انتهاء صلاحية الخيال
حينما يعلو دخان الحروب، ويرتفع بشراهة عجائبية، وتتعالى صرخات الإنسان تحت قسوة سياط الإنسان. حينما تتكاثر لغة الكراهية، والفرقة، وتتراجع لغة الإنسانيّة. حينما تُشحذ سكاكين الإرهاب، وتتراجع الأيادي التي ألفت المعاولَ وهي تحثّ الأرض على الاخضرار. حينما تُهدم شواهد حضارات بعمر الأرض، وتلغى دلائل إنسانيّة حضارية بعمر زمن الحلم الإنساني، حينما يألف الآدمي مشاهد الموت، وصدى العويل، ورائحة البارود، ويصبح كارهًا للبياض لأنه اعتاده رمزًا للأكفان، حينما تحدث كل هذه الأشياء فإننا على حق بأن إنسانيتنا بدأت منذ زمن تمضي نحو الهاوية.
هكذا يفكر الرّوائيّ، كأيّ إنسان، في لحظة الدّم، وفي زمن الخراب. وهذا ما يتبادر إلى روحه المترعة بأسى مرّ، جراء ما شوّه أحلامه، وما هشّم أمنياته بعالم حرّ أكثر من فكرة السماء ذاتها. وحينما يذهب إلى صفحاته متبوعًا بما يجري، يذهب وفي مسامعه تحتشد كل الأصوات التي تنزّ عمّا حدث وما سيحدث من مصائب آدمية. إنه ضجيج الكارثة وصخبها الذي عادة ما يجعل كتابته عبارة عن نشيج روائي. لهذا يصمت كثير من الرّوائيّين، وهم يكابدون مشاهد الموت، وانهيار بلدان أمام خسارات الإنسان لدفء وطنه، وأمام شهوة كونية في إعادة صياغة العالم وفق رؤى جديدة قديمة، أقيمت على مسلك التناسخ السّياسي الوحشي، في تخطي كل القيم الإنسانيّة وبلوغ مناشدهم المادية، دون أيّ اعتبار لأيّ قيمة.
يصمت الرّوائيّون انتظارًا لتلك اللحظة التي ينفجرون عبرها مساءلة للواقع الذي لم ينقذه السائد فيه من مآسيه، ولم يجنبنا هول الكارثة، حينها لن تكون المساءلة محض مساءلة عابرة، بل ستكون شرارة أولى لزمن جديد يكفر بكل ما مضى، لأن الهزات الكبرى عادة ما تنتج تغييرات كبرى. ولنا في التاريخ أمثلة كثيرة كالحربين الكونيتين اللتين أنتجتا طرائق وتجديدات وحداثات خرجت على كل السائد الذي لم يجنب الإنسانيّة آنذاك هول كارثة كونية مثل تلك.
أينما يمّمنا وجوهنا في العالم العربي ثمة قذيفة تلقى، وثمة إنسان يسقط. لذلك إن كتب الرّوائيّ فإنه يكتب إيقاع الكارثة العبثي، ويكتب الأحلام الضائعة بالعدالة والحرية والديمقراطية.