قصة أكثر من مدينتين
ثم وفي المقطع التالي يضع ذلك الروائيّ الفذ يَدَهُ على مكمن الداء. إنه الترميدُ، والاستنقاعُ، واللايقينيةُ التي كان قد عاش فيها معظم أبناء الشعب الفرنسي قبل الثورة. ويلخّص ديكنز حالة الترميدِ قائلاً: إنّ الملكَ والملكةَ، والفئات الحاكمة الذين وصفهم بـ”السادةِ المهيمنين على مخازن الدولة الخاصة بالخبز والسمك كانوا يرون في مثل وضوح البلّور، أو أوضحَ، أنّ الأشياء سوف تَظَلُّ على حالها الراهنِ أبَدَ الدهر”.
وأتذكّرُ أنا، الآنَ، هذا المقطع النبوئيِّ. أتذكّرُهُ، في الوقت الذي بتنا ننزف فيه دماً، ونعيشُ تمزيقاً، وتشويهاً لصورتنا وسط شعوب هذا الكون الفسيح. الصورة التي أفلحَ أعداؤنا، وساعدناهم في فلاحهم ذاك،برسم صورةٍ لا تُمحى عنّا، كإرهابيين، ومدمّرين لتراثنا، وتراثِ ما سَبَقَنا من حضارات. فالصورة هي، وبلا رتوش، صورة متخلّفين، ومتحرّشين، وما شئتَ من نعوت.
وفي البداية، ينبغي، أيضاً، أن نغلق عيوننا، ولو لبعض الوقت، عن ذلك الذي حدث تالياً في منطقتنا العربية. وسنأمرُ الأيام بأن تعود إلى الوراء، ليس كثيراً. أربعَ سنواتٍ وحسب. وسنطلبُ من وعينا المؤرَّق، والمُمَزَّقِ، الوعي الذي لم يعد يعرف إنْ كان ما قد تَمّ كان ينبغي له أن يتمّ. أمّا وقدْ تَمَّ، أفكان ينبغي أن يتمّ على النحو الذي تمّ به. أما للتغيير من دروبٍ وطرائقَ أقّلَّ عنفاً. دروبٌ تعاهد عليها البشر، وبمقتضاها باتوا، أينما كانوا، يتداولون مقاليد الحكم، مرةً أنا، ومرّةً أنت. بتلك اللعبة البسيطة، والساذجة كان يمكن استرضاءُ كبرياء البشر، وتوقِهم الدائم للأفضل.
سنقف. ونغمض أعيننا، ونطلبَ من الزمن، ومن الوعي، ومن الأمكنة، أيْ باختصار من كل ما أصابه فيروس الدمار، أن يعودوا كلهم إلى الوراء. إلى تلك اللحظات المجيدة، أواخر عام 2010 وأوائل عام 2011، وأن يتبصّروا في حالة الترميد التي أجادَ ديكنز في تكثيفها في جملةٍ واحدة “الاعتقاد بأنّ الأشياء ستبقى على حالها إلى أبد الدهر”.
سأطلب أن نعود إلى اللحظة الأروع، لحظة اكتشاف مَنْبَت الخلل، إلى سرابيةِ ما اعتقده الطغاة بأنه سرمديٌّ، ومُمتَدٌّ إلى ما شاء الله. إلى الحالة التي نسيت معها الناس كيف يُقالُ للأشياء القبيحة كفى. كانت الـ”لا” العريضة، التي قيلت يومها ستُقال. وسنُدهَشُ كيف قيلت. لا بل إنّ الدهشة سوف لن تبارحنا ما حيينا.
إنْ حقّقنا شرط الانفصال عن الراهن. والتفكير بتلك الأيام، ولا شيء غير تلك الأيام. لكان سؤالنا الوحيد: أحقيقيٌّ ذلك الذي شاهدناه بأمِّ أعيننا في هاتيك الأيام، أم أن الذي جرى لم يكن أكثر من حلم يقظة، ومن نوع تلك الأحلام التي انتظرنا حدوثها طويلاً، في منافينا، وزنازيننا، الحقيقية، أو في الزنازين التي حبسنا أرواحنا بداخلها،وبأيدينا. وكنّا ونحن نحلم تلك الأحلام، ونَحُضُّ على تحويلها إلى حقائق، في كتاباتنا وفي اجتماعاتنا الحزبية، نعتقدها، في قرارة نفوسنا، أموراً تنتمي إلى دائرة الوهم، بأكثر من انتمائها إلى دائرة الممكنات!
وماذا؟
أن ترى الناسَ، في بعض العواصم والمدن العربية الكبرى، أيْ في أكثرِ من مدينتين، وقد نزلت إلى الشوارع، في مجاميعَ هائلةٍ، لكأنما لم يتبقَّ أحدٌ يومها في قلب البيوت، كي يرى ذلك الذي صار على الشاشات بعد أن صارت هي سيّدةً كُلِّ قول.
ولا ينبغي، لأيّ ارتكاساتٍ تالية، مهما بلغت دمويّتها ووحشيّتها، أن تُنسينا ما جرى، وأن تنزعَ عنها ألقَها الذي كانَ، وكانَ، وتواصَلَ، وتواصلَ، وما مِن شيءٍ ولا إجراء ولا وعودَ، ولا جوائزَ ترضيةٍ، كان بمقدوره أن يوقف ذلك الذي كان، وتواصلَ على ذلك النحو الجبّار والمخيف، في آنٍ معاً.
كان تواصلاً دَفَقَ الحياةَ، إن لم يكن على نحوٍ دائم، فأقلُّه أيامذاك، إلى القلب من دواخلنا، ومِنْ وعينا المكلوم، والمنكفئ على نفسه. وكانت تلك الأيام حدثاً استثنائيّاً، ومباغتاً، في حياة هذا الشرق القاحل والمبارك. الشرق الأوسط، صانع الحضارات الكبرى، وأرض الرسالات السماوية. الأرضُ المُبتلاةُ منذ نعومة أظفارها، أيْ منذُ آلاف السنين، بالطغاة والأفّاقين من كُلِّ مِلّةٍ ولون. الأرض المبتلاةِ إلى أبد الآبدين، بالتنظيرات التي ما تفتأ تُدَجِّن أرواح الناس بأيديولوجيّات الخضوعِ لأولي الأمر، وطأطأة الرؤوس لهم، حتى لو لم يكونوا أهلاً لولاية الأمر.
هذا الشرقُ الذي إنْ حدثَ ففاضَ عسلاً ولبَنَاً، فإنما فيضُهُ للحكام، ولمن ارتبط بهم مِنْ باعة الوهم، وما أكثر باعةَ الوهم، مِنْ الشيوخ إلى أن تصل إلى السياسيين، في تاريخٍ امتدَّ وامتدَّ، ولم يكن وضّاءً في معظم مراحله.
و”لحظة البوعزيزي”، التي ابتدأت في تونس وانتقلت بعدها إلى غير مكان، لم تكن انتصاراً لبائعٍ مغلوبٍ على أمره، بل انتصاراً لأمّة جرى زبلُها بالكامل. ولم تكن غير ذلك الذي أشار إليه ديكنز: أيْ، اعتقادُ الحكام بأن وجودهم سرمديّ، مثل وجود الشمس. أو ظواهر الطبيعة الأخرى. لا حياة لشيء من دونهم. وهم الأحرار الوحيدون. وليس من حقّ أحدٍ أن يسائلهم. هم مِن يقودون البلاد والعباد حيث أرادوا.
“لحظة البوعزيزي” تلك، كانت قَدراً اصطاد الحكامَ والمحكومين على حدٍّ سواء. وكان لها إلزامُ الضرورة الموضوعية. كانت القَدَرَ الذي أتى، كي يعودَ لي، ولك، ولكل واحد مِنّا، نحن المهمّشين، والمُقْصَين إلى التخوم. وإلى برهة الترميد، حيثُ لأموت، ولا حياة. أرضُ الرماد التي اختيرت سكناً لنا ولأرواحنا اهتزّت. اهتزّت أخيراً. وكان اهتزازها ذاك أفقَ أملٍ تتوِّجَ بالكارثة.
أرضُ الرماد كانت قد هزّتها وإلى غير عودة أقدام الجموع التي تحدّت الموت، وقامرت بهناءة العيش، لتعيد لأنفسنا إيمانها الأصلي بقانون الحياة الخالد؛ القانون الذي كان قد مكّننا، كما كان قد مكّن أسلافنا فيما مضى، من الاستمرار في العيش في رحاب هذه الأرض، صانعة الحضارات. الأرض التي تشرّفت بالأنبياء، فكان أن ورثها عنهم الطغاة.
“لحظة البوعزيزي” أحيت ما عرفته الشعوب الأخرى، عبر نضالاتها المريرة، من أنه يمكن للحاكمين ترميد الأرواح، ويمكن للاستعباد وللضحك على لحى البشر أن يستمرّ طويلاً، ولكنه لن يستمرّ إلى ما لا نهاية لاستمراره.
ولحظة البوعزيزي، هي أنّ: لحظة الحقيقة قد تأتي في أشَدّ برهات الدول وثوقاً بنفسها، وبما تملكه من أدوات لكَمِّ الأفواه. إنها لحظة، ولكنها في الوقت ذاته كُلُّ اللحظاتُ. اللحظاتُ وقد تكثّفت، وأطلقت شرارة الحدث. إنها اللحظة التي أتت فجرفت الكُلَّ في طريقها. ولحظتها، في لحظة الحقيقة التي كانت في الواقع فصارت في الفعل، سنطلبُ مِنْ لحظة البوعزيزي، ومن أنفسنا، ومن اللاعبين الإقليميين، وإخوتهم الدوليين، وقتاً مُستقطعاً، نلتقطُ فيه أنفاسنا، ونضبط فيه اندفاعتنا، فلا يمنحنُا أحدٌ مثل ذلك الوقت، لأنّ الوقتَ ما عاد وقتناً، بل وقت غيرنا.
أكانت “لحظة البوعزيزي” التي تهدّمت إثرها أوطانٌ وأوطان، ومات في أعقابها آلافٌ وآلاف، أكانت مِنْ أجل أن يحصلَ الناس، مَنْ ماتَ منهم ومَن ظَلَّ منهم على قيد الحياة، على مقدارٍ أكبر من كعكة العيش، هل يتلخّصُ سعي البشر، وإقبالهم المرعب على التضحية بالغالي والرخيص، بالقول: إنّ الأمر وما فيه أننا نحتاجُ كي نسكت أن تُزادَ جرايتُنا من الفتات. الفتاتُ الذي يُلقي به الحكّامُ متى شبعوا هُمُ والطغَم العائشة مِنْ فُتاتهم، والمُتغنّية دوماً بأمجادهم.
أيمكن لذلك أن يكون سبباً وحيداً في كُلِّ ذلك الذي جرى. فماذا إذن عن مسألة العيش نفسهِ، كُلِّهِ، العيشِ غير المنقوص، العيش الذي كان، طوال قرونٍ مضت، قد امتلأ قيحاً، وتخلّفاً عن ركب الأمم. ماذا إذن عن الرغبة في أن نكون مشمولين فيقلب الشرط الإنساني. الشرط الذي يحتِّم أن يعيش البشر مُفعَمين ببشريّتهم، وكرامتهم، وحقّهم في اختيار حاكميهم، وحقّهم الآخر باستبدال أولئك الحاكمين، متى وجدوا الأفعال قد تناقضت مع الوعود.
والآن، إذ نفتحُ أعيننا، من جديد، بعد أن كنّا قد أغمضناها لدقائق. الدقائق التي كانت كافيةً كي نستعيد بهاء تلك الأيام.الآن، وبعد أن فعلنا ذلك، صار لزاماً أن نعيدَ فتحهما من جديد. كي تريا جيّداً وعميقاً كيف صار حاضرُ الماضي. وكي تتمعّنا في ما تبقى من بشر، بعد سنواتٍ خمس من الاقتتال المرير.
سنعود الآن إلى البشر الجُدد. البشر الذين نصادفهم في الشوارع، أو جثثاً هامدة عند الشواطئ، سنراهم، دون أيّ مسعىً منّا لخداع الذات. كي نرى، ونرثي لبشرٍ اكتشفوا، وربما بعد فوات الأوان، أنهم قد باتوا، من حيث لا يدرون، في قلب المجهول. في القلب من عنفٍ بشع. عنف الحُكّامِ في دفاعهم حتى الموت عمّا يملكون، وما يحكمون. وأن نتأمّل بالمثل، عُنفَ هويّتنا المتشظّية بين طوائف ومِلَل، كانت موجودةً عبر التاريخ، ما من مبرر لعدم وجودها. وأن نتأمّل، بعقولنا وعواطفنا، وما أصابنا من مفخخات،عنف لصوص الثورات. اللصوص الذين أنبتتهم الأرضُ. أو الذين ألقت بهم إلينا أجنداتُ الآخرين، وحساباتهم التي لا تتطابقُ ولا ينبغي لها أن تتطابق مع ما حلمنا به.
ما تحقّق لوعينا، وما نحن أكيدون منه، أنه ذات يوم، وفي لحظةٍ كلحظة البوعزيزي، تجرّأ بعضُنا فعلّق الجرس. ألقُ البدايات إن نحنُ تذكّرناه جيّدا فسيكوّن وعيَنا الراهن والقادم. حقّاً، أين كان الوعي، وكيف صار!