الهوية الطفولية والنزعة الارتكاسية
في هذا المساق الذي نهتدي بمعالمه المستعارة، إيماناً منّا بأنّ الفكر هو الجسر أو الفضاء الذي نتدرّب فيه وعبره ومن خلاله للارتقاء إلى مرتبة التفكر العقلي، بغية التطلع إلى بناء نظام عقلي عربي قادر على صناعة ذاته وتأثيث بيته وإنتاج مفرداته وتعبيد دربه المخصوص، ومنفتح في ذات التمشي على منجزات الآخر، لأنّه لم يستطع بعد أن يستنبت إشكاله التأويلي الخاص به، أو أن يطرح الأسئلة الجذرية المأمولة لتثوير الفكر العربي وإعادة بعثه من جديد وإدخاله إلى نادي الفلسفة الإنساني، كي يتمكّن من بناء إحداثيات لتفكيره بعيدا عن التعالي والاستبداد والشعور بالدونية أمام الآخر.
بهذا سنجتهد في مقاربة مسألة الهوية، وهي مسألة على درجة عالية من الخطورة والثراء، بكلّ تعقيداتها وملابساتها، وتصالباتها مع ظروف تاريخية وشروط سياسية وعُقد دينية، إنّ الأمر هنا لا يدلّ فقط على اقترابنا من حقل متعدد في معناه وسياقاته، وإنّما يرمز كذلك إلى إعادة تنشيط الحدث البابلي، وسحبه من غياهب الجب الذي رمي فيه إلى فضاء المعاصرة؛ أي أنّ الهوية مشهد بابلي بامتياز.
إن العُسر هنا يزداد تعقيداً عندما تنزل علينا هذه المسألة ونحن نتحرك في فضاء معرفي يقرأ نصوص الآخر ويُسائل ذاته متكئاً على ما استنتجه منها، عُسر يقابله بصورة دراماتيكية المآلات البابلية لمعنى الهوية في تاريخنا المعاصر، وقد نجد في عبارة الأديب اللبناني أمين معلوف نوعا من الأمل المستقبلي في إمكانية تخطّينا لهذا المشهد حيث يقول “حين يصل الكاتب عادة إلى الصفحة الأخيرة، تكون أغلى أمنية لديه أن يقرأ الناس كتابه بعد مئة أو مئتي عام. لا يمكن التكهن بذلك، فهناك كتب أراد لها مؤلفوها الخلود ثم انطفأت غداة صدورها، في حين أنّ كتاباً قد يبقى، وكنّا نخاله مجرد ترفيه لتلامذة المدارس. غير أنّ الأمل لا يفارقنا. أمّا هذا الكتاب الذي ليس ترفيها ولا عملاً أدبياً، فسوف أتمنى بشأنه عكس ذلك: أن يكتشفه حفيدي يوما، وقد أصبح راشدا، بالصدفة في مكتبة العائلة، فيتصفحه ويقرأ بعض صفحاته، ثم يعيده فوراً إلى الرف المليء بالغبار حيث تناوله، مستخفاً ومندهشاً للحاجة إلى قول هذه الأمور في الزمن الذي عاش فيه جده”( أمين معلوف، الهويات القاتلة، ص ص 228 ،229).
إنّ فهم هذه المسألة يقتضي منّا الاحتكام إلى منطق السرد التاريخي، مقتنعين أنّ هذا المنحى قد يسعفنا في توسيع دائرة فهمنا وإدراكنا لها، فالهوية من جهة نشأتها ترتدّ إلى عديد من المفاعيل البنيوية، منها ما يتصل رأساً بما نثره أفلاطون من بذور فكرية في سماء الفكر الفلسفي الغربي، حيث قسّم الوجود إلى قسمين جاعلا من موضع المُثل الفضاء الأفضل لجميع الحقائق المطلقة والثابتة، ومن عالم الحسّ الفضاء السفلي الذي ترتع فيه كلّ النسخ التي ترغب في محاكاة مُثلها، فالهوية بحسبانها مثالاً أعلى تسكن الموضع العلوي من الوجود، فعنده تكون هذه الهوية مؤسسة على شرط مفصلي يُعبّر عنه بالصيغة التالية “أنا أدرك طبيعتي الحقيقية كروح فوق حسّية، عندما أنظر إلى الأشياء فوق الحسّية، الخالدة والتي لا تتبدَّل. وهذا النظر سوف يشتمل، من دون شك، على رؤيتي وفهمي الأشياء المحيطة بي بوصفها تشترك بالمُثُل التي أوجدتها.” ( تشارلز تايلر، منابع الذات، تكون الهُويَّة الحديثة، ص228). ومنه يكون السؤال عنها من جهة اعتبارها مثالاً قائما بصورة قبلية في موضع المثل، منتشرة فيه، تحوز على وجود سابق لكلّ ما هو حسي واقعي، بمعنى أنّ هدا التمثل الفكري نشأ من “الافتراض التالي: إذا ما تساءلنا ما هو (س)؟، فإنّنا نفترض بأنّ (س) شيء مـا” (ميشال ماير، نحو قراءة جديدة لتاريخ الفلسفة، ص 12). وبالرغم من الاعتراضات التي انتصبت في وجه هذا الطرح، إلاّ أنّ أرسطو اجتهد في إدماج الكثرة والعوارض في منطق قضوي صارم، بحيث نكون “أمام قضية واحدة ووحيدة، (ق) و(لاق) يمكنهما أم يكونا عبارة عن محمولات قابلة للتطبيق على الموضوع… فسقراط أصلع أو أصلع، شاب أو غير شاب إلخ، لكن سقراط سيبقى هو سقراط” (ميشال ماير، ص 20).
من صُلب هذه اللحظة اليونانية انبنى اللوغوس على فكرة الهوية الثابتة التي طفقت تعبّر عن ذاتها سياسياً في الدولة/الجمهورية عند أفلاطون، ولدى أرسطو في تصوره للدولة الطبيعية، وفي قراءة النزعة الرواقية للطبيعة في صورتها القدرية، انسجاما مع قانونها الحديدي “عش في وفاق مع الطبيعة”. أمّا المرحلة الحديثة، فقد كانت الديكارتية المُعبّر الحقيقي عن هذا العصر فكريا، إذ أعلن ديكارت، قائلاً “من المؤكد أنّي لا أستطيع أن أحوز على معرفة بما هو خارجي إلّا بواسطة أفكار في داخلي” (تشارلز تايلر، ص 227). مدعوماً برؤية كانطية تؤسس لمنجز النقد بحسبانه محكمة داخلية يجب أن تخضع لها جميع الأنساق بما فيها الدين، ومسار هيجلي انخرط في الطرح الجدلي بحثاً عن اعتراف جواني بذات انتصرت على الآخر.
غير أن الرّجة التي تلقتها الديكارتية في عقر دارها جاءت على يد الفيلسوف باسكال الذي لم يهضم “الثقة الديكارتية بقوى الإنسان الخاصة القادرة على تحقيق الخير” (تشارلز تايلر، ص 521)، لأنّها “تـظلّ هناك، ودائما، بعض الأعماق في داخلنا بعض الجذور التي تظلّ مجهولة، ولا يمكن النفوذ إليها في حياتنا” (تشارلز تايلر، ص 521).
هذه الأعماق التي نبش عنها لفيف من فلاسفة الظنة، وفق التوصيف الرائع لبول ريكور، بدءا بشوبنهاور، وماركس، وفرويد، ونيتشه، هذا الأخير الذي سبق له أن “سبر ذلك الفكر المشوَّش المفيد أنّ الذات قد لا تتمتَّع بوحدة قبليّة مضمونة” (تشارلز تايلر، ص 664). وقد تزامن ذلك مع هجوم على مفهوم الذات، حيث “أصبحت الحاجة إلى الهرب من قيود الذات الموحَّدة موضوعا أساسياً مهمّاً ومتكرراً، في هذا القرن، وتزايد فيما صار يُشار إليه، ‘بما بعد الحداثة’ كما نرى شكلاً من أشكاله في مهاجمة فوكو الذات المنظَّمة أو المعترفة، وفي شكل آخر عند ليوتار” (تشارلز تايلر، ص 664)، إنّها أعماق قد أدّت إلى حدوث هزات زلزالية أصابت الذات المزهوّة بانتصاراتها العلمية والاقتصادية والجغرافية، ودفعتها إلى الانسحاب إلى داخلها تفتّش عن ذاتها، ويمكننا في هذه اللحظة الفلسفية الفارقة والمُنعرجية الخطيرة أن نضع سؤال الهوية في أفقه الفكري، دون أن نستبعد من هذا الأفق الجديد، المفاعيل الأخرى التي طالتنا نحن سكان جنوب الحداثة، من كولونيالية واستعمار واستغلال واستبداد شمولي خانق.
أخذت مسألة الذات/الهوية حيزا معرفياً كبيرا في نقاشات الفلاسفة، نتيجة الاستئناس بسؤال ما هو الإنسان؟ الذي ما زال وفياً للمسار الأفلاطوني خاصة منذ أن أدخل أفلاطون مفهوم الإنسان إلى أفق التفكر الفلسفي
هناك استعمال ملتبس للفظي الذات والهوية معاً، دون أن يثير ذلك إشكالا فلسفياً على مستوى المصطلح، وإنّما هو إشكال على مستوى التنظير الفلسفي، فقد كان رهان الفلسفة الغربية منذ البدء الأفلاطوني إلى غاية زمن الحداثة هو تأسيس ذات سياسية وأخلاقية وناقدة وعارفة ومالكة للوجود الحقيقي، أي أنّها تحمل في طياتها هوية ما زالت وفيّة للسؤال الذي دشّنه أفلاطون حول الجوهر أو الماهية، بصيغته الجلية: ما هو الإنسان؟ والذي نجد صداه مفروشا في النص الكانطي نقد العقل العملي.
غير أنّ المفكر العربي فتحي المسكيني يطرح رؤية مغايرة مبنية على أن “رهان الحداثة الخفي هو: إلى أيّ حدّ يمكن للفيلسوف أن يفكّر في الذات بلا هوية؟ وعلى ذلك فإنّ الأوان قد آن أيضّا لأن تسأل: إلى أيّ مدى استطاعت الفلسفة المعاصرة، في سعيها الدائب إلى التحرّر من براديغم الوعي، أن تتحرّر من صناعة الهوية الحديثة؟ ومن ثمّ أن تقترح علينا ذاتا بلا رواسب هووية لا شفاء منها؟” (فتحي المسكيني، الهوية والحرية، نحو أنوار جديدة، ص 12)، ويستمرّ كاشفا عن إشكاله بصورة أكثر تأسيساً قائلا “نحن نفترض أنّ الفلسفة المعاصرة من هيغل إلى ريكور قد فشلت في الإيفاء بهذا الوعد. إنّها لم تفعل غير الاستعاضة عن تأسيس الذات بإرساء أكثر ما يمكن من قصص الهوية” (فتحي المسكيني، ص12).
لقد أخذت مسألة الذات/الهوية حيزا معرفياً كبيرا في نقاشات الفلاسفة، نتيجة الاستئناس بسؤال ما هو الإنسان؟ الذي ما زال وفياً للمسار الأفلاطوني خاصة منذ أن أدخل أفلاطون مفهوم الإنسان إلى أفق التفكر الفلسفي، ذلك أنّ هذا السؤال بقي ملتصقاً بكلّ هذا المخزون الأنثروبولوجي بحثا عن البواعث الحقيقية للفعل الإنساني، أو سعياً للامساك بجميع الصفات التي تحدد للذات هويتها من عقل وكلام وسياسة واجتماع، وصولاً إلى وصفه بأنّه براديغم أو متحد اجتماعي ينظم جميع ضروب التفكر الفلسفي ويخترق كلّ الفلسفات التي حافظت على فكرتها المركزية التي تدور وجودا أو عدماً مع الذات/الهوية، بغضّ النظر عن توصيفات الذات، غير أنّ المنعطف الذي ميّز الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر، بفعل المطرقة النيتشوية، حينما اجترح نيتشه سؤالا خطيرا في أفق الحداثة، وهو سؤال “من؟”، أو “من نحن؟”، ومن يكون، وبالتالي “الخروج من طور الفحص الأنثربولوجي في الهوية identité إلى طور المساءلة لسؤال “من نحن؟” بوصفه أمارة فينومينولوجية عن سؤال أنطولوجي لم يأت إليه الفلاسفة المعاصرون إلا بعد أن أخذوا في التحرر شيئا فشيئاً من براديغم الذات الديكارتية ونعني سؤال “من؟” بعامة، الذي صرنا نشير إليه بعد هيدغر (1927) وريكور (1990) بمصطلح الهُوية ipséité, selbstheit” (فتحي المسكيني، الهوية والزمان، تأويلات فينومينولوجية لمسألة “النحن”، ص 9).
وهو هنا يقترب كثيرا من تحديد المسار الفلسفي لإشكالية الهوية، فجذورها توجد عند “نيتشه وهيدغر وأرندت وفوكو الأخير، ولكن لم يبلغ مرتبة الإشكالية القائمة بنفسها إلاّ لدى ريكور ورورتي، نعني إشكالية ‘الُهو’ das selbst وذلك من جهة ما هي سبيل في البحث تتخذ من سؤال من die wer-fregela question qui بعامة خيطاً هادياً لها” (فتحي المسكيني، الهوية والزمان، تأويلات فينومينولوجية لمسألة “النحن”، ص 20).
ويمكن أن نؤكد على “ضياع مركزية الذات فعلاً، تلك التي قد جعلت منها الفلسفة الكلاسيكية محور الوجود والفكر ( فتحي التريكي، فلسفة الحياة اليومية، ص 47)، وتصالب هذا الضياع مع تزايد الحديث عن أزمة المعنى ومأساة الكوجيطو المكسور أو المجروح بلغة ريكور، وانبثاق عهد نهاية السرديات الكبرى. إنّ هذا التمشي الفلسفي يسعفنا على الأقل في تحديد مسار تفكّرنا في هكذا مسألة متشابكة ومتداخلة إلى درجة التعقيد الخطير الذي يشي بقدوم مَهمة فلسفية عسيرة في منطلقاتها، هي مهمة فهم تفكيك الهوية في صورتها الطفولية، في الأفق الفكري العربي، استئناساً بما عرفناه من نصوص غربية، منحت لنا ضوءاً يهدينا إلى مستقرّ معرفي قد يصبح عندنا في مرتبة المنزل الذي نُنزل فيه عتادنا التحليلي من أجل تقديم مقاربة لهذه المسألة.
ربّما العودة إلى المربع المعرفي الذي وضعنا فيه الأديب اللبناني أمين معلوف، خاصة في حديثه عن الهويات القاتلة يعلمنا أنّ الخطر الأكبر يأتينا من اللغة وتحديدا من الكلمات، فقد علّمته الحياة درسا قاسياً في أن يرتاب منها، فـ”أكثرها شفافية غالباً ما يكون أكثرها خيانة. وإحدى هذه الكلمات المضلّلة هي كلمة ‘هوية’ تحديداً. فنحن جميعاً نعتقد بأنّنا ندرك دلالتها، ونستمر في الوثوق بها وإن راحت تعني نقيضها بصورة خبيثة” (أمين معلوف، ص17). وهو بذلك يلتزم معرفياً على الأقل بوصية مارتن هيدغر في حديثه عن علاقة اللغة بالفكر، إذ ينهمم بالتفكر في أدوات اللغة لأنّها هي بالأساس أدوات الفكر، فمن لم يفكر في اللغة لم يفكر أبداً. وعليه، يضع علينا بقوة التاريخ، سؤالاً راهنا ومربكاً هو “محاولة فهم الأسباب التي تدعو الكثيرين اليوم إلى القتل باسم هويتهم الدينية والإثنية والقومية أو غيرها” (أمين معلوف، ص ص 17/18)، وهي ثمرة جملة من العلل المتساكنة داخل قفص الفُهوم المريبة والمرعبة في أحكامها، فهي “تساعد على ترسيخ الآراء المسبقة التي تكشفت عبر التاريخ عن فسادها وإجرامها” (أمين معلوف، ص 36)، بالإضافة إلى “أنّ الفوضى المفهومية، لا النوايا السيئة فقط، هي ما يسهم بشكل كبير في الاضطراب والبربرية اللتين نراهما حولنا” (أمارتيا سين، الهوية والعنف، وهم القدر، ص 23). حيث يمكن لهذا النوع الطفولي من الهوية أن يفعّل جملة الضغائن و”يمكن للأحقاد المدفوعة طائفيَّاً أن تنتشر انتشار النار في الهشيم، كما شاهدنا مؤخراً في كوسوفو والبوسنة ورواندا وتيمور.. ويمكن أن يحوّل حسُّ هوية معزَّز معه جماعة معينة من الناس إلى سلاح قوي بوحشية مع جماعة أخرى”. (أ. سين، ص 25)، والسبب يتجلى في “استحضار القوة السحرية لهوية شاملة مزعومة تحجب الانتماءات الأخرى.. ويمكن أن تكون النتيجة عنفاً محليَّاً بسيطاً، أو عنفاً وإرهاباً عالميين بالغي التعقيد” (أ.سين، ص 25).
العودة إلى المربع المعرفي الذي وضعنا فيه الأديب اللبناني أمين معلوف، خاصة في حديثه عن الهويات القاتلة يعلمنا أنّ الخطر الأكبر يأتينا من اللغة وتحديدا من الكلمات
وعليه يمكن أن نتحدث عن “هوية طفولية” تتمظهر في صور عديدة منها ما يتصل بالجنس أو على أساس المعطى الطبيعي الأوّل، ومنها ما يرتبط باللون، وهي أقذرها، وفي صورتها الإثنية المخيفة مثل الانتماءات القبيلية والعشائرية المنتشرة في أفريقيا كالزولو والتوتسي والهوتو، وعشيرة الهاوسا، أو الصور الأخرى للانتماء الطائفي مثل: السنة، الشيعة، الموارنة، الدروز، الأمازيغ، الطوارق، وجميع هذه الأصناف تحوي في جوفها على رؤية معادية للآخر واستعلائية عليه، تنتظر فقط الاستفزاز، ويمكن أن تؤدي إلى حرب بين هذه القطاعات المُسيجة بدوغمائيات خطيرة، أو إلى نزاعات مُضللة وجودياً تحول بينهم وبين أفق الحداثة المضيء، فلقد أنشأت محاكم التفتيش تحت ضغط ديني، ومارست طالبان صنوفا من الإرهاب المفرط في عنفه، ولا يجب أن ننسى “حرب الأفيون” المفروضة على الصين، الدنيئة باسم حرية التجارة كما وصفها أمين معلوف.
ويكاد الأمر يستوي في مقاربتنا لمعنى الهوية، وخاصة في صورتها الطفولية، بحسبانها رؤية ساذجة وسطحية ومتسرعة ومنفعلة في حكمها وقرارها، فالذي “ينزع إلى رفض كلّ شيء دفعة واحدة والتقوقع داخل ‘هويتهم’ مطلقين اللعنات المثيرة للشفقة ضدّ العولمة والكوكبة والغرب المتفوق أو أمريكا التي لا تطاق” (أ.معلوف، ص ص 141، 142)، فهو يعبر عن تمظهر مقزّز للهوية في مرحلتها الطفولية، دون أن يعي بطبيعة موقفه ولا بعقابيله الكارثية على ذاته وهويته الهشة، والتي تتمثل مثلا في أسلوب الاحتقار “الذي يستخدم من أجل إثارة العنف ضدّ الشخص المحتقر”. وقد جادل جون بول سارتر في كتابه “صورة اليهودي معادي السامية” Portrait of the Anti-Semiste أن “اليهودي إنسان ينظر إليه الآخرون على أنّه يهودي،.. إنّ المعادي للسامية هو الذي يصنع اليهودي” (أ.سين، ص 39)، أمّا البعض الآخر فهم على أتمّ الاستعداد “لتقبل و”ابتلاع″ كلّ شيء، دون تمييز، بحيث لا يعودوا يعرفون من هم، ولا إلى أين هم سائرون، ولا إلى أين يسير العالم” (أ.معلوف، ص، 142)، أو بصورة أكثر وضوحاً، قد يكون “التصنيف الديني مصدر للتشويه العدائي كذلك، بالطبع. فيمكن مثلاً أن يتّخذ شكلّ الاعتقادات الفجة التي عبرت عنها ملحوظة الجنرال الأمريكي وليم بوبكين المدوّية، التي يعرفها الناس جميعاً، في وصفه لمعركته ضد المسلمين بشكل فج “لقد عرفت أنّ ربي أكبر من ربّه”، و”أن ربّ المسيحية كان الربّ الحق، وأن ربّ [المسلمين] ليس إلاّ وثنا” (أ.سين، ص 48).
وليس ببعيد عن هذه القراءة، يمكن لنا أن نرصد أشكالا جديدة من “الهوية الطفولية” في المتن الفكري الذي قدمه أمارتيا سن، في كتابه “الهوية والعنف، وهمّ القدر”، حيث يشير إلى مسألة كؤودة تقف كحجر عثرة أمام مسيرتنا نحو بلوغ “الهوية الراشدة”، وهي مسألة “الاختزالية” reductionism، التي تتجلى أولاً في “تجاهل الهوية”، وهي “تأتي على شكل تجاهل تأثير أيّ معنى للتماهي مع الآخرين، أو إهماله تماماً، فيما يتعلق بما نثمّنه أو بالكيفية التي نتصرف بها” (أ.سين، ص 55)، وتتمظر الاختزالية ثانياً في “الولاء المفرّد”، الذي “يأخذ شكلّ افتراض مفاده أنَّ كلَّ شخص ينتمي بشكل رئيس، من أجل الأغراض كلّها، إلى مجموعة واحدة فقط لا أقل ولا أكثر” ( أ.سين، ص 55).
يُقرأ ذلك، وبمنظار متعاكس، على أنّ الاختزالية التي “تتجاهل الهوية”، ولا تكترث بالأبعاد المختلفة للإنسان، وفق منطق “الولاء المفرد”، تستحق منّا كلّ الاهتمام. ولم يستبعد أمارتيا سين من رؤيته ما قدمه المنظر الأميركي صموئيل هنتنغتون الذي تحدث عن صراع الحضارات انطلاقا من افتراض مفاده أنّ “الناس الذين يصنّفون داخل أقفاص من الحضارات متضادين شيئاً ما، أي أنّ الحضارات التي ينتمون إليها يعادي بعضُها بعضاً. ويكمن وراء فرضية الصدام الحضاري فكرة أكثر عمومية تقضي باحتمال أن يُنظر إلى الناس على أنّهم ينتمون إلى حضارة واحدة” (أ.سين، ص 84)، وهذا هو عين الاختزال المقيت في نظر أمارتيا سين، لأنّ الأمور ترتدّ إلى الكثير من المفاعيل منها ما هو سياسي خالص،.. إذ أنّ المعركة الحاسمة هي التي يجب أن تعلن ضدّ تسييس الدين، الذي “لا يتمثل في النمو السريع للإسلام السياسي فقط، بل يتمثل كذلك في النشاط العارم الذي يعمل به تسييسُ الأديان الأخرى (كما هي الحال في توسيع المدى السياسي للمسيحية تحت عنوان المولودون الجدد، والتطرف اليهودي، أو في حركة هندوتفا الهندوسية).. ومن ذلك مثلاً “زحف التحول إلى الشريعة في إندونيسيا”، كما وصفه العالم الإندونيسي شافعي أنور بصورة تدعو إلى الفَزَع، ليس تطوراً للممارسة الدينية فقط، بل يدخل فيه انتشار لتطلعات اجتماعية وسياسية على درجة كبيرة من التشدد في بلد اشتُهر تقليدياً بالتسامح، بالإضافة إلى التنوع الثقافي الغني” (إ.سين، ص 123).
فـ”كلّ الأشياء كانت حاضرة في زمن واحد. هناك، كنّا نتفرج على تكامل الوعي الإنساني، من وعي العصور الحجرية وحتى مكاسب القرن الحادي والعشرين. كلها كنا نعاينها مرصوفة إلى جانب بعضها
ويعتبر أمارتيا سين أنّ تجاوز هذه الاختزالية الخانقة لإشراقات طمستها القوى المتعددة التي تسكن في هذه الأشكال والضروب ينبني على إرادة ثقافية قوية تستطيع أن تعبد طريقها برؤية تستمد قوتها من الحرية المسؤولة، والنقد الذاتي، والإيمان بأنّ الهوية ليست مشروعا ناجزا ومكتملاً ينزل علينا من علٍ، وإنما هو صناعة مستقبلية بامتياز.
يحدونا الأمل حسب منطق أمارتيا سين في الخروج من هذه الهوية الطفولية التي لم تنضج بعد، ولم يستو عودها، في ظلّ عولمة قاهرة وعابرة للزمن، وفي ظلّ شركات متعددة الجنسيات يحكمها منطق حديدي لا يلتقط غير ذبذبات إذاعات وفضائيات الوثن الجديد “المال”.
على هدي هذا التمشي، يسعى المفكر الإيراني الأصل “داريوش شايغان” إلى معالجة مسألة الهوية في هذا العصر، من جهة كونها حاضرة فيه بقوة التاريخ، فـ”كلّ الأشياء كانت حاضرة في زمن واحد. هناك، كنّا نتفرج على تكامل الوعي الإنساني، من وعي العصور الحجرية وحتى مكاسب القرن الحادي والعشرين. كلها كنا نعاينها مرصوفة إلى جانب بعضها، وكأنّ روح الحداثة استعادت كافة أطوار الوعي البشري في ذاكرة أقرب ما تكون إلى الملحمة العظمى. (داريوششايغان، تزامن الثقافات المتنوعة، فوضى البحث عن هوية، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، ص103).
غير أنّ هذا الشكل من الهوية معرض كذلك إلى هزات من داخله، تعتمل فيه مشكلة قوى جوانية تتسرب إليه من “نواقص عديدة. لهذه الحضارة تصدّعات وأخاديد تتربص فيها مخلوقات شيطانية. الافتقار إلى الوجد والحيوية، والانسلاخ عن العواطف الدينية التقليدية، حالات توطّئ الأرضية للخيال كي يصول ويجول بأغرب صور وأكثرها وهماً” ( داريوششايغان، ص 107). وهي صفات منتشرة في فضاء هذه الحضارة، إنّها “الحضارة الجديدة الفارغة من أيّ خيال أخلاقي، ومن أيّ قفزة شعورية أو قيم جديدة، بوسعها قلب معنى الوجود رأساً على عقب” (داريوششايغان، الهوية المركبة، هوية بأربعين بعدا، ص 113).
استئناساً بهذه الرؤى المختلفة التي ننظر إليها بحسبانها في نصوص نتكئ عليها من أجل تقديم قراءة جديدة لمفهوم الهوية كمنحى فلسفي يريد أن يقطع مع سؤال “ما هو؟” بحمولته الأنثروبولوجية، وتحت مظلة براديغم الذات الواعية والناقدة والتاريخية، والارتباط بسؤال “من هو؟” بمنعه الفلسفي المتصل ببراديغم اللغة الذي فتحت الأبواب جهة التأويل بمكاسبه الرمزية، والمكسب الأكبر يتمثل في إزاحة السؤال من مجال الماضي إلى أفق المستقبل. ربَّ إزاحة قد نكتشف فيها مدى هشاشة هويتنا بالنظر إلى المنسوب العالي من كمية الطفولة التي تحوزها، ولكي نصل إلى مرتبة الرشد، لعلنا نبدأ في التخلص من العنف، والكره، والاضطغان، والاختزالية.. وغيرها من مثالب الهوية الطفولية..