الجزائر والثقافة ما بعد الربيع العربي
كل هذه الأسئلة تُجيبنا عنها -والعبرة بالخواتيم- النتائج والانعكاسات التي، وللأسف الشّديد، كانت سلبية إلى حد بعيد إذا ما قُورنت بحجم الخسائر المادية والبشريّة، ما ينطبق عليها قولاً هو المثل العربيّ القديم القائل ” تمخض الجمل فولد فأراً”، فالثورات العربيّة؛ ومنذ شرارتها الأولى في أكثر دول العالم العربيّ انفتاحاً «تونس» مروراً بمصر واليمن، فليبيا، وصولاً إلى سوريا، لم تكن تستهدف سوى شخص الحاكم الطّاغيّة، مُغيّبة بذلك حاشيته وكل الرّاكبين في فلكه من رجال الظلام، ولم تستهدف أركان المعبد القديم الذي حافظ حرَّاسه على موازين قواه، وعرفوا كيف يركبون الموجة ويُديرون قطارها على سكة تقوده إلى حيث مصالحهم الخاصة، لم تقلع “الشّجرة الملعونة من جذورها” كما يُعبّر عن ذلك المفكر الجزائري أحمد دلباني، وهذا بسبب غياب دور المُثقَّف العربيّ الفعَّال الذي لم يؤثر في هذا الحدث التّاريخي العظيم، بل لم يكن حتى يتوقعه، بمعنى أنّها كانت ثورة سياسية ولم تكن مصحوبة بثورة عقلية ثقافية، هذا ما يقودنا إلى القول بأنَّ هذه الثَّورات لم تنجز التَّغيير الشّامل والمسح الكامل لكل أثقال الحياة البدائيّة في جميع المجالات؛ التي وضعت لها الأنظمة الفاسدة حجر الأساس، وتبنتها الشّعوب العربيّة مُرغمة وغالبا دون وعي، وكانت بعيدة عن درب الخلاص بالمعنى العميق مادامت قد تخلَّت عن كثير من بنود الثّورات التّنويريّة القائمة أساساً على العقل التّنويري النّاقد؛ الذي يكتب بنودها، ويُخطّط لها، ويرسم معالمها من البداية إلى الوصول لتحقيق الغايات المنوطة بها. وإلَّا فكيف نُفسر صعود الإسلاميين إلى سدَّة الحكم..؟ كيف نُفسر عودة البرابرة..؟ وبماذا نُفسر الحروب الأهليَّة والدَّمويّة التي تعيشها ليبيا اليوم..؟ بماذا نُفسر الأرواح المدنيَّة التي تتساقط بالآلاف يومياً في سوريا، والتَّدخل الرّوسيّ فيها أليس هو الاحتلال الأجنبيّ مهذباً..؟ ما مصير الشّعوب التي ترزح بُلدانها -سوريا و العراق نموذجان- تحت نير الحروب..؟ ألم يلجأوا إلى بُلدان أجنبية بحثاً عن عشبة الحياة..؟ ثمَّ من صنع داعش أصلاً..؟ وغيرها كثير، أليس كل هذا هو الحصاد الذي جنيناه من هذا المُسمى بـ”الرّبيع العربيّ” الذي اكتفوا بسنونوة واحدة لصناعته..؟ وحتى لا نكون غليظين في حكمنا على هذه “الولادة غير المكتملة ” للعرب، ينبغي لنا أن نعترف لها بشيء من إيجابياتها، وأرى أنّ أهمها على الإطلاق هو إجبارها للأنظمة البوليسيّة الشموليّة القمعيّة على الانفتاح رغماً عنها، بفتحها “لباب التّفاوض والحوار لأول مرّة في تاريخها حتى ولو كان مع نفسها” كما يُعبر هشام صالح في كتابه “الانتفاضات العربيّة، ص 235.
عوداً على بدء.. إذا كانت الجزائر تُعتبر من البُلدان العربيّة التي ركبت سفينة نوح ونجت من طوفان هذه الانتفاضات الشّعبيّة بأعجوبة، وحافظ نظامها الدّكتاتوري على شعرة معاوية الأخيرة، وعرف كيف يُنوّم الشّعب الجزائريّ سياسياً حتى لا نقول مغناطيسياً، وقد ساعده في ذلك نفسية هذا الشّعب المقهور الذي خرج لتوه من عشرية سوداء دموية ،مضيفاً إليها عائدات الرّيع النّفطي -قبل أن ينهار في الأسواق مُؤخراً- التي استثمرها في خلق مشاريع عشوائية أملتها الظروف ليلجم بها غضب الشّباب البطال، فهذا لا يعني أنَّها كانت بمنأى كلي عن الانعكاسات التي ترتبت عن هذه الانتفاضات، فهي الجارة الشّقيقة لتونس مهد الرّبيع العربيّ، وليبيا أيضاً، تتقاسم معهما نفس الحدود، بمعنى أنّها كانت داخل لُعبة الشّطرنج ؛ لكن بيادقها عرفوا كيف يُؤمِّنون حدودهم، ومنعوا امتداد موجة الغضب إلى هذا البلد؛ الذي ما يزال إلى يومنا هذا تحت وصاية حكم دكتاتوري رجعي قمعي واستبدادي يتغنى بديمقراطية مُزيفة تلوح باهتة عن بُعد، وبما أنَّ هذا النّظام “أخطبوط الفساد” فقد بقي ثابتاً ولم تزحزحه موجات الرَّبيع العربيّ، فإنَّه لم يظهر على السَّاحات السّياسيّة، الثّقافيّة، والاجتماعية وغيرها أي جديد، ولم يطرأ عليها أيّ تغيير، وربما لا يُفكّرون حتى في ذلك لا على المدى القريب ولا على المدى البعيد، أهمّها ما أتى على ذكره الأديب أزراج عمر في مقال له بجريدة “العرب” الدّوليّة نلخصها في النّقاط التّاليّة:
* غياب مشروع حضاري.
* غياب مشروع الدّولة الوطنيّة التّحديثيّة المُؤسّسة على الهندسة الفكريّة.
* الوجود الظّاهري والشّكلي للمثقّفين وغياب الوجود الإبداعيّ والتّنويريّ التّحديثيّ.
* حصر السّلطة في نطاق وأدبيات وممارسات الحكم فقط، علماً أنّ السلطة مفهوم مركب ومُتعدّد الأبعاد.
هذه الأسباب وغيرها قد أدَّت بالشعب الجزائريّ إلى إعلان انسحابه النَّفسي مُسبقاً، بعدما أصيب بـ”التَّسمم السّياسي” هذا المفهوم القديم “القائم أساساً على الخداع مع تقديم دليل إقناع بعدم الخداع". إذن ما هو السَّبب الرَّئيس في كلّ هذه النَّكسات والفاجعات والمُحاولات الفاشلة للنهوض بمختلف الميادين سواء أكانت صناعية، أم زراعية، أم أخلاقية، أم سياسية، أم عسكرية..؟ إن كل هذا لا يُصاغ إلَّا من معدنٍ واحد، وهو الأساس، إنَّه معدن “الأزمة الثَّقافيَّة” كما أشار إلى ذلك مالك بن نبي في كتابه “مشكلة الثَّقافة”.
والأزمة الثَّقافيّة في الجزائر ضاربة جذورها في الأعماق، تنمو مع نتائجها، ولا يُمكن حلّها بمشاريع فلكلورية خاوية، أو مهرجانات تصرف عليها المليارات، كالتي تقوم بها وزارة الثَّقافة في هذا البلد.
إنَّ البنية الفوقيّة ما هي إلَّا انعكاس لحالة البنية التَّحتيَّة، وإذا كانت الثَّقافة هي البنية الفوقية لكل مجالات الحياة تمرّ بعديد من الأزمات الخطيرة ، فهل يُعقل أن تكون البنيّة التحتية ممثلة في المجالات الأخرى قوية ومتماسكة..؟ يقول مالك بن نبي إنَّ “أيّ إخفاق يُسجّله مجتمع في إحدى محاولاته، إنَّما هو التّعبير الصَّادق عن درجة أزمته الثَّقافيَّة”، وبالتالي وجب إعادة النَّظر في هذه القاعدة الأساس، وإعطائها أولوية ضرورية أكثر من غيرها، ومنحها الحرية الكاملة في التَّسيير بعيداً عن المحيط السّياسيّ، لأنَّها مرتبطة بشكل ديناميكي مع الحرية، وهي في حاجة إلى قراءة خارطة بنيتها العميقة، حتى يُعاد تصفيتها من كلّ الشّوائب؛ واستئصال القيم الأخلاقيَّة البالية، إنّنا في هذه الحالة في حاجة ماسة إلى “قتل الأب الثَّقافيّ” التقليدي والرجعي كما يُعبّر المفكر أحمد دلباني، حتى يُمكن إحلال بدائل أخرى مُخالفة.
لكن كل ما سبق ذكره، لا يُمكنه أن يحدث، على الأقل في الفترة الحاليّة، هذه المسألة مُعقّدة وصعبة جدّاً، بوجود محيط سياسي عفن في الجزائر يقوده نظام دكتاتوري يرفض الاختلاف، وليس لديه أيّ نية في الانفتاح الثّقافيّ ومعالجة “الأزمة الثّقافيّة” التي تمر بها البلاد، والثّقافة الوحيدة المقبولة عنده هي ما يتَّفق مع وجهة نظره أو الصَّادرة عن أتباعه ومؤسّساته، أي ثقافة مُفصَّلة على مقاسه، والمُثقَّف الذي لا يقف في صفهم ويُعارضهم تتعرض شخصيته للتلف وكرامته للمهانة وأعماله للتشويه الإعلاميّ.
إن سياسة التّهميش والإلغاء لشريحة هامة من المجتمع والقادرة على الإضافة والمساهمة الفعَّالة هي ظاهرة مستفحلة في البيئة السّياسيّة/الثّقافيّة في الجزائر، بما أنَّ الثّقافة في الجزائر ما تزال استهلاكية غير منتجة تخضع لدفاتر شروط تُمليها سياسة النّظام الحاكم حسب ما تُمليه مصالحه.
إذن في ظل هذه الظروف الصَّعبة التي أملاها المُحيط السّياسي هل يُمكن للمثقّف أن يؤدّي دوره كما ينبغي..؟ كيف يُمكنه أن يُقدّم أدوات التَّغيير المُتمثلة في إنتاجه الفكري في بلد هو ضد الفكر التَّنويري أساساً..؟ ثمَّ كيف يُمكننا أن نضمن عالماً أفضل دون أن يتضمن “البحث عن عالم لا يدفع فيه الآخرون بأرواحهم من أجل فكرة” كما يقول الفيلسوف كارل بوبر..؟ لن نعود إلى تلك السّنوات التي اغتيلت فيها العقول بتصفية آلاف المفكرين والأدباء والصّحافيين إبّان فترة العشرية السّوداء، إنّنا نقصد هنا بالذات سلطة الرَّقيب التي لا تكف في كلّ مرة عن مُصادرة الكتب المهمَّة والجديرة بالقراءة، فقد سبق لها أن منعت كتاب “قدّاس السّقوط ” للمفكر أحمد دلباني، وهذا العام كتاب “الرّبيع العربيّ” للدكتور بومدين بلكبير ومئات الكتب من دخول الصالون الدّوليّ للكتاب، وفي الوقت نفسه فقد سمح لكتب أخرى تافهة وسخيفة لا تجد لها تصنيفاً كالعناوين التّاليَّة “هل أنت حمار شغل؟”، “كيف تعلّم ابنك الحمار دون تكرار”، “كيف تحلب النّمل”، والغاية من كل هذا هو استحمار العقول وتدجينها وتحويل المؤسّسات الثَّقافيَّة إلى إسطبلات ودكاكين؛ إنَّه الجهل المُقدَّس بامتياز، وهذا يدل على أنّ القطاع الثَّقافيّ في الجزائر، الذي تقوده مجموعة من المتعلّمين -غير المثقَّفين- الموالين للنظام، يعمل جاهداً على توزيع الجهل بالمساواة لضمان بقاء هذا النّظام واستمراره في الحكم، ولنا أن نتساءل في هذا السّياق: هل توجد مجلَّات ثقافيّة تابعة لهذا القطاع..؟ هل توجد قوانين لدور النَّشر التي أصبحت تنشر لكل من هب ودبّ..؟ هل حدث أن استدعى مسؤولو هذا القطاع المثقّفين واستشاروهم في مشاريعه أو ليقيّموا معهم حصاد السنة..؟ هل استدعوهم مؤخراً عندما قاموا بدسترة الثَّقافة..؟ هل كرّموا كمال داود وبوعلام صنصال الفائزين بجائزة دولية بعدما كرموا عياش يحياوي وواسيني الأعرج..؟ متى يتخلون عن تصفية الحسابات الأيديولوجية والإثنية والعرقية وعقلية “الأقربون هم الأولى بالمعروف”..؟ ثمَّ ماذا قدَّمت هذه التَّظاهرات الثَّقافيّة مختلفة الشّعارات -التي امتصت خزينة الدّولة- للثقافة غير الفضائح..؟ أين السينما والمسرح المتطوران..؟ هل توجد قوانين تحمي حقوق الكُتَّاب..؟ هل استطاع اتحاد الكُتَّاب “الجزائريين” أن يلم شمل الكُتَّاب والمبدعين ويُنصفهم..؟ وغيرها من الأسئلة التي يجب أن تطرح حول هذه “الأزمة الثّقافيّة” الكارثيّة التي تمر بها الجزائر.
إنّنا في حاجة اليوم أكثر مما سبق، إلى ثورة ثقافيّة عارمة تقوم بتصفية بنية التخلف، و في حاجة إلى نوفمبر ثقافي يعطي انطلاقة جديدة للحياة الاجتماعية، ويلغي تبعيتنا إلى المشرق ثقافياً، حتى تعود للثقافة مكانتها كدستور للحياة العامة في هذا البلد.