شارع المثقف المستقل
أثار الباحث الفرنسي “ريشارد جاكمون” بعض اللغط حين صدرت ترجمة لكتابه “بين كتبة وكُتّاب” في طبعته العربية، إذا اعتمد على ما أسماه -مصطلحًا- “جيش الآداب”، إذ رصد إبان الفترة الناصرية ذاك الاستقطاب الذي مارسته الدولة وكافة مؤسساتها فيما يُعدّ أوسع عملية تدجين أدبي وثقافي وفني في المنطقة العربية برمّتها، بل لا نبالغ إن قلنا في تاريخها المعاصر، ليتكون للدولة رموزها وقادتها من هؤلاء الذين ضمهم “جيش الآداب” بقوة، في أكبر عملية تدجين ثقافي وفني مارسته الدولة المصرية بعد الفترة الكولونيالية والملكية، وهو ما دفع إلى ظهور مبكر للصدام بين مثقفي وفناني المعارضة وبين السلطة المحتكرة لعملية الإبداع والثقافة من خلال المعروفين بـ”مثقفي السلطة”، وهو ما رسّخ للصراع ما بين هامش معارض، وسلطة محتكرة امتد إلى وقتنا الآن.
الشارع والمواجهة
لجأ هؤلاء، ممن اعتبرهم المؤرخ والباحث فناني ومثقفي الهامش المعارض، إلى الشارع بعد إحكام عملية السيطرة المركزية للدولة على منابع ومخارج الإبداع، وهي آفة طالت العالم العربي حتى يومنا، إلا من رحمه خيال وعقل سلطته ممن آمن بجدوى عملية الإبداع برمتها في تشكيل هوية الشعوب. ويأتي الثنائي المشهور إبّان الدولة الناصرية المصرية “الفاجومي والشيخ إمام” مثالًا ناصعًا لتلك المحاولات التي رأت في الشارع خلاصًا لها ولإبداعها من تلك الهيمنة، وهو ما نجحت فيه مثل تلك المحاولات رغم الكثير من المضايقات التي وصلت إلى السجن وتقييد الحريات في بعضها، وإلى التصفية الجسدية في مراحل متقدمة، وهو ما تشهد به حال الراحل الشاعر على قنديل والذي تمّ اغتياله بسيارة أمن مركزي جهارًا، دون محاسبة.
تلك الإرهاصات الأولى وما تبعها، كانت نواة لظاهرة ثقافية وأدبية وفنية أخذت تتمدد على الساحة، وتتواتر بشكل متنام قُبيل ثورات الربيع العربي، فيما يُعرف ضمنيًا بحركة “المستقلين”.
المثقف والشارع
يطرح السؤال نفسه بقوة عن الهاجس الذي يدفع أجيالا فنية وثقافية بدأت في التشكل إلى اللجوء إلى الشارع، فما الذي دفعها إلى ذلك؟ وهل ثمة ضمانات أعطاها الشارع عبر تاريخه مع مثقفيه وفنانيه يدعم هذا اللجوء؟
الإجابة ربما تبدو بسيطة وغير معقدة إذا ما أعدنا عملية الإبداع برمتها إلى أصولها، لنعرف أن المتلقي «الشارع» أحد أهم أطراف المعادلة الإبداعية على مرّ التاريخ الإنساني، وهو ما فطن إليه هؤلاء ممن تربّوا على أدب المعارضة وثقافتها، إذا أعادوا “العيش لخبّازه”، ليصبح الشارع هو خبّاز عجينة إبداعهم، يخمّرها، ويحمّرها ويسوّيها، فكانت أحداث الشارع المباشر والآنية، وأفكار الالتحام المباشر بالشارع خبّازًا أنضج كل هؤلاء ممن اعتقدوا في أنفسهم أنهم امتدادُ للهامش المقهور باحتكار السلطة وجيش آدابها لكل آليات الإبداع التي يملكها المبدعون بأحكام وقوانين الدستور.
وربما كانت مخاطرة قدمتها تلك الأجيال التي تشكلت والمسماة “المستقلين” ما بين أدباء وفنانين ومثقفين، بل وسياسيين وإعلاميين، حين راهنت على الشارع، فمن أين جاء هذا اليقين لديهم؟
هل طبيعة وإيقاع العصر المنفجر بالمعارف والتواصل هو ما سهّل لهم الأمر، بما قدّمه من سهولة الحصول على المعلومات وتداول المعارف بشكل أوسع وأسرع من تلك التي تعتمدها السلطة في ترسيخ تراتبية ما داخل جيش آدابها، وكأن الأمر يشبه الترقي الوظيفي في كادر حكوميّ! أم أن الشارع بكل تحولاته المتلاحقة هو ما وفّر لهم فرصة ذهبية سهّلت عملية الإبداع برمتها، إذ قدّم الشارع لهم أفكارًا طازجة وغير راديكالية، وطرح معالجاتها كذلك بشكل عفوي ومباشر في كثير من أشكال الإنتاج الإبداعي التي ألصقت ظهرها في ظهر الشارع تسنده ويسندها، تراه وتشعر به، مقدمة بذلك بديلا عن منتوج السلطة الثقافي برمته.
الشارع والمستقلين
بشكل ما توطّدت علاقة ما بين المبدع والشارع، وهو ما ظهر في كثير من الأشكال الفردية؛ كتلك المدونات الإلكترونية التي قدمت بديلا للنشر قبل أن يتطور الأمر إلى وسائل التواصل الأسرع والأكثر انتشارًا كالفيسبوك وتويتر وإنستغرام، أو فيما يحلو للبعض تسميته عربيًا “فضاء المنتديات” والتي كانت بمثابة تجمعات مختلفة ربما وجد فيها الممارس للإبداع مساحة كافية وأكثر سهولة بعيدًا عن الفضاءات التي تسيطر السلطة عليها، وهو ما كان منتشرًا للغاية قُبيل سنوات الربيع العربي. وربما كانت التكنولوجيا ووسائل الاتصال المتطورة وتقنياتها الأقل تعقيدًا هي ما سهلت الأمر ووطدته، إذ ظهرت على سبيل المثال -وبعد عصر الفضائيات- موجات من الأفلام المستقلة والمهرجانات المستقلة في شتّى مناحي الإبداع، إذ يكفي الشخص مجرّد كاميرا هاتف ذكي ليبدأ تصوير فيلمه الخاص، بل ويجد له مساحة للعرض بمهرجانات مستقلة لتلك الأفلام، أو قنوات خاصة على مواقع مثل “يوتيوب، وفيمو”.
إذ لم يكتف الشارع بتقديم المواضيع ولم يقف على تقديم مجرد مادة للإبداع، بل صار طرفًا فاعلا في عمليات الإبداع نفسه، وهو ما انتشر في السنوات الخمس الأخيرة مما عُرف بعروض الحكي المباشر، أو حكايات الشارع، وبعض عروض الكرنفالات الشعبية والمهرجانات التي حاول بها هؤلاء المستقلون تحويل الشارع إلى طرف رئيسي في إنتاج الإبداع نفسه، وخير شاهد تلك المبادرات الكثيرة التي قدمتها جماعات مستقلة كثيرة ومتباينة التوجهات والرؤى، لتنتشر مؤسسات داعمة وجمعيات داعمة من المجتمع المدني لتك الكيانات والمبادرات، وبعيدًا عن سيطرة وبيروقراطية السلطة ومؤسساتها المُدجنة. فمثلا لاحظ مبادرة مدد التي كونها مجموعة من المثقفين في مصر، لدعم وتمويل المشاريع الفنية والثقافية لهؤلاء المستقلين، لتقدم في خلال ثلاث سنوات من عمر انطلاقها عشرات المشاريع وتدعمها، وفي عموم القطر المصري.
إشكاليات وتخوفات
لعل الوضع القائم عليه الشارع العربي، بكل تماهياته السياسية والثقافية والاجتماعية، وتنامي حركة المستقلين تلك غيرت من معطيات المعادلة الثقافية الكبرى برمتها، إذ أبصر الشارع هو الىخر أن هناك بديلا متاحًا وجادًا يمكن أن يلبّي حاجاته المختلفة وبشكل أيسر وأسرع، وأكثر تحرّرًا من القيود التي تفرضها طبيعة المركز في الفئة والمؤسسة المُدجنة، وهو ما غيّر في خريطة الإبداع ودعا إلى إعادة ترسيمها بما أنتجه الشارع المستقل من كيانات ومؤسسات مستقلة، أو محاولات فنية وأدبية مستقلة.
ولنأخذ مثالا على ذلك مدينة الإسكندرية في مصر، وبحصر بسيط للمؤسسات الضالعة بشكل رسمي أو مستقل في عملية الإبداع، ستصدم من عددها، إلا أنها على المستوى الجماهيري تكاد لا تُرى أمام ما تقدّمه الكيانات والمبادرات المستقلة في الإسكندرية، فمثلا في مجال صناعة الفيلم المستقل، لا يتعدّى الأمر رسميًا مكانين وهما غير منتظمين في مكتبة الإسكندرية وقصر الحرية، بينما أوساط المستقلين، فهناك أكثر من خمسة أماكن مختلفة ما بين مدرسة للسينما والسيناريو، أو ما تقدمه من دورات وورش عمل، أو ما تقوم به من مبادرات حول تلك الصناعة كمدرسة الجيزويت للسينما، ووكالة بهنا بمؤسسة جدران الفنية المستقلة، وبحارة للفنون المستقلة، وأستوديو المدينة للأداءات الفنية والرقمية، وأستوديو الفنان مارك لطفي، وغيرهم كثير.
إلا أن الإشكالية الحقيقية التي تفرضها ظروف التمويل، ربما تفرض بعض القيود على بعض تلك المؤسسات والمبادرات، فتضطرب في بعض مراحلها. وربما تبرز إشكالية فرضها الشارع نفسه، وعكسه على الأداءات في المدينة، حيث تبدأ الصراعات بين تلك الكيانات المستقلة، فينغمس المبدع في الصراع مهدرًا طاقاته الإبداعية في جدالات لا منتوجات، وهو أكبر الأخطار التي تتهدد المستقلين وفنّاني الشارع.
وفي الإسكندرية التي أخذناها مثالا، كاد يتعطل مهرجان الموسيقي العربية المعروف بين الجمهور وفي الشارع باسم “مهرجان سيد درويش للفرق المستقلة” بسبب صراعات القائمين على إدارة الجهات المستقلة المُدشنة للمهرجان.
وتبرز خطورة أخرى تتمثل في أن تترهّل تلك المؤسسات المستقلة نتيجة زحام الأفكار المنطلقة في الشارع، ونتيجة لما يقدمه الشارع من موضوعات متلاحقة، وهو ما يؤدي إلى تكوين صراعات داخلية داخل جمهور الكيان المستقل ذاته، فتتشكل دوائر شديدة الخصوصية تعمل على تهميش وتحييد أخرى، لتزيد الوضع صعوبة.
هدية الشارع ومطالبه
قدّم الشارع نواة لكل الزخم الثقافي والفني في الأوساط العربية بما فرضه من آليات جديدة يجب أن يتعامل بها المثقف والمبدع معه، وإلا فإنّ الشارع لن يرحمه، ولن يحنو عليه، ربما يتقبل أو يتنازل عن بعض الهنات لكن ذلك لا يُسوّغ للعامل في حقل الإبداع الثقافي والفني أن يستهين بالأمر ويستسهل، إذ بات لدى الشارع بكل أطيافه عقلا جمعيها يمكنه أن يطبّق قواعده النقدية التي تتناسب ولحظته التاريخية، وهو ما يفرض على المبدع والمثقف ضرورة التكيف ومجاراة هذه القفزات التي لا يتوقعها من الشارع، إذ بات عليه أن يتعلم بعض الأمور يظنها لا علاقة لها بالإبداع قبلا، لكنها باتت ضرورة لتكتمل صورة منتوجه الأدبي كأمور الإدارة والتواصل والتفاعل المباشر، والارتجال الحيّ وغيرها مما يفرضه من ارتضى ما أحبّ تسميته “لعبة الشارع المبدع المستقل”.
بقى سؤال نؤجله في مقال آخر، عمّن يدفع الآخر أمامه، هل يدفع الشارع مبدعيه ومؤسساته الرسمية أم يدفع المبدع المستقل الشارع أم تسيطر المؤسسة الرسمية وتدفع الشارع أمام حظيرة تدجينها.