المفاجأة
السبب الثاني الذي يتقاطع مع السبب السابق، يتعلق بطبيعة هذه الهبّات الفجائية التي حدثت على شكل انفجار شعبي، مع غياب القيادات الفكرية والسياسية، التي تقودها وتمتلك مشروعا وطنيا بديلا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، يحول دون قيام الفراغ السياسي، الذي عملت رموز الدولة العميقة على استغلاله لاستعادة مواقعها والانقضاض على مكتسبات هذه الانتفاضات. لقد اعتقدت هذه الانتفاضات الشعبية أن إسقاط رأس النظام، يشكّل مدخلا لعملية التغيير متجاهلة، بنية الدولة العميقة من جهة، ومن جهة ثانية متناسية حاجتها إلى مشروع وطني متكامل، يتجاوز إطار الشعارات العريضة التي رفعتها، إضافة إلى وجود حامل سياسي واجتماعي قادر على ملء هذا الفراغ، والنهوض بمسؤولية قيادة عملية التحول السياسي، من دولة الاستبداد والفساد، إلى دولة القانون والحريات والعدالة والمواطنة.
لقد أسهمت جميع هذه العوامل في ظلّ حالة الإفلاس السياسي والجماهيري الذي تعيشه الأحزاب اليسارية والقومية، في صعود قوى الإسلام السياسي حتى بدا وكأن هذه الثورات هي ثورات إسلامية، إضافة إلى عودة رموز النظام السابق، ما أسهم في خلق حالة من البلبلة والصراع عملت على تعقيد صورة المشهد السياسي، وعلى تشرذم القوى التي كان عليها أن تلتفّ حول مطالب الجماهير المنتفضة، من أجل الحرية والكرامة، قبل أن تنشغل بكيفية تحقيق مكاسبها الحزبية والسلطوية.
ومما ساهم في خلق حالة الفراغ السياسي، هو السرعة التي سقطت فيها الأنظمة المستبدة في بداية الانتفاضات، ما وضع قوى الانتفاضة لا سيما الشبابية منها أمام تحديات كبيرة، لم تكن تمتلك الرؤية السياسية الناجزة لمواجهتها، إضافة إلى افتقارها إلى الانسجام السياسي والفكري، الذي يجعلها قادرة على إدارة عمليات التحويل باتجاه تحقيق الأهداف التي كانت ترفع شعاراتها، في الحرية والعدالة والديمقراطية. لهذا كان لا بد أن يخلق الواقع الجديد حالة من الإرباك والفوضى ساعد قوى الثورة المضادة والبنى الاجتماعية والإثنية القديمة، على استغلال هذا الوضع لتحقيق مكاسبها، مع غياب الرابط الوطني الجامع، وثقافة المواطنة، التي عملت دولة الاستبداد على تغييبها، واستبدالها بثقافة الفساد والانتهازية.
من هنا فإن الحديث عن تأثير الانتفاضات على الثقافة والإبداع ما زال مبكرا، خاصة وأن جميع الثورات، التي قامت في التاريخ احتاجت إلى سنوات طويلة، ومخاضات دامية وعسيرة حتى استطاعت الوصول إلى تحقيق أهدافها.
الانتفاضات والثقافة العربية
شكلت انتفاضات الشارع العربي مفاجأة حقيقية للمثقف العربي، على غرار ما شكّلته للشارع العربي نفسه، بعد سنوات طويلة من الاستسلام للواقع جرى فيها تكريس سلطة الاستبداد والدولة الأمنية العربية، التي كانت تهيمن على كل شيء في المجتمع والدولة، بما فيها الثقافة والعمل الثقافي. لكن هذه المفاجأة تحوّلت عند بعض المثقفين إلى صدمة حقيقية، عندما وضعتهم أمام اختيارين اثنين، إما الانحياز إلى مطالب الشعب المنتفض في الحرية والكرامة، أو الدفاع عن أنظمة الاستبداد، بدؤوا بخلع أقنعتهم القديمة، وارتداء أقنعة جديدة حاولوا من خلالها تبرير خيانتهم المكشوفة لمنظومة القيم الفكرية والأخلاقية، التي طالما ادعوا أنهم رسلها، والمبشرون بها.
على الرغم من الزلزال الكبير الذي أحدثته هذه الانتفاضات، فإن استجابات الكتّاب العرب وتفاعلهم مع هذه الانتفاضات، لم يكن في المستوى المطلوب، إذ لم يستطع الكثير من الكتاب العرب أن يستوعب طبيعة هذا التحول التاريخي
لم تكن هذه الفئة من القوميين سابقا، والليبراليين حاليا، هي الوحيدة التي اتخذت هذا الموقف، بل كان هناك مثقفو اليسار القومي والماركسي، الذين وجدوا أنفسهم عاجزين عن تجاوز حالة التكلس الأيديولوجي والسياسي، وممارسة أيّ نقد موضوعي لما آلت إليه تجارب أحزابهم، ومسؤوليتها عن حالة الخراب والتصحر السياسي، وانعدام أيّ شرط من شروط الحرية في مجتمعاتهم المقهورة. إن غياب الحس التاريخي والوطني عند هذه الفئة من المثقفين، معززا بخوفها من أن تصبح خارج التاريخ وعلامة من علامات الماضي المرذول، جعلها تعود إلى عقد تحالفاتها القديمة-الجديدة مع أنظمة الاستبداد حفاظا على دور مأمول لها، أو وجود مرتهن، أو مكاسب ستفقدها مع سقوط هذه الأنظمة.
وتندرج في هذا السياق فئة مثقفي السلطة، الذين كانوا جزءا من بنيتها، وأدواتها الحقيقية في خدمة مشروعها السياسي، لا سيما على صعيد تكريس الفساد داخل المؤسسات الثقافية، وتغييب الدور التنويري والنقدي للثقافة في المجتمع، وإضفاء الشرعية الثقافية على الاستبداد من خلال تخلّيها عن دورها في الدفاع عن حرية الثقافة والمثقفين. إن ارتباط هذه الفئة مع الاستبداد نابع من هذه العلاقة التي كرّست سلطتها ومكاسبها على حساب الوظيفة الحقيقية للثقافة في المجتمع.
على هامش هذه الفئات الثلاث تبرز فئة المثقفين الرماديين من أصحاب اللاموقف، وتنقسم هذه الفئة إلى قسمين، فئة عاجزة عن بلورة موقف واضح مؤيد أو معارض لهذه الانتفاضات، إما نتيجة لحالة الصراع التي تعيشها، لا سيما على صعيد وعيها التاريخي والسياسي، أو بسبب عجزها عن المجاهرة بموقفها المناهض، فهي مع الانتفاضات، ولكنها لا تجاهر به، بحجة الخوف من الفوضى تارة، أو أسلمة الانتفاضات، أو عسكرتها تارة أخرى. ويندرج في إطار هذه الفئة من الرماديين العديد من المثقفين السوريين على وجه التحديد، والذين حاولوا أن يخفوا وراء هذا القناع دوافع لا وطنية، لا تختلف كثيرا عن دوافع الفئة، التي ظلت تتحدث طوال مرحلة النضال السلمي عن قاعدة النظام الشعبية، ثم اتخذت من موضوع العسكرة مبررا لموقفها المناهض لهذه الانتفاضة.
التحول والوعي
أمام هذا التحول التاريخي الذي أحدثته انتفاضات شعبية واسعة ومتلاحقة، كان المثقف العربي عاجزا عن استيعاب دلالات هذا الحدث، ربما لأنه وجد أن هذه الانتفاضات قد تجاوزته، فظل يقف على هامشها، دون أن ينتقل من مرحلة الترقب إلى مرحلة الفعل، لأسباب كثيرة منها ما يتعلق بحالة الفساد الثقافي والانتهازية التي كرّستها مؤسسات ثقافة الدولة، وارتباط مصالح العديد من المثقفين بالنظام القائم، أو بسبب غياب المبادرة والخوف من صعود التيارات الإسلامية، التي حاولت أن تتصدر المشهد السياسي، أو بسبب حالة الجمود الفكري والعقائدي عند مثقفي اليسار.
لقد كان المثقف العربي إما مثقف سلطة أو مثقف حزب، أو مغيبا أو مضطهدا لمعارضته استبداد السلطة، ولذلك كان موقف المثقفين من هذه الانتفاضات محكوما بالاختلاف والتباين الكبير، ما انعكس سلبا على دور المثقف في هذه الانتفاضات، وقد زاد من ضعف هذا الدور أن أنظمة الاستبداد قد غيّبت دور المثقف طوال مراحل تاريخها، وجعلت من المثقف تابعا لها، وخادما لسلطتها، دون أن تمنحه أيّ دور فاعل ومؤثر تشعره بأهمية دوره في المجتمع.
إن هذا الواقع المفارق وما خلقة من حالة انقسام عميقة بين المثقفين، لم يمنع من وجود مواقف داعمة ومؤيدة من قبل الكثير من المثقفين العرب لهذه الانتفاضات ولمطالبها المشروعة، لكن وعلى الرغم من أهمية هذه المواقف إلا أنها لم تتجاوز إطار الدعم المعنوي الفردي، الذي لم ينتقل إلى الفعل والتأثير، من خلال تنظيم نفسها في أطر وروابط محلية وعربية تشكل جبهة ثقافية، تنهض بمهمة تعبئة الرأي العام وتفعيل مواقفه لمساندة هذه الانتفاضات، والتأثير في المواقف السياسية للبلدان التي تتواجد فيها، إضافة إلى التواصل مع التنسيقيات والروابط الثقافية في بلدان الانتفاضات لتأمين الدعم المادي والمعنوي لها، لتعزيز صمودها في مواجهة محاولات الالتفاف عليها، وحرفها عن مسارها الوطني التحرري.
الانتفاضات والأدب
على الرغم من الزلزال الكبير الذي أحدثته هذه الانتفاضات، فإن استجابات الكتّاب العرب وتفاعلهم مع هذه الانتفاضات، لم يكن في المستوى المطلوب، إذ لم يستطع الكثير من الكتاب العرب أن يستوعب طبيعة هذا التحول التاريخي وأهميته من جهة، بينما اكتفى جزء آخر منهم بمراقبة ما يحدث وانتظار ما ستنجلي عنه هذه المواجهة بين الجماهير المنتفضة وسلطة الاستبداد الحاكمة. كتّاب آخرون ممن اعتادوا على تسويق أنفسهم وأدبهم، ظلوا في المنطقة الرمادية دون أن يبدوا أيّ موقف يمكن أن ينعكس على امتيازاتهم ومكاسبهم، لذلك تجدهم يتصدرون الأنشطة والاحتفالات والجوائز الأدبية في كل مكان.
إن هذا الواقع المخجل لا يلغي مواقف العديد من الشعراء والكتّاب العرب، الذين انحازوا إلى هذه الانتفاضات منذ لحظتها الأولى، وواكبوا مسيرتها وتحوّلاتها، دون أن يتخلوا عن هذا الموقف المعبر عن إيمانهم بقضية الحرية والتغيير واستعادة الشعوب المقهورة لدورها في صنع حاضرها ومستقبلها. لقد انعكس هذا الموقف على الأعمال التي حاولوا فيها تجسيد معاني الثورة وبطولات جيل التغيير، لكن أغلب هذه الأعمال كتبت تحت تأثير حالة الفوران العاطفي والانفعالي الذي واكب مسيرة هذه الانتفاضات، بينما استطاعت تجارب شعرية وروائية أخرى، وإن كانت محدودة أن تتمثل الأبعاد الإنسانية والسياسية والاجتماعية لهذه الانتفاضات، وأن تستحضر المشاهد المروّعة لعنف سلطة الاستبداد وهمجيتها، في محاولتها لإعادة الشعب المنتفض إلى بيت الطاعة من جديد.
وعلى الرغم من دموية المشهد وتعقيداته وتداخلاته الإقليمية والدولية، واستنزاف هذه الانتفاضات في صراعات داخلية مفتوحة، فإن هذه الانتفاضات قد شكّلت تحولا تاريخا في الحياة السياسية العربية، أصبح معه من الصعب القضاء على هذه الروح الجديدة التي خلقتها، بعد أن استعادت الجماهير التي كانت مغيّبة ثقتها بقدرتها على مقاومة وإسقاط الأنظمة التي تتلاعب بمصائرها، ولا تحقق لها العدالة والحرية التي تنشدها. أمام هذا الواقع الجديد لا يبدو أن الأدباء والمثقفين العرب قد استوعبوا كثيرا هذا المتغير، الذي يجعلهم جزءا من معركة الحرية والتغيير التي تحاول قوى كثيرة داخلية وخارجية أن تعيقها عن تحقيق أهدافها.