الرواية ليست تأريخًا
إنّ الإبداع العربي منذ بداية تشكله هو ضحية القمع والاستبداد الذي يُمارس عليه من قبل الأديان والأنظمة الحاكمة. فما تواجهه الأمّة الآن ليس حالة عجائبية أو جديدة، فمنذ تشكّل الوعي العربي وهو يتلقى الصدمات الواحدة تلو الأخرى حاله حال الأمة إلى أن تحولت هذه الصدمات وآليّة مواجهتها جزءًا من نمط التكوّن الاجتماعي والثقافي العربي.
لذلك فأنا لم أُفاجأ بما يقع الآن من أحداث وإن كانت أكثر دموية. إنّ ما يحدث هو نتاج طبيعي لما تشكّلنا عليه من خلال موروثنا الثقافي، فكل ما يدور في بلادنا هو تكرار لسلسلة الأزمات التي عاشتها مجتمعاتنا نتيجة لتغييب العقل وتحكيم قيم التخلّف، فنحن نرى الواقع الحالي هو الأكثر سوءًا لأننا مشغولون فيه بعيدًا عن انشغالنا في قراءة مجمل تاريخنا العربي على نحو علميّ موضوعيّ.
لا أرى بأننّا نعبر في مأزق مختلف، كلّ ما في الأمر أننا نعيش شكلًا جديدًا من أشكال الاستبداد والقمع الذي يُمارس علينا، ليس من قبل الأنظمة الحاكمة والاستعمار وحسب بل من خلال شخصيتنا التي تمّ تدجينها فأصبحت مشاركة في قمع ذواتنا.
إنّ الاستبداد السّياسي هو سلوك طبقي عالمي الهوية لكن ما تعانيه ثقافتنا ومجتمعاتنا هو استفحال الاستبداد الدّيني واستغلال الأنظمة الحاكمة الذكيّ لهذا التخلف حتى نظل منشغلين بحروبنا الخاصة.
على ضوء هذا التشكل فإنّ الرّوائيّ لن تصدمه الأوضاع الحالية، وقد يكون هو الأقلّ خوفًا من نتائجها، لقد تحوّل المبدع عندنا طبيعيًا إلى كائن متكيّف مع حلقة الأزمات المتواصلة التي تُستولد بلا انقطاع.
ما أمارسه في فعل كتابي لن يتغير بفعل هذه الأحداث لأنّ ما أكتبه هو فعل غير مرهون بحدث أو ظرف، الرّواية عمل ينبع من جوهر الأشياء وليس من خارجها، وعليه فإنّ الواقع الحاضر الذي يُنتج أدبي هو الواقع نفسه الذي أنتج ما كتبته في الماضي.
ما يحدث اليوم يأتينا من ذات المنبع الرجعي نفسه وقد فرض على مجتمعاتنا أن تظلّ متخلّفة وجامدة منذ عصور. فالرّواية ليست تأريخًا ولا أدب مناسبات بل هي انعكاس لواقع مجتمعاتنا المرتبكة والمتخلّفة والرجعية في الكثير من سياقاتها الثقافية والحضارية، وإن حالة الارتباك التي نحن فيها الآن خطوة مهمة تدفعنا إلى الأمام، فهي مرحلة إعادة النظر، ومرحلة وضع الأسئلة والبحث والاستكشاف، إنّ هبّة التخلّف الفكري والعقائدي التي تجتاحنا اليوم تعيش في نزعها الأخير بعد أن عاشت أكثر ممّا يجب منذ أن بدأنا معاركنا من أجل الاستحواذ على السلطة، وفيما سبق جدلنا الفكري عربيًا وإسلاميًا منذ أيّام المعتزلة.