الوعي الشقي
لا يمكن أن نجاري بعض الذهنيات التي تعشق الوصف المتسرع، لهذه المرحلة من تاريخنا المعاصر، فالتوصيف الذي نزل عليها بحسبانها ربيعاً عربياً هو وصف بعيد عن الواقع، إذ تحرك كلمة الربيع دلالات القوة، والولادة، والفرح، والحياة، والمعنى والمستقبل والتكاثر، وتنشّط هذا اللفظة، الحواس الخمس والخيال وخاصة الرغبة في اختراق جدار الموت من أجل البقاء طويلا في الزمن . إنّ الواقع يشي بأنّ ما حدث فعلا، هو مجرد تغيير عُنفي كان لزاما على الوطن العربي أن يمر به، بعدما بدأت الروائح الكريهة تخرج متدفقة من البطون المنتفخة لهذه النظم المتسلطة التي طال ليلها، وكذلك من جوف الثقافة العربية التي كانت ثمرة طبيعية لعصور من الهيمنة الكولونيالية وسيطرة الدول الوطنية التي تأوّلت الاستقلال على أنه وصاية مطلقة على الشعوب القاصرة رغما عنها وهي تحدثها بلغة التمنّن.
غير أنّ هذا التوصيف الذي أتمسك به على مستوى التحليل، باعتبار ما حدث هو مجرد “تغيير عُنفي”، لا يمنعني من استقراء أثر هذا التغيير على ثقافة الناس في الوطن العربي عموما، لأنّ التغيير الحقيقي هو الذي ينبغي أن يطال البنية الثقافية العربية في أعماقها وفي مرجعياتها التاريخية، إذ أنّ الذي تغيّر فعلا هو الانتقال من رؤية تمجّد الفرد المطلق الذي يتمظهر في شيخ القبيلة، عمدة القرية، رئيس الحزب الأبدي، ربّ الأسرة المتأله، المثقف الذي لا سلف له وفي حدود معرفته ينتهي التاريخ ويتوقف الزمن، بالنظر إلى ذهنيته المغلقة على نفسها، إلى رؤية طفقت تشتغل وإن بصورة محتشمة وبطيئة، تتمثل في تفكيك هذه البنية التسلطية التي انغرست في المفهوم والرؤى وكذلك اللّغة المتواجدة باستمرار في الممارسة اليومية للإنسان العربي، بحيث دشّن الخطاب العربي مرحلة جديدة من التأويل الوجودي، إذ أصبح الفرد العربي يتحدّث عن الحرية، الحق في إبداء الرأي، الرغبة في الاعتراف الإيجابي، البحث عن مواطن وضمانات الكرامة، الذهاب رأساً صوب تحصين الحياة الخاصة، والخوف من كلّ حديث يستبطن نزعة التسلّط على الآخر التي ترغب في العودة دوما إلى ربوعها الأولى.
من هنا لم يكن غريباً أن تنفتح الحياة في الوطن العربي على مسائل حداثية كانت فيما مضى محرمة على أيّ فرد أن يتفكّر فيها، مثل مسألة التداول على السلطة، الحقّ في النقد، وطرح قضايا الدين ومظاهر التديّن على طاولة التشريح الفكري بأدوات معرفية معاصرة، والتوجّه صوب إعادة النظر في علاقتنا بالتراث السياسي الممجد للحاكم الأوحد، وظهور مثقفين جدد يتحكمون في تقنيات الصورة، أي ما يسمى بمثقفي الإعلام.
بهذا الحديث لا يمكن أن نأمل في عصر حداثي بامتياز، وإن كانت هذه الإرهاصات تمنحنا أملا بقدوم زمن يكون أفضل ثقافيا وسياسياً، لأنّ مسألة التغيير ما زالت في مرحلة تشكّلها الأولي، ولم تنتقل بعد إلى مرحلة النضج وجني الثمرات، وبمجرد أن يتحرك الوعي صوب هذه القضايا ويبدأ في مقاربة الأسئلة الحارقة، والذي يعتبر في نظرنا علامة فارقة على أنّنا لامسنا موعدنا مع التاريخ البشري العام الذي يسبح منذ زمن الحداثة الكبير في محيط الحرية، ونتقاطع معه من أجل أن نتحرر من أغلال وقيود العبوديات الجديدة، ومن عمق هذا الحدث فهم الغرب ولأوّل مرة أنّ الشعوب العربية هي بدورها شعوب جديرة بالحرية والمسؤولية والكرامة والمواطنة، ولها الحق في أن تطرح رؤيتها الوجودية في هذا العالم.
على أساس ذلك، ومن وحي هذا التوجه الذي يرمي إلى تقصي الخلخلة التي حدثت في الثقافة العربية، بعد التغيير العُنفي، نستطيع أن نتحدث عن مآلات إيجابية لهذا الفعل حيث أنّه فعّل وبشكل مكثّف مقدرة المعارضة الثقافية في تبيان مساوئ الحكم المطلق، وفي تنوير العقول التي عاشت طويلا في زمن الوصاية والدونية، غير أنّ هذا الحديث المتفائل لا يعفينا من توجيه سهام النقد إلى هذه الكتلة الثقافية المرتبطة بمفاعيل السياسة والاقتصاد والاجتماع، وإلى البُنى التربوية التي ما زالت تترعرع في فضاء الدكتاتورية، لأنّ الأمر يرتبط مباشرة بمستوى عميق من بنية هذه الثقافة العربية، فهي لم تبرح بعد معجمها اللغوي الذي يمجد الاستقرار المميت ويتوجس خوفاً من الأفعال الفردية المتميزة التي تريد التغيير وتبحث عن المعنى في وسط الظلام، وتتكئ على موروث فقهي تشكّل في ظروف تاريخية محددة، وهي تدرك أن زمنه انتهى، ولكنها تعض عليه بالنواجذ لأنّه يمنحها السلطة الدينية المطلقة على رقاب الناس ومخيالهم التفكيري، وتسلّط كما يقول إدوارد سعيد هراواتها على رؤوس الأحرار الذين يفكرون بطريقة مخالفة لما هو سائد.
في هذا الفضاء الذي تجتمع فيه النقائض، حيث يمكن أن نرى الحسن كلّ الحسن في هذا المتغير العُنفي، ويمكن أن نرقب عن كثب بعض القبح في ثناياه، فالأمر يتمرّد على التصنيف الثنائي أي بين الرؤية الملائكية والنزوع الشيطاني، ووفق هذا التمشي يتنزّل الخطاب التحليلي الذي يرى في التغيير العُنفي ثمرة مفاعيل تاريخية هي في النهاية حصيلة نشاط إنساني خالص، يمتلك القابلية للتأويل المزدوج والشقي، بحيث تؤدي بنا القراءة إلى الحديث عن هذا الحدث، ولكي نفك طلاسمه علينا أن نفهم أنّ الفكر العربي بدأ في الانخراط داخل مسار الندم على فعلته التغييرية العُنفية، فهناك بعض الأصوات التي بدأت ترفع بكل جرأة شعار عودة الأنظمة السابقة، أو في الرجوع إلى الماضي الذي كنّا نشتكي منه وننزعج من وجوده وحضوره وسطوته القاتلة، وهي في الوقت ذاته تريد أن تنجز شيئاً تلتحق به ومن خلاله بحقل الحداثة، أي أنّها تعيش في منطقة بينية تريد إنجاز الوثبة الحضارية المنتظرة وترغب في الرجوع إلى الأزمنة البائدة.
الثابت في هذه المسألة هو أنّ تحليل أثر ما يسمى بالربيع العربي هو في حدّ ذاته معضلة كبيرة، لأنّ كل القراءات ممكنة وواردة، وفي ظلّ غياب النصوص الكبرى ذات التوجه التأسيسي يمكن لكلّ التحليلات أن تأخذ لها مكانا في هذا الفضاء الثقافي، ومرحلة الفكر التي يتخبط فيها الوعي العربي تُضاعف من الأزمة وتَرفع من كثافتها المعرفية الغامضة.