لحظة الحقيقة
إنّها لحظة فارقة في عمر المجتمعات العربية، والمشرقية عمومًا، لحظة يصبو فيها عشّاق الحرّيّة إلى تباشيرها، يضحّون من أجل الوصول إليها، يؤمنون أنّ الخلاص لا يكون إلّا بالتحرّر من شتّى صنوف الاستبداد والاستغلال والتجهيل. والرّوائيّ باعتباره نتاج هذه المجتمعات، ويفترض به أن يعبّر عن رؤاها وتطلّعاتها، يكون ملتزمًا بمناهضة المستبدّين المجرمين بما أوتي من فكر، ولا يفترض به التهرّب إلى عوالم فانتازية في زعم البحث عن مقولة الفنّ للفنّ، وهي في واقع الأمر تنمّ عن تهرّب من الاستحقاقات وتملّص من المسؤوليات الأخلاقيّة.
الرّوائيّ اليوم يشهد ويعاين واقع التدمير الذي يقترفه المستبدّون بحقّ الدول والشعوب، وتحالفهم الشيطانيّ مع أتباعهم وشركائهم من المتاجرين بالدين، لإدامة أحوال الجهل والتخلّف، وتعبيد الطرق أمام استمرارية السيطرة والهيمنة والتفتيت، يجد نفسه وجهًا لوجه أمام امتحان الضمير واختبار الولاء لإنسانيته وأدبه وفكره. ولا يكون أمامه ترف اختيار الانزواء أو زعم العزلة، لأنّ هذا هروب من المواجهة، وإيثار سلامة بائسة، وخيانة لرسالة الأدب الإنسانيّة.
في واقعنا السوريّ، وبعد أن جاهد النظام الإجراميّ لتحويل ثورة الحرّيّة والكرامة إلى حرب أهليّة، في مسعى بائس للمحافظة على جزء من بنيته الفاسدة، من دون أن يولي أيّ اعتبار لوحدة البلاد وأرضها، يكاد يكون من باب الاستحالة غضّ الطرف عن هذا التدمير كلّه، ولا بدّ من فضح المجرمين وتعريتهم، بالكلمة والصورة والحرص على متابعة ذلك، لأنّ الإيمان بقوّة الكلمة وقدرتها على التأثير والدفع باتّجاه إحداث تغيير في الرأي العام، يظلّ ركيزة من ركائز المبدع وركنًا أساسيًّا من أركان عمله ورسالته.
الكتابة الثوريّة لا تكون بتكرار الشعارات وترديدها، بل بالحفر في بنى الاستبداد وتظهير آثاره الدفينة والجليّة، ومواجهة المتطرّفين الذين يفتكون ببنية المجتمعات ويستقتلون لإعادة الزمن إلى الوراء، لأنّ من شأن أيّ تغيير أن يبدّد امتيازاتهم ويظهر عريهم.
لحظة الدّم اليوم لا تحتمل أنصاف المواقف، فإمّا أن يكون الرّوائيّ على قدر المسؤوليّة التي يكلّف نفسه بها بمجرّد قراره بخوض عالم الرّواية والكتابة، أو يمزّق أوراقه ويمضي إلى حقل آخر لا يوجب عليه أيّ موقف في مواجهة المستبدين السّياسيين والدّينيين. هي لحظة الحقيقة، والحقيقة لا تقبل أيّ أقنعة أو أكاذيب.