الارتداد قرونا إلى الوراء
إذا كان المقصود شخص الكاتب الذي يتم توجيه السؤال إليه، فسأتجاوز ذلك للقول إن المحن التي ينوء تحت وطأتها الوطن العربي مجتمعات وأفرادًا، تمثل في واقع الأمر انفجارًا للطاقات الشريرة والظلامية الحبيسة، التي كانت تتربص بارتسامات مشاريع التقدم العربية. الظلامية المتوحشة هي رد على مشاريع التمدن ومحاولات الدخول إلى العصر وعلى مطامح التنوير. رغم ما لحق بهذه المشاريع والمطامح من انتكاسات، وما اعترى طريقها من تعرجات حادة، إلا أن قوى الظلام ممثلة على الخصوص بتنظيم بربري مثل داعش، تبدو مصممة على تصفية الحسابات بطريقة صفرية، مع صبوات التقدم والإقامة في العصر أو مجرّد التساوق معه.
ومن جهة أخرى فإن هذا الارتداد قرونًا إلى الوراء واستلهام أسوأ ما في تاريخنا وتاريخ البشرية من مذابح ومن ازدراء لكرامة الكائن البشري، لم يكن مقيضًا له أن يتحقق لولا الإخفاق الذريع في بناء الدستورية المدنية الحديثة التي لا تجعل من مواطنيها مجرد رعايا ولا تدفعهم نحو الاغتراب في وطنهم، وتفتح أمامهم أبواب المشاركة وترسي ركائز العدالة والمساواة بعيدًا عن أيّ تمييز بما في ذلك التمييز الطبقي الذي يلفظ الفقراء والضعفاء والمتعطلين إلى هامش الهامش. وبعض هؤلاء كانوا هم المادة البشرية التي اجتذبها داعش.
على أن الاستبداد والطغيان ليسا قصرًا على أصولية ظلامية تستخدم على هواها لخدمة أهوائها. ينبئنا الواقع وتكشف لنا الوقائع أن بعض من يتجلببون بالعلمانية لا يرعوون عن الولوغ في الوحشية وحملات الإبادة، من المستوطنين الأوائل لأميركا الشمالية، إلى الرفيق ستالين إلى الفوهرر الألماني هتلر إلى بول بوت الكمبودي، إلى السلطان الأوحد في كوريا الشمالية، إلى النظام “القومي العلماني” في دمشق الذي نظمّ واقترف وما زال، واحدة من أبشع عمليات التقتيل والإبادة والتهجير ضد من يُفترض أنه شعبه. إنه النظام الذي لم يتوقف ساعة واحدة عن إطلاق النار على شعبه منذ الساعات الأولى للانتفاضة السلمية المدنية التي اندلعت يوم 11 مارس/آذار 2011 في سياق موجة الربيع العربي، وحتى يوم الناس هذا.
ولم يكن من قبيل المصادفة أن يلتقي النظام وداعش على أرض واحدة وفي بلد واحد، وضمن فضاء “فكري” واحد يستلهم أسوأ ما في التاريخ من نخبوية فاشية تزدري البشر العاديين، وتناصبهم العداء المقيت، وتستمرئ تحويل الأرض الطيبة إلى بلقع وقاعٍ صفصفًا يصدح بالخراب العميم، مع أخذ الطبيعة والعمران والآثار، وجرفها في الطريق.. طريق التدمير الشامل، الذي يفضي إلى التسيّد المطلق، والحضور المنفرد للنخبة الأصولية و”العلمانية” الفاشية السوداء، ودونما حاجة لبشر زائدين.
استبطنت واستظهرت أصولية سابقة ومستأنفة هي الأصولية اليهودية مثل هذا الوعي وهذا السلوك، ورأت أن شعب فلسطين زائد عن الحاجة. وها هي الوقائع اليومية تنطق منذ نحو خمس سنوات، بأن الفاشية السوداء المستجدة ترى في شعب سوريا كتلة زائدة عن الحاجة.
هذه الاندفاع الرهيب غير المسبوق نحو الإبادة الجماعية، يمتحن المبدعين والمثقفين العرب وبخاصة من ذوي النزوع القومي العربي والعلماني، وللأسف المرير فإن شطرًا غير يسير منهم أخفق في الامتحان، ووقف إما يتفرج، أو لم يتورع نفرٌ منهم عن مناصرة السفّاح (وأحيانًا بتحبيذ سفّاح على آخر).
ليكتب الرّوائيّون والمبدعون عمومًا ما يشاؤون في فضاءٍ من حرية التعبير والمواضعات الفنية التي يرونها ملائمة، ولكن ليأخذوا علمًا (في خلفية ما يكتبون) بهذه المستجدات التي يُصادف فيها الإنسان العربي العادي والبسيط أشرس أعداء له في تاريخه، ومن أبناء جلدته هذه المرة وليسوا من القادمين من وراء البحار.