أمواج الوعي
لا شك أن ظاهرة الربيع العربي بما هي ظاهرة مستحدثة وغير مسبوقة في السياق السياسي العربي الحديث، خلفت الكثير من الجدل، وذلك بالنظر إلى طبيعة الأسئلة التي أفرزتها، والنتائج الآنية التي تمخّضت عنها. ولما كان الربيع العربي يتميز برأي الكثيرين بخاصية الفجائية، ولكن لا يجوز الاستغراب حين ملاحظة هذا الكم الهائل من الدراسات التي سعى أصحابها إلى رصد هذه الظاهرة وتحليلها معرفياً وسياسياً، والوقوف على إجاباتها الراهنة ورهاناتها.
إن الربيع العربي مقولة عامة لا تخلو من تعميم. كما أن تجارب بلدان الربيع العربي حمّالة أوجه، ونتائجها متباينة من بلد إلى آخر، وكل تجربة لها من الخصوصية التي يجعلها مختلفة عن تجارب الآخرين. وذلك على الرغم من بعض الملامح العامة التي قد يشترك فيها أكثر من بلد، والقاسم المشترك بينها جاء حول انتفاضة الشعوب التي كسرت حال الانغلاق في المجتمعات العربية، وأسّست لتاريخ جديد فاصل لا يمكن التراجع عنه، لكن ذلك لا يمكنه أن يكون سبباً كافياً لاستعجال نتائج الربيع العربي، ولا يمكن الحُكم على حركة في التاريخ بسرعة وسهولة، لأنها حركة جدل وصراع لا يُحسم مسبقاً، وهي الوعي التاريخي وجدل التاريخ ما بين النجاح والفشل، كما أن الأمر يحتاج إلى الدقّة بعيداً عن التفاؤل المفرط ـ في الاعتقاد بأن التحوّل إلى الديمقراطية قد أصبح على الأبواب ـ وبعيداً، أيضاً، عن التشاؤم المحبط، لأن المعيار الحقيقي للتغيير لا يتمّ عبر الإطاحة بالأنظمة الحاكمة، فقط، وإنما بمدى ما يمكن إنجازه من عملية التغيير السياسي ـ الاجتماعي ـ الاقتصادي، وأن يستطيع تشكيل “قطيعة معرفية” في الثقافة السياسية والمجتمعية السائدة، تنتقل بالمجتمع من وضع سابق إلى وضع لاحق يردم الفجوة المعرفية والحاجة إلى مشروع بديل، مشروع حضاري جليّ وطَموح يستوعب مدارات عديدة منها السياسي والفكري ـ المعرفي، مشروع يتلاءم مع هذه اللحظة التاريخية، وبموجبه يصاغ المستقبل على أسس الديمقراطية الحقيقية والمواطنة، وقبول الآخر الذي يمثّل عنصر قوة إذا ما أُحسن توظيفه على طريق الاندماج الوطني.
ولكن الربيع العربي يشكل حدثاً تاريخياً غير مسبوق في السياق التاريخي العربي الحديث بالنظر إلى حالة الركود الذي عرفته المجتمعات العربية طوال عقود كثيرة. وهو ما زال مرحلة أولية في المسار العام لحركية التاريخ وهي مرحلة إجبارية للانتقال نحو الثورة الحقيقية من خلال ضرورة هضم الماضي وتصفية الحساب مع رموزه وطروحاته قبل المضيّ قدماً نحو المستقبل.
إن شرارة الربيع العربي بما هي ظاهرة اجتماعية ـ سياسية، ما زالت من منظور حياة الشعوب والحضارات لا تشكل إلا بداية البدايات، أو هي مرحلة التشكل الأولي الذي غالباً ما يشهد صراعاً محموماً بين الأطروحات والأطروحات المضادة، ويحتاج حيزاً زمنياً كافياً لبلورة الإطار الأنسب للإجابة على أسئلة المرحلة. وعندما تبرز هذه النتائج على السطح تحتاج إلى حيز زمني معلوم لتكسب مشروعيتها العملية على مستوى الثقافة السياسية والاجتماعية السائدة.
إن حياة الإنسان تتأثر بثقافته ووعيه، وكلما كان أكثر ثقافةً ووعياً، كانت حياته أرقى وأفضل، إذن فالثقافة والوعي لهما تأثير كبير على حياة الإنسان في مختلف المجالات، وهما ليس أمراً ترفياً كمالياً، لأن ممارسات الإنسان ومواقفه تنطلق من قناعاته وأفكاره، والثقافة الأفضل تنتج قناعات ورأياً أفضل، ينعكس على سلوك الإنسان وتصرفاته .كما يقاس مستوى تقدم أيّ مجتمع من المجتمعات، بمقدار فاعلية حركة الوعي والثقافة في أوساطه، فعلى أساسها تتحدد مكانة المجتمع، وتصاغ شخصيات أبنائه.
إن العلاقة بين الثقافة والوعي، هي علاقة جدلية، فكما أن الثقافة تستطيع أن تنمّي الوعي وتجدده، فكذلك الوعي يستطيع أن يثور على الثقافات البالية ولهذا فتجديد الثقافة يعني تجديد الوعي، وتجديد الوعي يعني تجديد الثقافة، ومما لا شك فيه أن الوعي إذا بلغ هذا المستوى من النضج الذي يمكّنه من التمييز بين ما يخدم التطور وما يقف عائقاً في وجهه، لا يبقى منحصرا في إدراك جوانب الواقع، بل يتعدى ذلك إلى إدراك نفسه كوعي. فالإنسان الذي يأخذ على عاتقه تغيير الواقع من مستوى معين إلى مستوى أفضل هو الإنسان الذي يعي واقعه، ووعيه في نفس الوقت، وما لم ينصهر الوعي داخل عقلية المجتمع، فإن التخلف الفكري سيبقى مهيمناً بأدواته ووسائله تحت منظومة من التصورات والمفاهيم والعادات التي تسيطر على المجتمع وتقاوم نهضته وتنميته. ولذلك فإن إدراك قيمة الوعي والثقافة في عصر توفّرت فيه وسائل العلم والمعرفة، بات ضرورة وليس ترفاً.
أصبح التغيير مفهوماً حاضراً بشكل متزايد في الخطاب المجتمعي، الذي رأى في الأفق شمساً تُشرق، وعلى الحاكم أن يدرك بأن التغيير أصبح قدراً
ولذا لا يمكن قياس مستوى تقدم شعب من الشعوب إلا بمقدار فاعلية حركة الوعي والثقافة في تركيبته المجتمعية، ومع ذلك، ففي كل مجتمع هناك فئة فاعلة ومنفتحة قادرة على الحركة والاشتغال، وفئة أخرى مناهضة للتغيير لا يميزها عن الأولى سوى التشدد والانغلاق، ما يجعل تقدم المجتمع وتطوره مرهوناً بأيّهما الأكثر قدرة على الإمساك بزمام الأمور وبالتالي التأثير في الساحة.
إن الواقع يقول بأن ثقافة الاستبداد الفردي، والشمولي شكلت نمطاً من وعيين متناقضين، وعي التخلف في عمقه وفي تركيبته من مفاهيم وتقاليد وممارسات رسخت تخلفاً فكرياً في بعض الشرائح الاجتماعية، وعرقلة مسار التطور المجتمعي، والوعي الثاني وعي التطور والسير نحو المستقبل للتغيير السياسي والثقافي والحداثة الفكرية، وبناء دول المواطنة في أنظمة ديمقراطية لرفع المستوى الثقافي والفكري لمجتمعاتها بتعاون منظمات المجتمع المدني، ومؤسساته التعليمية والتربوية والإعلامية، منطلقة من إفساح مساحة أكبر لحرية التعبير والإبداع وقبول التعددية واختلاف الآراء وتنوع المشارب والمذاهب، بالحداثة الفكرية والثقافية، أي إنتاج وعي ثقافي وفكري وتنموي في المنظومة الاجتماعية. وهذا الوعي تبلور في الحقائق التالية:
* إسقاط ما صدَّقه الحكام في النظام العربي القائم، عن مدى حبهم من الشعب الذي يحكمون، وبأنه بالروح وبالدم يفديهم، وعرّفتهم بأن لا حصانة لأيّ نظام تحت أيّ من الشعارات.
* تعرية هؤلاء الحكام الذين برعوا في تمزيق “الرعية” التي يستبدون بها بالجهوية والطائفية والقبلية وباللامساواة “فقر وبطالة”، وكان لطبيعة وحدود وكثافة التفاوتات “السياسية والاقتصادية والاجتماعية” اختفاء طبقات اجتماعية حاملة للتغيير والتقدم. إنها ظواهر أدت إلى شرخ في المجتمع وطلاق بينه وبين حكامه الذين جعلوا “الرعية” تعيش في واقع يُساء التعامل إليها، ويُبخس من قيمتها، مما تسبّب في كثير من الإخفاقات والانكسارات وغياب الشعور بالمسؤولية، وأخذ الفرد من “الرعية” في مجتمعنا ذي البنية الهشة وبما فيه من توترات، يبحث، وبما يتكشف هذا البحث عن تحدٍ، لإيجاد معنى لحياته، وعلى طرائق الحصول على حريته، إنها حالة غير مسبوقة منذ عدة عقود من الركود، ولكنها كاشفة عن نجاح متزايد في تقنيات النمو الشخصي، وفي نضج متعدد الوجوه مرتبط بالأزمات الخانقة “الضغوط الظرفية المدمرة وانمحاء نقاط الاستناد والتعقيد المتزايد والعجز عن التقدم والانكفاء على اللحظة الراهنة…”، هذه الأزمات ولَّدت ما يحدث، الآن، في المجتمع العربي، بجيل شبابه، أمواجاً متلاطمة في محيط هادر، في تحمل مسؤوليات متعاظمة، وفي مواجهة تحديات صيرورته، ومن أهمها رفع المصادرة المفروضة على مستقبله، والاستجابة لما هو مطلوب منه بخصوص مشروع حياته بإعادة التجديد، باستمرار، تبعاً لقراراته البحتة.
* زحف الشباب الذين صنعت، المعاناة الداخلية والتوترات والهوس حتى المرض بهموم شعبهم، ثوراتهم إلى الساحة بشكل سلمي وعلى المكشوف، في ظل موازين القوى التي تميل كلياً لمصلحة الحاكم، زحف وبظل حماية له من شعبه المقهور بعد زمن طويل من القمع والكبت، وعلى المشاكل الموجودة في مجتمع أرهقه الأمل بالمستقبل، وعلى تيارات النفي السياسي والتيارات القوية للهجرة الاقتصادية من بلده المليء بالخيرات، وهو مستعد للتضحية من أجل الخلاص، بعد أن عرف موطن الداء المستفحل الذي يسبب كل مآسيه والكامن في بنية دولة السلطة التي شيَّدت أطرها الدساتير المعمول بها، وفي ديمومة العمل بقوانين الطوارئ التي أنتجت الدولة الأمنية وفرضت على الفرد من “الرعية” مصادرة لمستقبله اجتماعياً وسياسياً خلال سيرورة تبدأ منذ دخوله الحضانة حتى الردح الأخير من حياته، وحصاراً رغماً عنه في شبكة من التبعية تحدّد تصرفاته ولا تسمح له بأي شعور بالتمايز الفردي أو الميل نحو أيّ تكون اجتماعي، وتسمير مصيره بأمل الخلاص في الآخرة، من خلال روابط حشرته في إطار سلطات وضوابط ضاغطة.
لوحة: بطرس المعري
* ثار الشباب وهو معتدّ بذاته من خلال كفاءات يمتلكها ولا يجوز أن تظل في سُبات وتُوَلِّدُ فيه شعوراً بالحرمان في ظل نظام سياسي مليء بالأطر الضاغطة، وحاكم لا يرى إلا صورة نفسه ولا يتأمل إلا كُنه ذاته.
* معارضة ما تبذله مؤسسة مفرطة التسلط لفرضها عليه قاعدة تقليد قداسي يُعاد توظيفه في غسل أدمغة، وفي تكوين ناشئة، لتمجيد حكام لم يكن في ممارساتهم ما يدعو للرمزية أو القدسية أو إعادة بناء تاريخي حقيقي.
* كَسْرُ غلَّ “المفروض”، وواجب الخضوع لحقائق موجودة أمام “الرعية”، أصبح الآن أقل تقديراً، وأصبحت المطالبة بشكل متزايد بتحديد المرجعيات التي تشكل معنىً بالنسبة إلى المجتمع، وبتثمين حقه بهذا السعي نحو مرجعيات متطورة تشكل هويته، وتحقق التجديد في ضوابط جديدة لمستقبله.
* ظهور هويات شبابية جديدة، لإسقاط النماذج القسرية التي عملت أنظمة الاستبداد على تكريسها بغرض السيطرة على مجتمعاتها. ووعي الجيل الشاب بأن ما هو فيه حقير ويستحق الازدراء، وأنه فقد كل بُعد سام لوجوده، وطرحت فلسفة الحياة بالنسبة إليه سيناريو جذاباً يمكِّنه من كتابة حياته فيه.
* إرادة الجيل الشاب بالقطيعة مع النظام السياسي القائم، وإرادته بالانتفاضة ليتخلص من واقع مسطح تتراجع آفاق دلالته “فقدان معنى وجوده، اختفاء غاياته، فقدان حريته، أزمة المواطنة والمشاركة السياسية”، وليحقق رؤيته المتفائلة بإنسانيته وإمكانياته وقدراته على تطوير الأمور نحو الأفضل والعثور على أجوبة عن أسئلة الواقع المحيّرة، وأن يجد مخرجاً أو باباً للخلاص من أزمة صنعتها الأنظمة وهي أزمة مزمنة مستعصية يتخبط بها.
* الشعور بالقدرة الكلية على سلوكيات المجازفة، بعد التساؤل كما تساءل “بوعزيزي وآخرون” فيما إذا كانت الحياة تستحق أو لا تستحق أنْ تُعاش، وأن هذه السلوكيات هي طريقه للتغلب على معاناة تهميش المجتمع، وطريق للوصول إلى توجه صاعد في الحرية بفضائلها، وفي النظام الديمقراطي التعددي بتكافؤ فرصه.
* امتلاك الوعي، وتبعاً لصروف التاريخ، بالاضطهاد والظُلم وسلب الحرية، وأيضاً امتلاك الإرادة للتعبير وواجب النضال من أجل إيجاد معنى البحث عن المستقبل “الحرية”، ومن أجل نقل شرعية السيادة للشعب، وتحقيق التكافؤ بين الأشد قوة والأشد ضعفاً ليصبح الشعب قوة تحوّل سياسي واجتماعي بدءاً من ممارسات مشتركة.
* الشعور بالانتماء إلى منظومة من القيم المشتركة التي تحوّلت إلى رافعة للأفكار والأفعال، ورفض الانتساب إلى التقاليد الحصرية، والوعي باقتسام الشروط ذاتها وبالتالي وجوب التنظيم من أجل النضال ضد الاستبداد، والانتفاض لتحقيق هوية مختارة وليست مفروضة، هوية تسمح بممارسة الحرية وتشييد الشخصية، وإنتاج نظام بدون حاكم فرد مستبد، أو حزب شمولي، سعياً إلى تجنب مساوئ ما هو واقع والمضيّ بعيداً لمواجهة كافة المشكلات التي ولّدها النظام القائم والاستفادة من المميزات المتوقعة من تغييره، لحلها سياسياً واجتماعياً بنَفَسٍ من العدالة.
* الإدراك بضرورة حمل وعد للوطن، وأمنيات بسيطة للشعب (الحرية)، والتصالح مع الحداثة، والرهان على مستقبل أفضل: (قبول الحوار السلمي في المجتمع، وقبول التعددية والاختلاف، ونبذ التحجر والتزمت حيث يكمن).
* إن ما يقع في صميم فهم سبب الانتفاضات هو معاناة جيل جديد، رفيع العزم شديد الحرص، ملّ من الصبر وطال به الخوف ويريد الخلاص من أزمات دول السُلَط وتشابه ممارساتها، انتفض بعقل اجتماعي جديد من أجل عقد اجتماعي جديد، ومن أجل عهد جديد عقلاني ومستنير وإنساني لصالح قوى التقدم والمستقبل، ولإعادة السلطة إلى الدولة، وإعادة تأليف الهوية الوطنية في ظروف شديدة الاختلاف عمّا كان في بداية القرن المنصرم وأواسطه، وتشييد مساراته في الانتماء وجعلها متعايشة بشكل عقلاني.
لقد أصبح التغيير مفهوماً حاضراً بشكل متزايد في الخطاب المجتمعي، الذي رأى في الأفق شمساً تُشرق، وعلى الحاكم أن يدرك بأن التغيير أصبح قدراً، وأن ما فُرض على “الرعية” من أنماط سلوكية بدأت تتحرك وتفلت من السيطرة المفروضة، وأنها لا تتفق مع المعايير الحداثوية.