ظلال من الشك
في العادة تتفجر الثورة وتنتهي لتبدأ الدولة مرحلة جديدة نطلق عليها اصطلاحا “فترة النقاهة”، وعلى حد قول المفكر الأميركي كرين برنتون عام 1938 أن “فترة النقاهة تتميز بنكسة أو نكستين، وأخيرا تنتهي الحمّى ويستعيد المريض نفسه مرة أخرى، وربما يشعر بالقوة في بعض النواحي نتيجة التجربة، ويكتسب على الأقل مناعة لفترة ما ضد مرض مماثل. ولكن من المؤكد أنه لا يصبح كلية إنسانا جديدا، وهذا ينطبق على المجتمعات التي تقوم بثورة كاملة، فتخرج منها قوية إلى حد ما، لكنها لا تكون جديدة تماما”.
وثورات الربيع العربي أفرزت خطابا فكريا للأدباء يتسم بروح النضال ومقارعة الأحداث، ويمكنني التأكيد على نحو شخصي أن أدباء العرب أحرزوا منتهى التوفيق في خطابهم المجتمعي، فاستحالت كلماتهم إلى سيل دافق من المنطق وقوة الحجة أمام الدكتاتورية وأعوانها، حتى نراهم يأخذون بخصوم الشعب من كل أطرافهم، فلا يفلتون. فلقد ترك رواد الأدب والفكر للعرب إرثا عظيما من المواقف التي ترسخت في الأذهان حتى أن مواقفهم أصبحت ناموسا يسير عليه كل مفكر حر يشعر بآلام شعبه، ويمكننا استحضار شخصية مؤثرة كالشيخ “علي يوسف” الصحفي المصري الذي واجه طغيان خديوي مصر باستخدام الخطابة الأدبية التي من شأنها إلقاء ظلال الشك على مواقف الحاكم، ونشر روح التضامن الذي يستلزم أن يكون الكل يدا واحدة في نصرة الحق ودفع السوء، وكان ذلك انعكاسا لآثار الثورة العرابية عام 1881 على الفكر المصري والعربي في بداية القرن العشرين.
لقد شعر المثقف العربي بعد تفجّر الثورات الشعبية في تونس ومصر وسوريا وليبيا واليمن أن عليهم تبعات كبيرة تجاه مستقبل بلادهم، منهم من حذّر في أعماله من المصير الذي ينحدر إليه الوطن في محاولة منهم الاستفادة من دروس التاريخ المختلفة، ومنهم من أعلن انتصار الشعب على استبداد النظم الدكتاتورية التي قضت على أحلامه لعقود، وأن الثورات تعد انتصارا لدعاة الحرية على استبداد السلطان. وقد ترجمت كافة تلك المشاعر بعد ثورات الربيع العربي إلى أعمال أدبية ساهمت في إيقاظ الرأي العام كله، وفتحت الباب على مصراعيه أمام الطلائع المستنيرة لتشارك بالفكر والعمل فيما يتهدد البلاد من كوارث عملت الثورات المضادة على تفجرها، ولم يكن الشعب من جناتها.
ولكن ورغم ذلك النضج في الحالة الفكرية عموما، إلا أن هناك من حاول الإتجار بآلام الوطن لتحقيق شهرة أو مال، فظهرت العديد من الكتابات التي تتفجر مع حدث دون النظر إلى آثاره أو ظروف حدوثه، فيتسرع قلمهم بالكتابة عنه ويعرضون أنفسهم لانتفاء كتاباتهم بانتفاء الظروف التي ولدتها، فعلى سبيل المثال طبعت عدة أعمال أدبية خلال نفس الشهر الذي قامت فيه ثورة 25 يناير المصرية، مما دعا بعض المفكرين إلى نصح الأقلام الشابة الجديدة التي ترغب في الشهرة والمال على حساب الألم، بأن يحرصوا على كتابة أعمال تجسّد عمق الثورة وعمق التجربة التي تمثلها بعد فترة من انتهاء الحدث لتكون الرؤية أوضح.
ومن المعروف أن الثورة التكنولوجية الحديثة ساهمت كثيرا في فضح النظم الحاكمة وإثارة النقاش الإيجابي الذي ترجم في النهاية إلى ثورات لا مفرّ منها مهما كانت آثارها صعبة، فمن خلال المناقشات في غرف الدردشة المغلقة أو مجموعات التواصل على فيس بوك وتغريدات تويتر، ظهرت روح إيجابية جديدة تجاه مسائل البلاد المصيرية.
وبفعل الثورات العربية تحولت النقاشات على مواقع التواصل الاجتماعي من الطابع السطحي الذي يناقش الأحداث على حذر وخوف من بطش الحاكم إلى طابع البحث والاستقصاء والتحرّي الدقيق عن سياسة الحكومات وممارساتها العدائية تجاه الشعوب، ودراسة المواقف بعناية واهتمام بصورة تختلف كثيرا عن سياسة التهاون واللامبالاة التي كانت في الماضي، وهو الأمر الذي أعتقد شخصيا أنه لا رجعة فيه أبدا، فالثورة التكنولوجية الحديثة حرّكت المياه الراكدة التي لن تستقرّ حتى تتحقق أحلام الشعوب كافة في عالم حر كريم.
كما أفادت الثورات العربية علم التاريخ كثيرا في كشف حقيقة بعض الأحداث التاريخية الماضية والتي تشابهت في مقدماتها وأحداثها ونتائجها مع مقدّمات وأحداث ونتائج بعض الأحداث الراهنة، بل وإننا أصبحنا نتوقع نتائج حدث على خلفية معرفتنا بما يتشابه معه تاريخيا، وعلى سبيل المثال حجم التشابه بين أحداث 1954 في مصر بعد ثورة يوليو 52 وما حدث خلال الفترة الانتقالية التي قادها الجيش المصري في أعقاب ثورة 25 يناير 2011، وكذلك التشابه بين إدارة الرئيس السوري السابق “حافظ الأسد” لأزمات سوريا بعد توليه الحكم مع ما يرتكبه ابنه بشار الأسد من مؤامرات وجرائم تجاه الشعب السوري، مستفيدا من الدروس التي تغلغلت أفكارها في عمق النظام السوري من أيّام حكم حافظ الأسد. بل إن تفسير مواقف تاريخية غامضة لبعض الجماعات السياسية والدينية اتضح تماما بعد الاحتكاك المباشر بهم. ومن هنا كشفت الأحداث الراهنة حقيقة ما كان يجري في الماضي بوضوح دون تزييف.
والواقع أن المرحلة التاريخية التي مرّت على العالم العربي في أعقاب ربيعه، لم تكن تسمح بأكثر مما تحقق، انطلاقا من حقيقة أن الواقع الاجتماعي والسياسي والحضاري، واهتراء القيم والقناعات والتراكم الثقافي، والتطورات البطيئة في الحراك المجتمعي، لم يكن بالنضج الذي يؤدي إلى إدراك أعمق للمشاكل الاجتماعية والسياسية والثقافية، وينعكس بدوره على الثقافة والفكر. وهنا يرى الكاتب والمفكر السوري الدكتور إلياس فرح أن “الثورة والفكر كائنان حيان متحدان ضمن وحدة أوسع وأعمق هي المعاناة، وإن ابتعدت الثقافة عن مصدر الإلهام يحدث التزييف الثوري والتشويه الثقافي”، والذي بدوره يصبّ دوما في صالح النظم الاستبدادية التي تحاول امتطاء جواد الثورة والانطلاق به لتحقيق مصالحها، وهو ما حدث على سبيل المثال في مصر وتونس خلال الأعوام الخمسة المنصرمة، وعلى الرغم من ذلك، فإن الربيع العربي بعد اكتماله وتقدّمه نحو تحقيق أهدافه سوف يفجر إبداعا ثقافيا وفكريا يضع الحلم العربي في إطاره الفكري والتاريخي المناسب مهما طال الزمن.