كتابة أشبه بالنزيف
الرّوائيّ يشم رائحة الدّم قبل أن يُراق بسنوات طويلة، يستشرف نهاية التاريخ الدّموي للاستبداد السّياسي والدّيني قبل أن يعمُّ ظلامهما، وهو يتنبأ بمصائر طواغيت الدين والإمبرياليات العظمى أثناء انهماكهم في تقسيم خارطة العالم فيما بينهم، ويرفع طوال الوقت راية الشهداء والموجوعين والمظلومين الذين رحلوا دون أن يعرفوا حتى مدى الظلم الذي وقع عليهم، والمنسحقين تحت سنابك جشع هؤلاء الموتورين وغبائهم ولهوهم الإبليسي بمقدّرات شعوب الأرض ثم تنكيلهم بهم ليلًا ونهارًا، وكراهيتهم للحياة كلها بناسها وبحارها ونباتها وكافة مخلوقاتها وبشمسها التي يصرون على إطفائها.
قد يتوقف الرّوائيّ قليلًا بعد أن يرى تنبؤاته المرعبة تتحقق أمام عينيه، بل قد لا يستطيع رؤية الدّماء أو أشلاء الجثث المتناثرة هنا أو هناك، أو أن يتابع مشاهد بلد بعراقة وجمال سوريا وهي تتكالب عليها الضباع الآن. هو يعرف حجم الكارثة ولقد بُحّ قلمه من فرط الصراخ، يعرف مثلًا أنه ابن حضارة إسلامية أخرجت القبائل العربية ومعظم العالم آنذاك من الظلمات إلى النور ثم أصابها ما أصابها، تلوّث تاريخها السلطوي بالدّماء، وتوارثت بعض “العنعنات” التي يستحيل أن تمتّ للإسلام بصلة، ولكنها ــ ويا للغرابة ــ ظلت صامدة حتى هذه اللحظة تحكم المجتمع وتقوّض أركانه، ولقد تم التهاون معها حتى استيقظ العالم العربي والإسلامي منذ سنتين على كيان كاريكاتوري شائه، تم تأسيسه بشكل لا يخطر على بال الأبالسة نفسها، فلقد جمع مؤسسو داعش كل لحظات التاريخ الإسلامي الدّموية المظلمة ليصنعوا هذا المسخ الذي يكبر وهو يقطع رؤوس الناس ويضعها على صدورهم، وهو يدعو لجهاد النكاح وهو يتاجر في الجواري من جديد ويريد العودة إلى القرن الأول الهجري والصراع على الخلافة، وتحديدًا إلى زمن الفتنة الكبرى. وما كنا نقابله بالسخرية أو الصّمت في مثالب تاريخنا ندفع ثمنه الآن، حيث نشاهده حيًّا أمام أعيننا.
يعرف الرّوائيّ أن سوريا قُدر لها أن تكون مفتاح العالم العربي الجديد، سواء أكان هذا العالم انطلاقًا إلى آفاق أرحب لمستقبل أفضل، أو مجرّد المزيد من الأزمات التي ستنتشر في سماوات كل بقاعه.
قلب الرّوائيّ معلقٌ الآن فوق حدائق دمشق التي كانت غنَّاء، وقد يستطيع أحيانًا الكتابة عن كل ذلك وأكثر، ولكنّها تكون كتابة أشبه بالنزيف المستمر الذي لم يتوقف بعدُ هناك.