الثقافة العربية في بيئة متحولة
وبعد فترة وجيزة تغيّرت تقاليد الحديث والحوار والكتابة وأصبحت النبرة العالية المرتبطة بالسرعة وبقلة التفكير قاعدة. احتل العنف والإثارة واجهة الأحداث وأصبحت الصور البشعة تملأ الفضاء. لا وقت للتفكير لدى المتحدثين العموميين ولا وقت لدى الجمهور ليستمع بعمق إلى حديث عقلاني مبني بناء عقلانيا ولا مساحة للحوار في وسائل الإعلام. صراخ في الشاشات وفي صفحات التواصل الاجتماعي ونواح في البيوت وأدعية وصلوات في كل مكان والمقابر تكاد تحتل الساحات. في مثل هذه الأوضاع لم يعد العقل ضروريا.
تحولات الفضاء الثقافي وتحولات الخطاب
تحول الفضاء العربي بسرعة إلى فضاء مشحون بالمشاعر القوية والنزعات المتطرفة. وفي خضم التحول برزت سمات وملامح جديدة للخطاب الثقافي العربي. ظلت الثقافة العربية تتميز بسمات متميزة في عصر التحولات الكبرى. فقد عرف رواد النهضة العربية الحديثة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كيف يوجّهون دفة الفكر والثقافة نحو قضايا أمّتهم لجعلها “تواكب” العصر بأفكاره وتحولاته العاصفة، وخاضت حركات التحرر الوطني والبناء القومي معركة الفكر السياسي الجديد الرامي إلى بناء دول حديثة وبدأت بعض ملامح الحداثة السياسية والفكرية تطبع الحياة الثقافية العربية في النصف الأول من القرن العشرين في ظل تنامي الطموحات الاستقلالية والمشاريع التنموية في إطار الدولة الوطنية الناشئة. وتحدّدت ملامح الفضاء الثقافي العربي عموما في وجود شخصيات محورية في كل منطقة ثقافية تضطلع بمسؤولية تحريك الحياة الثقافية وإعطائها الوجهة الملائمة للمرحلة حسب مراحل تطور الثقافة فأرسوا تقاليد الممارسة الثقافة ورسّخوا العلاقة بالمؤسسة التعليمية والإعلامية وبالمجتمع. وبوسائل بسيطة فعالة لأمنها استطاعت بعض الشخصيات أن تصبح مؤسسات قائمة بذاتها في وقت كانت فيه الدولة الحديثة في بدايات نشأتها. وسرعان ما حلّت الدولة على رأس الحركة الثقافية تدعمها بالموارد وتسندها بالإعانات غير أنها تحولت في مرحلة تالية إلى قيد على الحياة الثقافية في ظل تحول السلطة إلى سلطات عسكرية أو أمنية. وهكذا كان الفضاء الثقافي العربي يزداد ضيقا بالمثقفين وبالثقافة وبالفكر بقدر ما يزداد نظام الحكم تشددا وتعنتا. وتزداد أصوات المثقّفين خفوتا بقدر ما يرتفع ضجيج السياسة.
ومنذ هزيمة 1967 عادت بوصلة الفكرة إلى الوراء وبرزت توجهات ماضوية تشكك في الاتجاه، ومع فورة النفط في سبعينات القرن الماضي تحول مركز الاستقطاب والجاذبية في البلدان العربية من الحواضر ذات العراقة الثقافية (القاهرة وبغداد ودمشق وبيروت وتونس والرباط والجزائر) إلى العواصم الجديدة التي أصبحت تسبح في بحار النفط والتكنولوجيا. وحلت القوة المالية الجديدة بتوجهاتها المحافظة محلّ القوى السياسية الحداثوية وبدأت توجهات الانفتاح الاقتصادي تدفع باتجاه الانغلاق الثقافي والفكري. هذا في الوقت الذي أصبحت فيه القوة الناعمة عنصرا حاسما في الصراعات الدولية وتزايد دور العلم والتكنولوجيا في تحديد وزن الثقافة وتجديد فاعليتها.
كانت المعرفة عنصرا تتزايد أهميته في الثقافة العربية طيلة النصف الأول من القرن العشرين ومع المعرفة كانت تنمو الفنون والآداب وأساليب الحياة الحديثة. وعرفت الحياة الفكرية نوعا من الازدهار رغم جمود البنيات الفكرية والسياسية. وبدأ العالم يتطلّع إلى عالم عربي حديث يقيم معه علاقات ندية وحوارا حضاريا، ولكنها بدأت تتراجع في الربع الأخير من القرن العشرين حين تصاعدت الحركات العنيفة بخطابات معادية للعصر وللعقل. وساعد الريع النفطي على تحويل مراكز الثقافة ومحتواها وخطاباتها في نفس الوقت. تحولات الفضاء الثقافي أفضت إلى تحولات الخطاب الثقافي واتجاهاته. فانتقال المراكز الثقافية رافقه تحول في طبيعة الخطاب الثقافي وفي اتجاهاته: من خطاب عقلاني حداثوي متجه إلى العالم ومتجه نحو المستقبل في نزعتين تقدمية أو ليبرالية إلى خطاب ديني منغلق على العالم وماضوي ذي نزعتين متطرفة وأكثر تطرفا.
الثقافة العربية من الانغلاق إلى التراجع
مع توقف مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتراجع دور الدولة في السياسات العمومية تحت ضغط المؤسسات الدولية الرامية إلى تكييف المنطقة مع متطلبات النمو الرأسمالي العالمي تراجعت مكانة العالم العربي على المستويات العلمية والمعرفية ولم يعد للمنطقة العربية من وزن في الساحة الدولية إلا عبر قوّتها النفطية أو عبر الأدوار المحلية التي يمكن أن تضطلع بها في حفظ الأمن ومحاربة التطرف والعمل على تحقيق مصالح القوى المهيمنة على العالم. وبهذه الطريقة أعيد إدماج المنطقة العربية في رقعة شطرنج العلاقات الدولية لتؤدي وظيفة ثانوية في الصراعات الدولية: فبعد أن كانت طرفا تابعا في الصراع بين الشرق والغرب في نهاية حقبة القطبية الثنائية أصبحت كمّا مهملا في الحقبة الحالية التي تجري فيها إعادة تشكيل خارطة العالم وإعادة توزيع الأوراق بين الفاعلين الأقوياء على أساس الفاعلية الاقتصادية والقدرة التكنولوجية والوزن الحضاري للثقافات المختلفة.
بعد حربين طويلتين تعرض العراق للاحتلال والسودان للتقسيم. وبعد ضمور المشروعات الوطنية والقومية الحماسية عادت الطموحات إلى حدود قطرية وأصبحت الهموم الشعبية لا تتجاوز لقمة العيش والسكن والوظيفة وتفادي ازدحام السير في العواصم العربية الكبرى. صارت الاهتمامات الثقافية ترفا. وفي ظل القحط الثقافي العام تراجعت نوعية الحياة واستفحلت الحركات المتطرفة المبنية على تحقير العقل والعلم والعمل. وبتشجيع من الأنظمة القائمة على القمع ورفض الحق والعدل وتوزيع ريع النفط حسب الولاء عادت النزعات القائمة على الانغلاق الفكري والطائفية الدينية والمذهبية والاتكالية ورفض المشاركة الإيجابية في تغيير الواقع المعيش. أصبحت الكفاءة خطرا على النظام العام، والعلم بدعة، والعقل انحرافا تنبغي محاربته.
لم تزد تحركات الشارع في السنوات الخمس الماضية الأمر إلا تعقيدا: في ظل الأزمة وانطلاق الغرائز والأهواء يصبح من السهل التلاعب بالنخبة وتضليل الجماهير. وفي ظل هذه الأجواء المشحونة تتجلّى السمات البارزة في الحياة الثقافية العربية المعاصرة: الآنية والحدثية والعاطفية والانغلاق المذهبي والطائفي والتشييئ والتجزيئية والتبريرية والاتهامية وفكر المؤامرة وغلبة الاتصال على الفكر وسيادة التبرير بدل التفسير والتعليل وسيطرة الارتجال على السلوك العام والخاص حتى يغدو الإعداد للمستقبل أو مجرد التفكير فيه ضربا من المحال.
في ظل هذه البيئة المعادية لروح العصر يبدو العالم فضاء للمشاحنات وتوجّس الشر. أصبح العرب يتوجسون مما يجري في منطقتهم. هكذا تتجلى الأزمة في الحياة العربية الراهنة: لا الاستقرار الذي يسمح بالنموّ الطبيعي أو بالتنمية التدريجية الإرادية ولا الثورة التي تغير الواقع تغييرا ثوريا.
ثورة بلا ثوار
لعل المثقفين العرب كانوا أول من فاجأته الأحداث التي جرفت المجتمعات العربية في حراك متعدد الأوجه وفي اتجاهات متعددة. كان كثير من المثقفين قد تخلّوا عن مزاعمهم المذهبية واستكانوا للوضع القائم تحت رعاية السلطات السابحة في ريع النفط ونعيم السلطة. وسرعان ما استعاد بعضهم وعيه فساير التيار الجارف محاولا التغطية على ماضيه بإحداث ضجيج مقصود لضمان مكان لنفسه في سيل الأحداث المتلاحقة. هكذا برز “الشيخ” و”الداعية” و”الناشط” جنبا إلى جنب مع “الخبير” و”المحلل” و”الاستراتيجي” بديلا للمثقف والمناضل والرفيق الذي كان يتصدر المجالس ويقود المظاهرات المنددة أو التظاهرات المؤيدة. وفي غمرة الأحداث حلت شاشات التلفزيون محل صفحات الكتب والمجلات الثقافية وأصبح تيار الأحداث الجارف عائقا أمام الفكر. وبعد أن كان تقديس الماضي عائقا أمام التفكير فيه لدى بعض الفئات من “المفكرين” والحفاظ على الاستقرار سدّا أمام العمل من أجل المستقبل لدى النظام القائم أصبح التاريخ نفسه موضع صراع والواقع نهبا للأطماع وغاب التفكير في المستقبل.
إن الثورة التي لا تملك فلسفة للحكم ولا تقودها نخبة ولا يؤطرها تنظيم إنما هي مشروع تخريبي. أما حين يستولي عليها المرتزقة والمنحرفون والمغرضون والفاسدون فتصبح جريمة موصوفة
لقد كانت الثورات العالمية الحديثة وليدة حراك فكري وسبقها أو رافقها ظهور تيارات فلسفية ونزعات عقلية قادها عمالقة الفكر والفلسفة وبذلك طبعت تلك الثورات العالم الحديث بطابعها الإنساني والعقلاني وأصبحت منارات تاريخية لشعوبها وللعالم. أمّا ما يجري في المنطقة العربية فقد سبقه القحط الثقافي والجمود الفكري بالإضافة إلى موقف العداء من الفلسفة والفن والجمال ومن هنا غياب أيّ دور للنخبة حاملة الفكر الحداثي. ورغم ظهور رموز فتيّة رافقت تحركات الشارع في بداية الأمر فقد خلا الجوّ للشيوخ والقادة الدينيين الذي أعادوا الجماهير إلى صراعات القرون الوسطى واستعادوا المعارك المذهبية والطائفية ممّا طمس الروح الشعبية لهذه التحركات في وقت وجيز وسهّل التلاعب بالشارع عبر وسائل الإعلام الخاضعة لسلطان المال أو لمال السلطان.
وسرعان ما ابتكرت عناوين تسويقية جذابة للتحولات الجارية تلائم القوة الفاعلة "الربيع" العربي و”المعارضة” و”الجيش الحر” والثوار” وانبرى كل طرف يؤيد القوى التي تخدم مشروعه التجاري أو المذهبي أو النفطي. وكان من نتيجته أن برزت تيارات دينية سلفية تسيطر على الفضاء العام: الشارع والشاشة والإعلام الجديد من خلال السيطرة على التكنولوجيات الحديثة. وعملت على إسقاط الرموز السياسية مع الاحتفاظ بجوهر النظم القمعية التي تستخدم اليوم أرقى التكنولوجيات لتسويق أكثر الأفكار والمواقف تخلفا. وفي نفس الوقت تستخدم الآلية الديمقراطية لتمكين أكثر الجماعات الدينية تطرفا من الحكم باسم الديمقراطية وسرعان ما تنقلب على المبدأ الديمقراطي ليتم تعزيز القمح السياسي بالقمع الديني. وفضلا عن ذلك برزت تيارات ميركانتيلية تتاجر بالموارد والمبادئ، وتيارات انتحارية تشكلت في السر وتحررت بعد سقوط القوى الاستبدادية المنهارة وتغوّلت بفعل التدخل الأجنبي المباشر أو المسانَدة المحلية. وهكذا لم يتمخض التحول عن تحرير المواطن بل استبدل رعبا برعب وخوفا بخوف.
وفي كل هذه الاتجاهات و"المشاريع" ظل الغائب الأكبر هو مشروع العقل والعلم والعدل.. فلم يمنع العنوان العام من تحويل الأحداث إلى خريف إسلامي في مصر وتونس و”شتاء أطلسي” في ليبيا وإلى دمار شامل في سوريا واليمن.
إن الثورة التي لا تملك فلسفة للحكم ولا تقودها نخبة ولا يؤطرها تنظيم إنما هي مشروع تخريبي. أما حين يستولي عليها المرتزقة والمنحرفون والمغرضون والفاسدون فتصبح جريمة موصوفة. وحين يمعن الإعلام في التمويه والتضليل خدمة للقوى النافذة وللقوى الفاعلة فإن الجريمة تصبح مضاعفة.
تراجع خطاب العقل والجمال
ما يلفت الانتباه في التحولات الجارية هو تراجع القضايا ذات الأهمية التاريخية مثل قضايا التحرر واستعادة الأرض والموارد وقضايا الحقوق والحريات والرقيّ الاجتماعي والعدالة الاجتماعية في منطقة ما زالت تعاني من الفقر والجهل والأمية والقهر الاجتماعي والتمايز الفئوي والطبقي والمذهبي والطائفي. وبنفس القدر تراجع خطاب العقل والجمال.
وفي الواقع تلقّى الخطاب الثقافي العقلاني ضربة قوية بصعود التيارات السلفية التي تبرأت من العقل والعقلانية وبرعت في تصوير العقل على أنه أجنبي وتحديدا غربي. وساد في العقود الأخيرة خطاب يمجد “العودة” إلى الذات بالتخلي عن كل خطاب عقلاني باعتباره جريمة فكرية لا تغتفر. وفي هذا الصدد تمثل حادثة منع محمد أركون من إلقاء محاضرته عن العقل العربي وإنزاله من منصة “مؤتمر الفكر الإسلامي” في الجزائر في العام 1985، من طرف محمد الغزالي وتلميذه النجيب يوسف القرضاوي، حدثا رمزيا يؤرخ لانقلاب الوضع وسيادة التيار الفكري السلفي الرافض للعقل وللعلوم الحديثة. ولم يكتف الشيوخ بمقاطعة المحاضر المرموق والتشويش والحكم عليه بالردة بل طالبوه بإعادة إعلان إسلامه والتلفظ بالشهادة أمام الملأ لا لشيء إلا لأنه طبّق منهجا علميا في دراسته للنص الديني.
لم يعد الأمر يتعلق برفض “الآخر” الأجنبي فقط بل رفض المختلف ولو كان من نفس الثقافة. ولم يعد الأمر يتعلق برفض العلم والعقل فحسب بل يتعلق الأمر بتكفير الفكر واستتابة العقل باعتباره خروجا كليا عن الدين. وقد ترتب عن هذه “الانتصارات التي حققتها النزعات الدينية هو تحوّلها إلى حركات “سياسية” تسعى لإقامة دولة “الإيمان” بديلا لدولة العقل والعلم والعدل. وقد استفحل أمر تلك الحركات في الجزائر خلال فترة التسعينات على مرآة ومسمع -وربما بمؤازرة بعض القوى الرامية إلى توظيفها- ثم ها هو الأمر يتكرر مع نفس الحركات في البلدان التي مسّتها الأحداث في السنوات الخمس الأخيرة.
القوة الناعمة في مواجهة الجاهلية السياسية
في خضم تحركات الشارع في غياب العقل الفكر المستنير سرعان ما وجدت المخابر الغرب بدائل فعالة لرموز الماضي القريب: بدائل للزعامات السياسية وحتى لرمز الإرهاب الذي جعلت منه الدعاية بعبعا عالميا: أسامة بن لادن؛ فتم الإعلان عن مقتله ورمي جثته بسرعة في البحر ثم نسيه الجميع في خضم التحولات المثيرة التي انطلقت على جبهات عديدة في المنطقة. ثم استتبّ الأمر على عدة بدائل ضرورية من أجل إخراج الأمر بشكل تقبله المرحلة:
* نظم متهاوية لم تفلح في التنمية ولا في حماية السيادة ولا ضمان مشاركة الشعب في السلطة مما يجعلها أخف من الريشة في مهب الريح.
* حركات إسلامية تسعى للسلطة بلا مشروع سياسي حقيقي مما يجعلها قابلة للتوظيف والتلاعب.
* الهيئات الدولية جاهزة لضبط التفاصيل ومتابعة الأحداث ميدانيا و-إن اقتضى الأمر- القيام بالأعمال العسكرية.
* الجامعة العربية على استعداد لمنح غطاء “الشرعية العربية” للقرارات التي تتخذ على مستوى دولي.
* أموال النفط متوفرة لشراء السكوت الدولي والمحلي على نظم القرون الوسطى ولدعم التدخل الأجنبي لقلب النظم الجمهورية.
* تعميم نظام الإخوان في الوطن العربي بعد إسقاطهم في مصر وتونس خدمة لمصالح الغرب الذي أفلح في استخدامهم في أفغانستان ضد الاتحاد السوفييتي من قبل ويستعملهم ضد أوطانهم حاليا.
وبعد القصف الإعلامي والأيديولوجي المكثّف خلال الخمس سنوات الماضية ها هي ملامح الصورة تتضح شيئا فشيئا:
يكفي للنجاح في الانتخابات في أيّ دولة في المنطقة أن تعلن هذه الحركات عن إلغاء الرسوم الجمركية لزيادة الواردات وتصريف البضائع الكاسدة في الأسواق الغربية لتوفير مخرج لها من الأزمة وتخفيض الضرائب لصالح التجار وبائعي السلع المستوردة، وهذا ما تشترطه القوى الرأسمالية الباحثة عن أسواق جديدة. وفي نفس الوقت منع الخمور وتخفيض رحلات العمرة ومنع العمل في رمضان ووقفه أثناء أوقات الصلاة وتمديد أيام العيد وتنظيم الزواج الجماعي والسماح بتعدد الزوجات وإباحة زواج الكبير بالصغيرة زواج المسيار. وهذا فحوى البرنامج الانتخابي الموجه للجماهير المؤمنة التي فقدت عقلها السياسي الضروري للعيش المشترك في الدنيا واكتفت بأحلام دخول الجنة حسب وصفات حركات الإسلام “السياسي” الحديث.
والغريب أن النزق الذي ميّز حكام ما بعد ارتفاع أسعار النفط الذين اكتشفوا في عائداته مفعولا سحريا انتقل إلى حكام ما بعد "الربيع" الجميل الذين اكتشفوا مفعوله السحري في إدارة الوضع. فهل سيكون هذا مآل الأجيال الجديدة من العرب؟ فقد يكون كثير من العرب ضحية هذا المأزق التاريخي: جمهورية “دكتاتورية” بحكم الواقع في مواجهة حركات إسلام سياسي جاهلية، وكلاهما يحظى بدعم الغرب والأغلبية الخرساء التي لا تعنيها السياسة ولا السيادة أصلا.
ما يحدث في هذه الرقعة مترامية الأطراف يعيدنا إلى نقطة الصفر في مستوى الثقافة السياسية للنخبة الحاكمة والجمهور المتفرج معا: رسوب في امتحان الفكر السياسي وفشل في اختبار العمل الميداني. هزيمة العلم وانتصار الجاهلية السياسية. هذه محصلة المواجهة بين القوة الناعمة التي يوظفها العالم المعاصر والعودة إلى العنف والقوة المادية في المنطقة.
ما مصير العقل في وضع الاستحالة هذا؟ بل ما مصير هذا الوضع في غياب العقل؟