من الكهف إلى البحر
المشهد الذي رأينا فيه الآلاف من المهاجرين السوريين يلقون بأنفسهم في البحر فرارًا من واقعهم المأساوي، هو مشهد رمزي أيضًا. يعجز الإبداع السردي عن تخيله، وسبر أغوار تفاصيله النفسية وتضارب مشاعر أصحابه بين اليأس والرجاء. لكنه في النهاية يعني رفضًا للواقع العربي بكل زمانه ومكانه. في حياتي لم أر مشهدا دالًا بهذا العمق. رسالة واضحة تقول: انظر وراءك بغضب. عندما تصل الرسالة إلى أيّ مبدع، فمن العار أن يبقى واقفًا في مكانه، أن يمضى يكتب بنفس الطريقة ويراهن على نفس الرهانات التي تغازل قوائم البيست سيللر، ومانحي الجوائز. أول ما يمكن أن نفعله هو أن نغضب من أنفسنا، أن ننفض ما بداخلنا من أجداث. وهذا يحتاج أن نرى بعمق ونفتح الصندوق الأسود الذي بداخلنا، هذا موقف يعني أن نتخلى عن خطابنا التقليدي كوننا ضحايا الآخرين. أنا شخصيًا أدركت هذا وتدرّبت عليه خلال عامين كاملين من الالتحام بالواقع الثوري في ميدان التحرير، أدركت تشوّهات النخبة، وسطحية وعيها، وانتفاخها بالشعارات. أدركت واقعى النفسي ومسؤولية نفسي عن واقعي. توقفت عن الكتابة، وشعرت بغربتي وأنا أرى زملائي ينهمكون في إصدار الكتب ويسوّدون صفحات الجرائد والمجلات، كأن الثورة مهرجان للتسوق وليست مواجهة عنيفة مع ذواتنا. هكذا نفكر طوال الوقت، أننا ثرنا على الآخرين، لأنهم مسؤولون عمّا نحن فيه، عنا. نوع من التطهير الدرامي ونفاق الذات. أعترف، كنت أشعر بالفزع من هذه الأفكار التي استبدّت بي، وغمرتني حتى لم أعد قادرًا على كتابة حرف واحد. وكان الفزع يتوغّل بداخلي وأنا أتابع هذا الكمّ الكبير من الأعمال الأدبية التي صدرت عن الثورة. أعتقد أن ما حدث لي أشبه بهجرة إجبارية إلى المجهول الخطر كهجرة السوريين وهم يقطعون آلاف الأميال، وينظرون وراءهم بغضب. هجرة داخلية، تدعوني لاقتحام أراض جديدة في وعيى بذاتي. وبعد ثلاث سنوات من بداية الثورة أصدرت كتابي السردي “لمح البصر” كحالة من التكثيف الشعوري لكل ما مررت به في حياتي. إنصات دقيق لواقعي الأعمق. هذه ليست قصصًا بالمعنى التقليدي. إنها حالة من النظر بالداخل تعتمد تقنيات الحلم وآلياته، متحررة من سطوة الزمن والمكان. مساحة أكثر رحابة للرؤية. يقول الناقد الكبير شاكر عبد الحميد عنها “إنها رحلة الذات وهى تنتزع نفسها من الكهف إلى الطريق”.
بعد أن خضت هذه الرحلة، رأيت في ذاتي إمكانات أكبر كثيرًا من روائي، فلم أشعر بالاغتراب وأنا أشرع الآن في كتاب جديد “عملية تذويب العالم” تأمّل للتاريخ والجغرافيا والثقافة. قراءة للسرديات الكبرى التي صنعتنا، أحتاج أن تصبح الكتابة تأمّلًا وقراءة للواقع وليس مجرد الحكي عنه، هذه هجرتي الداخلية، بعد أن خرجت من الكهف. سأتجه مباشرة إلى البحر.