صراع الهويات وتجلياته في الفكر والثقافة والاجتماع
لكن الاندماج الاجتماعي مرهون بتحولات عميقة في الهيكل الأساسي للمجتمع، تفضي إلى مجتمع مدني، هو فضاء من الحرية، ودولة سياسية، تكفل الحريات الخاصة والعامة، وتصون الحقوق المدنية والسياسية لجميع مواطناتها ومواطنيها بالتساوي. قبل هذه العتبة المدنية، تظل الهويات المختلفة فضاءات خاصة مغلقة على ذاتها، إلى هذا الحد أو ذاك، بحسب ما يكون النظام الاجتماعي والسلطة السياسية. نلاحظ هنا أن النظام الاجتماعي البطركي أو البطركي المحدث، والسلطة المستبدة يتصاديان مع المنظومات الثقافية المغلقة. بل إن السلطة المستبدة، إذ تستثمر في اختلاف المنظومات الثقافية، فتسيّسها: تقرِّب بعضها، وتقصي بعضها الآخر، وتمنح بعضها امتيازات على حساب غيرها، (وفقاً لمبدأ: فرِّق تسد)، تحوِّل الجماعات الإثنية والمذهبية إلى عصبيات، على صورتها ومثالها، بما هي سلطة عائلة ممتدة أو عشيرة، ونواة عصبية موسَّعة، إثنية – مذهبية، أو حزب عقائدي. وذلكم هو جذر سياسات الهوية وصراع الهويات وأساسهما. فلا يزال مفهوم العصبية الخلدوني أداة ناجعة لتحليل النظم الاجتماعية – السياسية في العالم العربي [2].
المناخ العصبوي، حيثما تتجابه العصبيات، ينطوي على جملة من الإشكاليات، من أهمها إشكالية الهوية والذات، وإشكالية والتراث والمعاصرة، والعلاقة بالآخر المختلف، محلياً وعالمياً، وخاصة العلاقة بالغرب، (إشكالية الاعتراف المتبادل والثقة والتعاون)، علاوة على إشكاليات المساواة والحرية والعدالة، وعلاقة الفرد بالمجتمع والدولة، وعلاقة المجتمع بالدولة. وقبلها جميعاً إشكالية “الانتماء الجذري إلى النوع الإنساني بدلاً من الانتماء الهووي الصاخب والعنيف والمهزوز [3].
ولما كانت السياسة ممارسة فحسب، ولا تكون إلا كما يكون من يمارسونها، سواء كانوا في السلطة أو في المعارضة، فإنه لا يمكن فهم سياسات الهوية ونزاعاتها، إلا بالكشف عن المبادئ التي تؤسس السياسة. في هذا السياق، ثمة مقاربتان نميل إلى أخذهما في الحسبان معاً: المقاربة البطركية التي قدم فيها هشام شرابي إسهاماً مميزاً، ومقاربة “الشيخ والمريد”، التي بلورها عبد الله حمودي، إضافة إلى مفهوم العصبية الخلدوني، الذي طوره محمد عابد الجابري ومصطفى حجازي، من موقعين مختلفين. هذه كلها تشير إلى علاقة تاريخية بين العقيدة والسياسة، كشف كمال عبداللطيف عن جذورها في كتابه “في تشريح أصول الاستبداد”، ويمكن أن تساعد في اكتشاف جذور النزاعات الإثنية والمذهبية، على اختلاف صورها في الماضي والحاضر.
فما يجعل الهويات مغلقة وثابتة، خلافاً لطبيعة من ينتجونها، هو ترجمة رأس المال المادي (الناتج من العمل) ورأس المال الاجتماعي (الناتج من الفاعلية/الانفعالية) إلى سلطة فظة، وطاعة غير مشروطة، وترجمة رأس المال الثقافي إلى سلطة ناعمة واتِّباع طوعي غير مشروط أيضاً، ومنح هاتين السلطتين مقبولية عقلية وأخلاقية. يمكن إجمال هذه العمليات بترجمة الثقافة الهووية إلى سياسة هووية. ومن طبيعة السلطة أنها تحوِّل شروط إمكانها، أي علاقات القوة المبثوثة في فضاء الجماعة أو المجتمع إلى قوة مركَّزة ومركزية، وتحوِّل منتجيها إلى موضوع لهذه القوة، وأنها تبسط نفوذها على الثقافة تمهيداً لبسطه على الأشخاص، فتتحول المقبولية التأسيسية لدى هؤلاء، إمّا إلى طاعة غير مشروطة وإمّا إلى مقاومة غير مشروطة، سواء باسم الهوية ذاتها أو باسم هوية وهويات أخرى منافسة، واللامشروطية، في المبادئ والأهداف، هي ما يولّد التطرف والعنف.
إذن، تكمن جذور المشكلة الهووية في العلاقة التداخلية/التخارجية، لا الجدلية، بين الثقافة والسلطة، لأن صراع الهويات يلغي الجدل (الديالكتيك) والعقل الجدلي، ويستبدل بهما المساجلة والجدال، فلا يعود الواقع مرجعاً للفكر وضمانة للحقيقة، وبهذا تتشابه الأيديولوجيات. فما من سلطة مستبدة إلا كان همها الرئيس أن تحتكر الحقيقة، وتسيطر على المجال الثقافي وعمليات إنتاج الثقافة وإعادة إنتاجها، وكان مصيرها يتوقف على مدى نجاحها أو إخفاقها في ذلك. فالمستبدون لا يقبلون أن يكون هناك من هم أكثر غيرة منهم على “الثقافة” بوجه عام وعلى الدين بوجه خاص، ولذلك كانوا، ولا يزالون، بلاء ونقمة على المبدعين ودعاة الإصلاح [4]. وبهذا تكون السلطة هي العامل الرئيس في التوترات الإثنية والمذهبية وتطورها إلى نزاعات وحروب. والحالة السورية نموذج شديد الوضوح. فما كان للمجتمع السوري أن يظل جماعات هووية لو لم تكن السلطة كذلك، خاصة بعد أن احتكرت المجال العام وجعلت من الدولة “دولة البعث” ومن سوريا “سوريا الأسد”. فلا يقوم استبداد من دون عقيدة تسوّغه وتعقِّله.
نعني بالانغلاق الثقافي احتباس المثقفات والمثقفين في الأطر الأيديولوجية أو العقائدية: الإسلامية والقومية والاشتراكية، وقد غدت “هويات قاتلة” كالهويات المذهبية، ونعني بالانحطاط الأخلاقي شيطنة الآخر المختلف وتكفيره
ثمة إذن تضامن تاريخي بين العصبية والعقيدة، يجعل مصير العقيدة أو المذهب مرتبطاً بمصير العصبية وبالعكس، بهذا يمكن تفسير الانشقاقات المتتالية في “الإسلام”، وتراخي منظومات الانتماء والولاء أو تفكّكها، وتشكُّل عصبيات جديدة وظهور ملل ونحل جديدة. كما يمكن تفسير ما آلت إليه العقيدة الشيوعية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وعقيدة البعث بعد سقوط نظام البعث في العراق وترنُّحه في سوريا، والأمثلة الأخرى أكثر من أن تحصى. فالمناخ العصبوي، الذي وصفناه، يولّد استقطاباً اجتماعياً – سياسياً، يتظاهر في صيغة صراع أيديولوجي، لا ينجو منه المثقفون إلا نادراً، وينتج شقوقاً وفراغات في الهيكل الاجتماعي تتسرب منها الأطماع الخارجية، فيتعزز الاستقطاب الداخلي، وينجدل على استقطابات إقليمية ودولية تشوّه وعي المثقفين ونظرتهم إلى العالم، ومن ثم، إلى المجتمع والإنسان، وإلى المرأة خاصة.
وثمة تلازم لا يخطئه النظر العقلي بين صراع الهويات والتحاجز الاجتماعي وتعثر بناء الدولة الوطنية وبين الانغلاق الثقافي والانحطاط الأخلاقي. نعني بالانغلاق الثقافي احتباس المثقفات والمثقفين في الأطر الأيديولوجية أو العقائدية: الإسلامية والقومية والاشتراكية، وقد غدت “هويات قاتلة” كالهويات المذهبية، ونعني بالانحطاط الأخلاقي شيطنة الآخر المختلف وتكفيره أو تخوينه، والتنكر لإنسانيته، وهدر كرامته، واللامبالاة بحقوقه، بما فيها حق الحياة.
الهووية، بما هي انغلاق ثقافي وانحطاط أخلاقي، جعلت من الثقافة العربية المعاصرة ثقافةً سلفيةً وأصوليةً، وكانت ولا تزال العقبة الكأداء في طريق ارتقائها إلى الكونية والمعاصرة. السلفية والأصولية، وهما سمتان للعقائد القومية والإسلامية والاشتراكية، عند العرب، تنتجان التعصب والعنف، تدلان على عدم تقبُّل العرب المعاصرين لأنفسهم، وعدم تقبلهم للعالم. هذان العدمان يثويان في أساس عدم تقبل الآخر المختلف، كما هو، وتمثيله استيهامياً وفقاً لهذه العدمية. فما الذي يحجب عنا حقيقة الآخر المختلف سوى العدمية؟ الموقف من “الغرب”، ومن الحداثة والديمقراطية والعلمانية رائز ومعيار.
“الشرق شبه اختراع أوروبي” [5]، أي أن صورة الشرق في أذهان الغربيين المعاصرين كانت قد رسمت أو نقشت في الثقافة الغربية من خلال وصف الرحّالة وقادة الحملات العسكرية ومرافقيهم وأبحاث المستشرقين والمستكشفين والفلاسفة والأدباء والفنانين، فضلاً عن والحجّاج والزائرين.. وهذه الصورة ليست نمطية كلياً، بل يمكن الحديث عن تصورات مختلفة للشرق، تتقاطع كل منها، من هذا الجانب أو ذاك، مع صورة نمطية أنتجتها ثقافة الغزو والاستعمار، أو ثقافة السلطة المركزية، سياسية كانت هذه أم لاهوتية. لأننا لا نستطيع أن نتحدث عن صورة الشرق في أذهان الغربيين إلا إذا كانت هذه الصورة من إنتاج “الثقافة الغربية”، وإلا إذا كانت هذه الثقافة ثقافة السلطة المركزية، التي تملك وسائل التعليم والنشر والتعميم، وسلطة التفسير والتأويل واصطفاء الدلالات، وإدماج التصورات الفردية المختلفة في تصور مركزي تكسبه السلطة طابع الشمول والحقيقة.
بالمقابل، “الغرب” شبه اختراع شرقي. وفي ما يخصنا، هو شبه اختراع “عربي – إسلامي”. مع فارق جوهري يتلخّص في أن صورة الغرب في أذهان العرب المسلمين هي صورة المستعمِر في ذهن المستعمَر، أو صورة القويّ في ذهن الضعيف والمتبوع في ذهن التابع، وانعكاس ثقافة المركز على المحيط، ومعنى المتن على الهامش والتقدم على التأخر. وهو، كنقيضه، اختراع سلطة مركزية، سياسية أو لاهوتية، وإن كانت هامشية أو خاضعة. لذلك يمكن إدراج معارف العرب والمسلمين عن “الغرب” في باب المعارف الخاضعة، التي قدم فيها ميشيل فوكو إسهاماً مميزاً [6]. السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: لماذا لم تتغير صورة الغرب في الثقافة العربية – الإسلامية المعاصرة بعد جلاء المستعمرين وانقضاء عصر الاستعمار التقليدي، المباشر؟ قد لا نجد جواباً معقولاً إلا في الثقافة؛ فالثقافة، في الحالين هي العامل الرئيس في عملية/عمليات “إعادة الإنتاج” [7]، وإعادة إنتاج هوية جوهرية أو ماهوية (essentialism) للذات وللآخر، وإعادة إنتاج تمثُّل (representation) صورة الآخر أو استحضارها، لدى كل محاولة لتحديد الذات أو تعريفها.
إذن، نحن إزاء تحديد متبادل بين الشرق والغرب قائم على جذر أسطوري مشترك، هو المركزية الإثنية (ego centralism)، بما هي صورة جمعية عن نرجسية الذات ومركزيّتها في الكون، وإزاء خطابين متقابلين يمتحان من الجذر نفسه، تدعم كلاً منهما تمثلات وصور ومؤسسات ومذاهب فكرية وسلطات مركزية. ذلك مما يجعل منهج الاستشراق أو ذهنية الاستشراق والمنهج المقابل أو الذهنية المقابلة يتعدى أو تتعدى التقاليد الأكاديمية إلى تفريق وجودي ومعرفي بين الشرق والغرب، باعتبارهما هويّتين جوهريتين متعاليتين على التاريخ وسنن التطور. ذلكم أحد جذور الأصولية والعنصرية، على اختلاف أشكالها، الإثنية والدينية، في الشرق والغرب، وأحد عوامل التوتر بينهما بعد انحسار الظاهرة الاستعمارية.
ما يهمنا بصورة أساسية هو نقد ثقافة ما بعد الاستعمار، أي الثقافة المتسيِّدة في العالم العربي، وفي كل بلد على حدة. إذ “الثقافة العربية” و”الثقافة العربية الإسلامية” مفهومان شاملان شمولاً مضللاً، لا يقصي الثقافات غير العربية، في العالم العربي، فقط، بل الثقافات الفرعية التي تنسب كل منها نفسها إلى العروبة أو إلى الإسلام. نتحدث هنا عن تخلّع ثقافي يقبع في أساس التخلع الاجتماعي والاستبداد السياسي، أي عن هويات جوهرية أو ماهوية، أصلية وأصولية، تحمل كل منها جرثومة التطرف والعنف والإرهاب. فالمدخل الثقافي إلى الاندماج الاجتماعي والوحدة الوطنية مدخل أساسي، إن لم يكن المدخل الأساسي. ونفترض، إلى ذلك، أن ثمة خافية ثقافية عميقة ملازمة للوعي ومؤثرة فيه، تعززها التربية والمؤسسات التعليمية، ولا سيما في المراحل الأولى من حياة الفرد، هي، أي الخافية الثقافية، التي تغذي الخطابات الأيديولوجية، وقد تفسر التفارق الملحوظ عندنا بين القول والفعل [8].
لوحة: عمار النحاس
ننطلق في هذا من أولية الثقافة، بصفتها “أول رأسمال إنساني” [9]، وقدرتها على ترجمة ذاتها أفعالاً وأقوالاً وعلاقات، أي من كونها “المعلومات” اللازمة لإنتاج الحياة الاجتماعية، المادية واللامادية، كالمعلومات اللازمة لإنتاج الحياة البيولوجية، أي الشفرة الجينية المرقونة أو المنقوشة في جينات الفرد، والتي تترجم نفسها إلى بروتين، يمد الجسم بالطاقة، وينظم جميع وظائفه، بما في ذلك وظائف الدماغ وبقية الجملة العصبية. الثقافة هي التي تنظم حياتنا الاجتماعية وتعيد إنتاجها. فللمعرفة أساسها في الطبيعة البشرية، في صيغة استعدادات وملكات، يمتاز بها الإنسان من سائر الكائنات الحية. نشير هنا إلى العلاقة التفاعلية بين رأس المال الثقافي وكلّ من رأس المال الاجتماعي ورأس المال المادي أو الاقتصادي ورأس المال الرمزي، كما تتجلى في ثنوية العلمانية والدين والرؤية التي تعتبر الدين و/أو “القومية” ضمانة وحيدة للوجود.
الثقافة إنتاج بشري، لها جذورها في الطبيعة الإنسانية، وفق الحدس الكانطي، الذي أكدته منجزات البيولوجيا الأحدث، ولا سيما اكتشاف الشفرة الجينية والعمل على قراءتها [10]. تتعين علاقة الثقافة بالدين وفقاً لإحدى رؤيتين: لاهوتية تقول بأن الثقافة “حالة تحول في الفكر الديني” [11]، وعلمانية ترى في الدين عنصراً من عناصر الثقافة، فتدرجه صراحة أو ضمناً في مدرج الإنتاج البشري والفضاء القومي، ثم الفضاء الإنساني. والاتجاهان كلاهما ينطلقان من افتراض أن نقد الدين لم ينته بعد، بخلاف رؤية ماركس، الذي رأى أن نقد الدين قد أنجز في ألمانيا [12].. ولكن اللاهوتيين لا يقبلون فكرة أن الدين ثقافة أسطورية متحولة، لتبرير العبودية وهدر الإنسانية، كما ندّعي. في جميع الأحوال، فإن علاقة الدين بالثقافة تطرح مسألة العلمانية، باعتبارها مسألة مفتوحة ما دام الدين قائماً وله آثاره الواضحة في الحياة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، وفي الحياة الثقافية خاصة، حيثما يمكن للدين أن يعود متنكراً بإهاب علماني، صنمي، كما في الفكر القومي عموماً والعقيدة القومية خصوصاً، إذ تحل القومية العنصرية محل الدين، وتخترع مقدساتها ومدنّساتها، وفي الفكر الاشتراكي الدوغمائي أيضاً.
العلمانية والدين ظاهرتان متلازمتان ومتشارطتان في الوجود، وهما ظاهرتان ثقافيتان تترجم كل منهما نفسها إلى ممارسة اجتماعية وسياسية، تعيّن موقف الذات الفردية والجمعية من الآخر المختلف والأخرى المختلفة. “ليست العلمانية (على الصعيد الفردي) نوعاً من الحياد واللامبالاة في العلاقة المحددة بالدين، بل على النقيض من ذلك” [13].
في ضوء الانهيار الأخلاقي الذي نعيش، تبدو الثقافة الحديثة والمتجددة طموحاً نبيلاً لجعل العالم أفضل ممّا هو عليه. خصصنا الانهيار الأخلاقي لأن الأخلاق، في نظرنا، ذروة العقل وماهيته الإنسانية، في مقابل جميع أشكال اللاعقل والانحطاط الأخلاقي، وإلا كان العقل أداة وضيعة لاكتساب المنافع للذّات والتسبب بالخسائر والفواجع للأخريات والآخرين، أو لتحقيق النجاح الشخصي والغايات الشخصية على حسابهم أو حسابهن، كما هي الحال. فليس بوسع الثقافة الحديثة أن تكون لا مبالية أو حيادية إزاء الثقافة السائدة والمتسيّدة والأخلاق البطركية والسلطانية الرثة، بل هي رؤية نقدية وموقف نقدي في الفكر والسلوك والقول والعمل. لذلك يتعين على النقد العلماني أن ينفصل عن آلهة القومية وعبادة الدولة، عن طريق قطع العلاقة بين الوعي النقدي وسياسية الهوية.
ليس من السهل إطلاقاً فرز الممارسات الدينية بعمقها الأسطوري من الممارسات الاجتماعية والثقافية والتقاليد السياسية أو تقاليد السلطة. فما من عقيدة دينية لم تؤثر في الممارسة الاجتماعية والثقافية والسياسة لمعتنقيها، ولم تدخل في نسيج منظومتهم الأخلاقية، منذ تشكلت الجماعات البشرية حتى يومنا. وما من عقيدة دينية لم تتحول إلى ثقافة عندما فقدت إمكان استمرارها، أو عندما انبثقت منها عقيدة جديدة. ربما كان هذا سر انسرابها في الأدب والفن، ولا سيما الرقص والشعر والغناء والموسيقى. فهل الدين هو المبدأ الدافع والروح السرِّية للهويات الإثنية أم هذه الأخيرة هي مبدأ الدين؟ في التاريخ المعروف لا نجد جماعة إثنية (عرقية أو نسلية)، عشيرة أو قبيلة، ليس لها عقيدة وطقوس دينية معجونة بأعرافها وعاداتها وتقاليدها وعلاقاتها الداخلية والخارجية [14]، ولا نجد سلطة اجتماعية أو سياسية لا تسندها عقيدة دينية أو مذهب ديني [15].
نعتقد أن الأسطورة والدين والخرافة والسحر من أقدم أشكال الثقافة بمعناها الواسع. وأنها لا تزال ملازمة للثقافة الحديثة والمعاصرة بأشكال شتّى، شرقية كانت الثقافة أم غربية، وذلك بحكم الأبعاد التي أشرنا إليها: المعرفة التي تنشد اليقين، والإيمان الذي ينشد الخلود والسعادة، والتجربة الروحية أو الوجودية، بما هي علاقة الفرد الإنساني بأشكال وجوده ومصيره.
لنر كيف تبدو المسألة في الواقع: فلسطين، على سبيل المثال، أرض “مقدسة” عند اليهود والمسيحيين والمسلمين، الأماكن المقدسة تستنفد فلسطين، بل تلتهمها، أو تكلّلها بهالة القداسة، فلا تعرف فلسطين ولا ترى إلا من منظور القداسة، العلمانيون واللاهوتيون يتشاركون هذا التقديس. وقضية فلسطين، من جانب آخر، هي “قضبة العرب المركزية” والقضية المركزية للأمة الإسلامية، (والأمتين اليهودية والمسيحية) فهي، أي فلسطين، أرض وقف إسلامي، وأرض وقف قومي، كل “مسلم” وكل قومي عربي معنيّ شخصياً بتحرير القدس؛ إذن، القداسة والمركزية هما قوام القضية الفلسطينية. الشعب الفلسطيني لا وجود له إلا بإحدى صفتين: عربي أو مسلم، حسب المتكلمة أو المتكلم. العروبة، في هذا السياق، هوية بلا ذات، وكذلك الإسلام، إسلام المتكلمة أو المتكلم، أما الفلسطينيون فذوات بلا هوية، والشعب الفلسطيني، من ثم، ذات بلا هوية، أو هوية عربية أو إسلامية بلا ذات فلسطينية.
العلمانية والدين ظاهرتان متلازمتان ومتشارطتان في الوجود، وهما ظاهرتان ثقافيتان تترجم كل منهما نفسها إلى ممارسة اجتماعية وسياسية، تعيّن موقف الذات الفردية والجمعية من الآخر المختلف والأخرى المختلفة
فإذا كانت القداسة دينية بامتياز، فإن المركزية إثنية أو قومية بامتياز، هذا شأنها منذ أقدم العصور. ولكن القداسة اللاهوتية (البادئة بالطوطمية وعبادة الأسلاف) لا تقوم لها قائمة دون المركزية الإثنية أو القومية. والمركزية الإثنية أو القومية تفقد إمكان براءتها من دون القداسة، فتبدو على صورتها الحقيقية عنصرية وعدوانية. هذا الاعتماد المتبادل بين الدين والقومية يتمخّض عن فضاء رمزي مشترك يتكثف في القداسة والهداية والرحمة والتقوى والحق والعدل والاستقلال والسيادة أو الحاكمية والشرعية..، بفضل “كيمياء السلطة”. ليس ثمة اختلاط فيزيائي بين الدين والقومية، بل اتحاد كيميائي، إذا جاز التعبير. فما هو ديني من وجه هو قومي من الوجه الآخر، فالمسألة مسألة منظور. هذا يعني، من وجهة نظر علمانية، أن العلمانية مشروع، بل أفق بعيد، لا للعرب والمسلمين فقط، بل للمجتمعات والدول الحديثة أيضاً. تتعلق هذه المسألة بالدولة القومية تحديداً. “كل الأديان (نفضل المذاهب) تنبع من تقديس الإنسان لقوميّته” [16]، سواء بالمعنى العرقي قديماً، أو بمعنى الانتماء إلى دولة قومية حديثاً، أو إلى عقيدة قومية، كما هي الحال عندنا. وقد عالجنا هذه المسألة من قبل [17].
الفكرة القومية والفكرة الدينية متشابهتان، تسييس الأولى، في نظرنا، مثل تسييس الثانية، يتمخضان عن النتائج ذاتها، فالبعثية والنازية مجرّد مثالين. يلاحظ أن لدى الكثيرين استعداد لأن يقدموا حياتهم من أجل القومية. فمن أين يأتي هذا الحماس التبشيري، هذا الحب المستنزِف الذي تلهمة القومية؟ الجواب هو الكثافة العاطفية التي يولدها ويبثها “الحس الديني” الأساسي لدى الإنسان [18]. فالدين ميزة كونية للطبيعة الإنسانية تتجاوز الاستيعاب العقلاني (كانط) ولا يمكن معالجتها أو تعريفها إلا بالإشارة إليها هي نفسها. الروحاني الذي يتضمن مشاعر عميقة من الرغبة الطاغية والنداء الملحّ والرعب والافتتان الباعث على تقليب النظر والتأمل (هنا هناك) هو جوهر الدين. لكن هذا لا يجيب عن علاقة الدين بالقومية إذا لم نربطه بفكرة أن “كل عبادة هي عبادة الإنسان لقوميّته”.
ولكن السؤال المهم: لمَ هذا الاهتمام المتواتر والانشغال الدائم بتأويل الشعور الديني وتحيين النص الديني على مر التاريخ؟ لا نجد إجابة شافية، ولو إلى حين، إلا في “المركزية الإثنية” المستمرة منذ العصور البدائية، والتي هي مركزية ذكورية من جهة، ومذهبية دينية من الجهة المقابلة. هذه الأركان الثلاثة للمركزية: الإثنية والذكورية والمذهبية، متلازمة ومتضامنة أشد ما يكون التلازم والتضامن، فلا سبيل إلى الاستقلال الذاتي للفرد، المرأة والرجل على السواء، إلا بتفكيكها. ونظن أن تفكيك أيّ منها هو تفكيك لها جميعاً. النقد الثقافي لا يفترض وجود مذاهب دينية خلاصية، منتجة لأخلاق الطاعة، ومولدة للعنف.. فقط، بل يتجه إلى نقد “الثقافة القومية”، بما هي نسخة “حديثة”، متحولة، من المذهبية.
للقومية صفة تبشيرية، وشعائرية مدنية، ولاهوت سياسي. والأمة شأنها شأن الدولة، “أنشئت لتكون خالدة؛ إنها تتغذى على ولاء أعضائها الذين يزيدونها شهرة ومجداً بموتهم” [19].
من لديه استعداد لأن يموت في سبيل عقيدته أو أمته لديه الاستعداد نفسه لأن يَقتُل من أجلهما، بل إن الاستعداد للقتل يتقدم على الاستعداد للموت. الطابع التبشيري للديانات التوحيدية، واحتكار الحقيقة مشفوعان بالمركزية الإثنية والجهاد هو ما يولّد العنف والإرغام، ويفضي إلى تفكيك المجتمعات وانهيار الدول.
إشارات:
[1] – أدغار موران، النهج، إنسانية البشرية، الهوية البشرية، ترجمة هناء صبحي، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، كلمة، أبوظبي، 2009، ص ص 45 – 46.
[2] – للتوسع في هذا الموضوع، راجع/ي، محمد عابد الجابري، العصبية والدولة، معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط 6، 1994، ومصطفى حجازي، الإنسان المهدور، دراسة تحليلية، نفسية اجتماعية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء وبيروت، 2005.
[3] – فتحي المسكيني، الهوية والحرية، نحو أنوار جديدة، جداول للنشر والتوزيع، بيروت، 2011.
[4] – راجع/ي، في ذلك، كمال عبداللطيف، تشريح أصول الاستبداد، دار الطليعة، بيروت، 1999، وعبدالله حمودي، الشيخ والمريد، ترجمة عبدالحميد جحفة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 2010.
[5] – إدوارد سعيد، الاستشراق، المفاهيم الغربية للشرق، ترجمة محمد عناني، دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2006، ص 42. وسنشير إلى الاقتباسات اللاحقة من هذا الكتاب بإدراج رقم الصفحة في المتن محصورة بين هلالين (..).
[6] – راجع/ي، ميشيل فوكو، يجب الدفاع عن المجتمع المدني،…
[7] – راجع/ي، بيير بورديو وجان – كلود باسرون، إعادة الإنتاج، في سبيل نظرية عامة لنسق التعليم، ترجمة ماهر تريمش، المنظمة العربية للترجمة، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2007.
[8] – كان الصديق الراحل، المفكر والباحث، إلياس شوفاني يقول “نحن نقول ما نريد ونفعل ما تريده إسرائيل وما يريده الغرب”. إسرائيل أو الغرب هنا ليس شيطاناً يوسوس في صدورنا فيملي علينا أفعالنا، بل ثقافتنا الفصامية هي ما تملي علينا ما نقول وما نفعل، والـ(نا) الدالة على الجماعة مصنوعة بالتضاد المطلق مع الغرب، أي هي صورة سلبية للغرب، وبالتضاد المطلق مع العالم ومع العصر الحديث. فلكي نغيّر تصورنا عن أنفسنا يجب أن نغيّر تصورنا عن العالم.
[9] – أدغار موران، النهج، إنسانية البشرية، الهوية البشرية، ترجمة هناء صبحي، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، كلمة، أبوظبي، 2009، ص ص 45 – 46.
[10] – راجع/ي، مات ريدلي، الجينوم، ترجمة مصطفى إبراهيم فهمي، سلسلة عالم المعرفة، العدد 275، نوفمبر 2001.
[11] – وليم. د. هارت، إدوارد سعيد والمؤثرات الدينية للثقافة، ترجمة قصي أنور الذبيان، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، كلمة، 2011، ص 33.
[12] – راجع/ي، كارل ماركس، في الأيديولوجيا الألمانية، وفي المسألة اليهودية. وقراءتنا للمسألة اليهودية على الرابط: www.assuaal.net.
[13] – هارت، المصدر السابق، ص 29.
[14] – راجع/ي، مرسيا إلياد، تاريخ المعتقدات الدينية، ترجمة عبد الهادي عباس، دار دمشق، دمشق، ..
[15] – راجع/ي، غسان سلامة، تعدد الأديان وأنظمة الحكم، دار النهار، بيروت.
[16] – موليفي كيتي أساتي، المركزية الإفريقية، عن هارت، المصدر السابق، ص 65.
[17] – راجع/ي، جادالكريم الجباعي، وردة في صليب الحاضر، نحو عقد اجتماعي جديد وعروبة ديمقراطية، منشورات رابطة العقلانيين العرب، دار الفرات، بيروت، ودار بترا، دمشق، 2008.
[18] – هارت المصدر السابق، ص 70.
[19] – هارت، مصدر سابق، ص 79.