال وبقضايا التطور والتنمية الشاملة والعدالة الاجتماعية، مع ذلك ينبغي أن لا نغفل ذكر تلك الاتجاهات الليبرالية المتقدمة التي عرفتها هذه المرحلة وخاصة في مصر وبلاد الشام والتي ركّزت على ضرورة سيادة قيم الحرية والعقلانية والديمقراطية والعقلانية في المجتمعات العربية من أجل أن ينجح كل منها في بناء دولة الحق والقانون والولوج إلى عالم التقدم والحداثة، لكن تلك الاتجاهات الليبرالية لم يكتب لها النجاح نظراً للعزلة التي أحيطت بها الرموز التي حملتها من قبل التيارات الدينية والقومية والماركسية من جهة، ونظراً لغياب دور الطبقة الوسطى الواعية بذاتها التي يفترض فيها أن تكون أداة انتصار الدعوة الليبرالية من جهة ثانية، بإيجاز فإن واقع المجتمعات العربية لم يكن مهيئا كي تنجح الأفكار الليبرالية في الاضطلاع بدورها التنويري المطلوب.
أما المرحلة الثالثة الممتدة من خمسينات القرن الماضي إلى يومنا هذا أي منذ أن أحرزت معظم الكيانات العربية استقلالها الوطني، فيمكن تعريفها على صعيد هوية ومهمات الفكر العربي المفترضة بأنها كانت مرحلة السوسيولوجيا أي بناء المجتمع والدولة بما يتفق ويتناسب مع هدف بناء دولة مدنية حديثة تواكب روح العصر، هكذا كان على النخب الفكرية والثقافية والأحزاب والحركات السياسية أن تنجز في تركيبها ورؤاها وأساليب عملها التحول النوعي المطلوب لكي تكون قادرة على مواصلة القيام بالمهام التي استدعت وجودها، وعلى الرغم من المنعطفات الحاسمة التي مرت بها المنطقة العربية في أعقاب تأسيس الكيان الصهيوني والهزائم العربية المتتالية في مواجهته والزلزال الكبير الذي أصاب الوضع الدولي كله والمتمثل بسقوط ما سمّي بالمعسكر الاشتراكي فإن الفكر العربي بعامة والفكر السياسي بخاصة لم يستطع تحقيق عملية مراجعة شاملة لعتاده المعرفي بما يمكنه من تجاوز عوامل الإعاقة وأسر الماضي وينقله إلى فكر علمي وعقلاني منفتح على تيارات الفكر العالمي المعاصرة ويمنحه القدرة على قيادة مشروع النهضة العربية المجهض وتوفير مقومات أعمدته الرئيسية المتكاملة وفي مقدّمتها الديمقراطية والتنمية الإنسانية المستدامة والعدالة الاجتماعية والتجدد الحضاري والسير نحو تكامل وتوحيد أقطار الأمة، وفي رأينا أن السبب الأساس الذي حال دون هذا التطور والانتقال النوعي في بنية الفكر العربي بعامة وفي بنية الوعي السياسي بعامة هو أن كل البلدان العربية تقريباً ظلت طوال هذه المرحلة تعيش في ظل أنظمة استبداد سلطانية هي أقرب ما تكون إلى أنظمة القرون الوسطى.
هذا هو الطابع العام للفكر العربي وللوعي السياسي الشعبي حينما انطلقت انتفاضات الشارع قبل خمس سنوات يحركها حماس منقطع النظير واستعداد غير محدود لتقديم كل التضحيات المطلوبة، الانتفاضات التي توحدت في مطالبها العامة من أجل الخبز والكرامة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وإذا تجاوزنا هنا الحديث عن سياسات القمع الوحشي التي واجهت بها الأنظمة الحاكمة هذه الانتفاضات الشعبية، وتجاوزنا أيضاً الكلام على مشروعات مختلف الأطراف الدولية لاستغلال وحرف مسار تلك الانتفاضات بما يخدم مصالحها فإن الأولى بنا أن نركز على تشخيص العوامل والتحديات الذاتية التي وقفت وما تزال تقف في طريق تلك الانتفاضات والتي حالت حتى الآن دون تحقيق أهدافها.
لعلّ أول هذه الأسباب التي أدت إلى إخفاق تلك الانتفاضات والذي أعاد طرح العديد من الأسئلة الكبرى على واقع بنية الفكر العربي، هو المتعلق بما اصطلح على تسميتها بظاهرة جدل وصراع الثنائيات في الفكر العربي المعاصر، وكما عبّرنا دائماً عن وجهة نظرنا حيال هذه المسألة فإذا لم يمكن حلّ وتجاوز هذه الإشكالية في وعي النخب الفكرية والثقافية وفي نظرة وبرامج القوى والأحزاب السياسية فلن يكتب لمختلف أطراف العملية التحررية في بلادنا أن تنجح في تحقيق مهامها، وكأمثلة على صراع تلك الثنائيات الذي ما يزال يشل وعينا ويعطل ويشتت جهدنا المشترك في معركة التقدم والرقي، نذكر هنا: الصراع بين مفهوم الدولة والأمة وما يستتبع ذلك من الأخذ بمفهوم دولة الأمة أو أمة الدولة، والموقف من الدولة القطرية الوطنية، ودولة الوحدة العربية وهل نستمر في نظرتنا السابقة إلى الدولة الوطنية على اعتبار أنها تفتقد إلى المشروعية وعائق في طريق وحدة الأمة الشاملة؟ والموقف من القضية المركزية للأمة ونعني بها القضية الفلسطينية فهل ينبغي لنا أن نجمّد عملية التنمية والتطوير في مجتمعاتنا ونوجه قبل ذلك كل طاقتنا لإنجاز عملية التحرير؟ والموقف من المسألة الديمقراطية فهل إن ما يحل أزمة مجتمعاتنا هو الاكتفاء بما تعودنا على تسميته بالديمقراطية الاجتماعية ولا حاجة لنا بالديمقراطية السياسية التي هي بضاعة غربية لا تتلاءم مع عاداتنا وتقاليدنا وتراثنا، كذلك الموقف من جوهر المسألة الديمقراطية بالذات فما يزال الكثيرون يميزون بين الدولة المدنية والدولة الديمقراطية والدولة العلمانية متجاهلين عن قصور في الوعي أو عن عمد أن الدولة المدنية هي نفسها الدولة الديمقراطية وهي نفسها الدولة العلمانية وأن مقومات وجوهر العملية الديمقراطية واحدة وإن تباينت مؤسساتها مرحلياً تبعاً لدرجة تطور كل مجتمع، كذلك الموقف من مفهوم المجتمع المدني وعلاقته بالدولة، هل هي علاقة تناقض وتضاد أم علاقة تكامل وتخصص أدوار؟ والموقف من الأصالة والمعاصرة أي الموقف من التراث والانفتاح على منجزات وقيم وأفكار الحضارة الإنسانية، والموقف من الإسلام وأنظمة الحكم، فهل الإسلام دين وثقافة أم هو دين ودولة علم؟ وفي هذا المجال كان علينا أن نستنكر ما قاله طه حسين الذي أرى فيه رائد العقلانية في الفكر العربي المعاصر: لا خصومة ولا صداقة بين الدين والعلم لأن لكل منهما هدفه ومرجعيته الخاصة به، فهدف الدين هو الإيمان ومرجعيته القلب، وهدف العلم اكتشاف المجهول ومرجعيته العقل، وكذلك الموقف من الأسلوب الذي ينبغي لتلك الانتفاضات والثورات أن تنتهجه في عصرنا لتحقيق الإصلاحات والتغييرات المطلوبة، هل هو الأسلوب التدريجي الهادف لتكامل تلك الإصلاحات التي تتناول تصفية تركة التأخر في مختلف بنى المجتمع، أم نواصل اعتماد نفس الأسلوب الذي انتهجته أحزابنا وأنظمتنا الوطنية طوال خمسينات وستينات القرن الماضي ونعني به الأسلوب الانقلابي الثوري الذي يستهدف حرق المراحل؟ ومنذ أن انطلقت انتفاضات الشارع العربي كان أمامها خياران يتوقف على الأخذ بأحدهما إمكان نجاحها أو فشلها وهما استمرار سلميّتها أو جنوحها نحو العسكرة مهما تعددت مبررات ذلك، لكن النتائج التدميرية والدامية التي قاد إليها هذا الخيار هي أبلغ ممّا يمكن أن يجادل بشأنه اثنان.
على الفكر العربي أن يواجه نفسه اليوم بالسؤال المركزي الذي تطرحه السيرورة التي سلكتها انتفاضات الشارع العربي والمأزق المصيري الذي انتهت إليه، ما هي أسباب هذا الإخفاق
لقد كانت نتيجة ذلك كله، أن انتفاضات الشارع العربي بسبب الوضع الداخلي الذي واجهته، ووضع المجتمعات العربية والأنظمة التي تحكمها، ومواقف المجتمع الدولي منها، انتهت إلى حال من التأزم والإخفاق بما في ذلك الثورة التونسية التي ما فتئت تتصدى للعديد من التحديات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، لقد لعبت مختلف التيارات الشعبوية والانتهازية والإسلام السياسي بصورة خاصة كما هي حال الثورة السورية دوراً خطيراً في حرف الثورة السورية عن مسارها الصحيح وفي تشويه هويّتها وجرها إلى العسكرة والأسلمة والتدويل الأمر الذي يضع سوريا اليوم في مفترق طرق وأمام تحد وجودي لم يسبق لها أن واجهت مثيلاً له من قبل، إن أخطر ما واجهته الثورة السورية بعد انطلاقتها هو افتقاد المجموعات السياسية والفكرية التي ادعت تمثيلها للرؤية الصحيحة لمسارها ولبرامج العمل المرحلية لتحقيق أهدافها وللخطاب المضلّل الذي اعتمدته بواسطة مختلف وسائل الإعلام التي فتحت لها، الخطاب الذي عمل على تغذية وتسعير كل الروابط ما قبل الوطنية والعصبيات المذهبية وتمزيق وحدة المجتمع من جهة، وعلى نشر الأضاليل والأوهام بأن عملية إنهاء نظام الاستبداد الشمولي القائم وبناء النظام الديمقراطي البديل هي قاب قوسين أو أدنى وأن تحقيقها لن يتجاوز عدة أسابيع أو بضعة أشهر على أبعد تقدير من جهة ثانية.
على الفكر العربي أن يواجه نفسه اليوم بالسؤال المركزي الذي تطرحه السيرورة التي سلكتها انتفاضات الشارع العربي والمأزق المصيري الذي انتهت إليه، ما هي أسباب هذا الإخفاق؟ هل يمكن أن نقتنع بأن المآل الذي انتهت إليه هذه الانتفاضات يرجع فقط إلى وحشية وإجرام الأنظمة الحاكمة وإلى تواطؤ المجتمع الدولي مع هذه الأنظمة وتخاذله في الآن نفسه عن نصرتنا؟ إذا كان الأمر كذلك فليس أمامنا إذن إلا أن نتصالح مع هذه الأنظمة، وأن نستجدي عطف ومساعدة هذا المجتمع الدولي.
وإذا كان علينا أن نستقصي الأسباب الحقيقية التي أدت إلى فشل انتفاضات الشارع العربي حتى الآن في إنهاء أنظمة الاستبداد، وما هيأت له من حواضن لانتشار ظاهرة التطرف والإرهاب التي أصبحت خطراً عالمياً يهدد الجميع، فعلينا أن نضع يدنا على جراح مجتمعنا النازفة وعلينا أن نبحث عن الأسباب الحقيقية للأزمة الوجودية التي تحيق بنا، أن نبحث عن هذه الأسباب وعوامل الخلل والقصور والأعطاب في ذواتنا، فإذا كنّا متفقين على أن عملية التغيير والتحول الديمقراطي في مجتمعاتنا هي المهمة المركزية الآن كي نستعيد ونحصن ذاتنا الوطنية وندخل عالم العصر والحداثة، فعلينا أن نتساءل عن ماهية الوعي الذي يسود مجتمعاتنا ويهيمن على فكر نخبنا وحركاتنا السياسية والمجتمعية، وعلينا أن نتساءل في الوقت نفسه عن حظوظ أفكار وقيم العقلانية والديمقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان ومنجزات الحضارة العالمية التقنية والإنسانية ووحدة المصير البشري في أوساط مجتمعاتنا وأجيال شبابنا وفي برامج التعليم والثقافة والإعلام.
ألم يحن الوقت بعد، أن ندرك أن اكتمال العملية الديمقراطية وما رافقها من تقدم حضاري في الغرب، كانا نتيجة دينامية مجتمعية ذاتية أي داخلية فعلت فعلها في صيرورة تحويل كل بنى المجتمع الفكرية والثقافية والدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية بكيفية متواقتة وموحدة، بينما كانت عطالة مجتمعاتنا العربية والإسلامية وغيرها من المجتمعات الشرقية وراء إجهاض إمكانية نشوء هذه العملية التطورية الذاتية، كما أن المراهنات على إمكانية توفر الإرادة الفوقية لحزب أو لسلطة أو لانقلاب عسكري لفرض قيم العقلانية والعدالة والديمقراطية وكل قيم الحداثة الأخرى بعزيمة رغبوية يمكن أن تنجح وذلك بديلاً عن ضرورة غرس هذه القيم أولاً في جذور تربة المجتمع وفي وعيه العام وتربيته على هديها، وأمامنا بهذا الصدد ثلاث تجارب تستحسن المقارنة بينها وهي تجربة أتاتورك وبورقيبة وجمال عبدالناصر.
والخلاصة أن عملية التغيير والتحول الديمقراطي لمجتمعاتنا التي لا بد أن يفتتح أبوابها ويدشن طريقها التغيير السياسي الذي ينهي أنظمة الاستبداد والفساد القائمة، لا يمكن أن تنجح وتستكمل كل أبعادها إلا إذا استندت إلى استراتيجية شاملة تستهدف تطوير وتحديث كل جوانب مجتمعاتنا وتستهدف قبل ذلك تطوير واقع نخبنا الثقافية والسياسية سواء على صعيد الفكر والتنظير أم على صعيد الممارسة والتدبير.