جردة حساب للثورات العربية
الناشط والباحث السياسي كويريت ديبوف (مواليد 27 أيار/مايو 1974) من أبرز أبناء جيله الأوروبيين الذين انخرطوا في تناول شؤون المنطقة العربية، وهو يشغل منصب ممثّل تحالف الليبراليين والديمقراطيين في الشرق الأوسط ، درس التاريخ القديم في جامعة لوفان وبولونيا، كما شغل منصب المستشار السياسي لرئيس بلدية لوفين وللبرلمان الفلمنكي والبرلمان البلجيكي والبرلمان الأوروبي كذلك، كما شغل منصب المستشار السياسي والناطق باسم رئيس الوزراء البلجيكي جاي فيرهوفشتات في الفترة الممتدة بين 2003 حتى عام 2008، وأسس سنة 2008 مركز أبحاث ليبرالي يدعى مركز بروميثيوس.
جاي فيرهوفشتات، رئيس تحالف الليبراليين والديمقراطيين من أجل أوروبا، ورئيس الوزراء البلجيكي السابق لبلجيكا (1999- 2008)، والمنظّر للرؤية الجديدة للتعاون الأوروبي المتوسّطي.
في مقدّمته الطويلة للكتاب والتي لا تقلّ أهميّةً عن محتواه، يتقاطع جاي فيرهوفشتات رئيس تحالف الليبراليين والديمقراطيين من أجل أوروبا ورئيس الوزراء السابق لبلجيكا (1999- 2008)، والمنظّر للرؤية الجديدة للتعاون الأوروبي مع ما يذهب إليه المؤلّف في عالمية الحدث العربي وأهميّته التاريخية مستعرِضاً الأحداث التي مثّلت علاماتٍ يمكن العودة لها بالخطف خلفاً لمراجعةِ التغييرات التي طرأت على هذا الجزء من العالم بدءاً من سنة 2009 حين وقف باراك أوباما في جامعة القاهرة وألقى كلمته التي حملت عنوان “بداية جديدة” وكيف أنّ أحداً لم يكن يتوقع الجديد الذي تلاها، لم تنقض سنتان إلاّ وكانت عاصفة التغيير تضرب المنطقة مقتلعةً نظام الرئيس التونسي زين العابدين بن علي في سابقةٍ عربية فتحت الباب أمام سلسلة أحداث اضطرّت طائرات حلف الناتو لاحقاً لمغادرة مدرجاتها لأول مرّةٍ منذ أحداث كوسوفو نهاية التسعينات.
لقد ألهمت موجة الربيع العربي -كما يرى فيرهوفشتات- حراكاً عالمياً، فشاهدنا المظاهرات في البرازيل وفي تركيا وتايلاند والسودان والمكسيك وفنزويلا وأوكرانيا حتى وصلت إلى قلب نيويورك المالي في ما عُرِف بحركة احتلال وول ستريت احتجاجاً على انعدام الأخلاق في أسواق المال في مشهدٍ أعاد إلى الأذهان موجة الاحتجاجات التي شهدها العالم سنة 1968 ضدّ النخب العسكرية والسياسية في الدول الرأسمالية.
كان تراجع الولايات المتحدة وانكفائها عن الشرق الأوسط أبلغ تجليّات التغيّر في ميزان القوى العالمي بحسب فيرهوفشتات، ليس من الشرق الأوسط فحسب، بل فقدت أمريكا رغبتها بالاهتمام بالاتحاد الأوروبي وفضّلت مبدأ “القيادة من الخلف” كما ظهر في الحملة الجويّة التي قام بها الناتو في ليبيا حيثُ وافقت الولايات المتحدة على المشاركة في اللحظة الأخيرة، كما عكست الحرب الدائرة في سوريا تغيّر خارطة القوى العالمية، فبينما كانت الولايات المتحدة على وشك توجيه ضربة عسكرية للنظام السوري في آب أغسطس سنة 2013، دخلت روسيا على الخط لتغيّر الموقف بشكل دراماتيكي، فيما اعتُبِرَ دلالةً على أنّه ليس بإمكان الولايات المتحدة التصرف بمفردها وأن أيّ حلّ في سوريا يقتضي الموافقة الروسية وربما الإيرانية أيضاً، ومن المهم الإشارة إلى مَيْل فيرهوشتات لتفسير الانكفاء الأميركي عن المنطقة على أنّه في جوهره انقلابٌ في السياسة الأميركية نحو الداخل إثر الأزمة المالية العالمية التي ضربت الاقتصاد العالمي وفي مقدمته الاقتصاد الأميركي سنة 2008.
بالنسبة إلى أوروبا كما يرى جاي فيرهوفشتات، فإنّها ظلّت متردّدة وحائرة أمام هذه الموجة العارمة من الحراك الشعبي، فتأخّرت عن إدراك ومواكبة الأحداث الدائرة في جوارها الجنوبي كما يسمّيه، إلا أنها استدركت ذلك في وقت متأخر مع تطوّر الأمور في مصر، ومع ذلك فإن استجابتها وفق تقييمه ظلّت دون مستوى الحدث إذ اكتفت بإضافة بضعة ملايين إلى ميزانيتها المخصصة لدعم التغيير والدمقرطة في المنطقة، لقد توقّعت شعوب المتوسط الشريكة كما يسمّيها دعماً حقيقياً من جيرانها الأوروبيين إذ كانت تناضل من أجل قيم يفترض أنها أوروبية بالمحصلة، وبدلاً من مناصرته العلنية للمتظاهرين في ميدان التحرير اكتفى الاتحاد الأوروبي بتكرار دعوته كافة الأطراف لنبذ العنف! يقول فيرهوفشتات “ليس علينا أن نتفاجأ إذن حين يقال عن سياستنا إنها مزدوجة المعايير”، لقد كانَ من نتائج هذا التخلّف عن الانخراط الفعلي في إزاحة الدكتاتوريات التي لطالما حالت دون انتشار القيم التي تبشّر بها الشراكة الأوروبية في واقع الأمر؛ أنْ تدخلت أطراف أخرى بأجندات لا تولي عملية التغيير الديمقراطي أولوية في حساباتها،على سبيل المثال شرعت قطر في دعمها لتيار الإخوان المسلمين وشبكاته في المنطقة بأسرها من المغرب إلى سوريا، ووقفت وراء الإخوان في مصر وقدّمت لهم دعماً مالياً سخيّاً، وحين فشلوا في الانتخابات الليبية تكفّلت بدعم الميليشيات المسلحة التي ستقف في وجه الحكومة الجديدة.
تكمن أهمية الكتاب في طابعه الميداني أولا كونه يقدم مسحا شاملا لخارطة الحراك العربي الذي دشنته لحظة "البوعزيز" من وجهة نظر غربية
ويرى فيرهوفشتات بأنّ الأمر مختلف بالنسبة إلى الأوروبيين، فإذا كان لدى الولايات المتحدة ترف الانسحاب الطوعي من المنطقة، فإنّ أوروبا محكومة بالبقاء فيها إذْ أنّها تشكّل حديقتها الخلفية وعليها أن تبادر لمواجهة التحديات التي أثارتها أحداث السّنوات الأخيرة في المنطقة، بدءاً من طوفان الهجرات وصولاً إلى التحديات الاقتصادية والأمنية، علينا إذن أن نسبح ضدّ التيار-كما يقول- ويختتم فيرهوفشتات مقدّمته التي امتدّت على مساحة 14 صفحة من الكتاب إلى التأكيد على حيوية مفهوم (المجتمع المتوسطي للجوار الجنوبي) والذي تتبنّاه كتلة تحالف الليبراليين والديمقراطيين في الاتحاد الأوروبي حيثُ يعتبر فيرهوفشتات من أبرز منظّريه.
يختتم فيرهوفشتات تقديمه للكتاب بالتأكيد على أنّ ما نشهده اليوم ليس سوى بداية التحوّل نحو الديمقراطية في المنطقة وأن الشعوب التي ثارت لن تقبل العودة إلى الأوضاع السابقة مهما كلّفها الأمر، على أن التحدّيات التي تواجه تلك الشعوب ليست بالسهلة، لا سيما وأنّ الدكتاتوريات التي حكمتها أمعنت في إنهاك اقتصادياتها وأحالتها بلداناً محطّمة، لذا فإنّ التعليم بحسب فيرهوفشتات أولوية أساسية لتأهيل تلك البلدان وانخراطها في المشروع الأوروبي المتوسّطي، مع إشارته إلى أن هذا الجانب هو أكثر التحديات تعقيداً في العالم العربي.
تونس كما يراها فيرهوفشتات يمكن أن تشكّل نموذج انطلاق في الشراكة المقترحة ويمكنه جذب الدول الأخرى تماماً كما كانت سلوفينيا بعد تفكّك يوغوسلافيا، وكما شكّلت خطة مارشال أفضل استثمار أميركي في أوروبا، كذلك يجب أن يكون مشروع المجتمع المتوسطي بالنسبة إلى الدول التي سوف تشكّله وهي الدول التالية: المغرب، الجزائر، ليبيا، تونس، فلسطين، الأردن، لبنان وسوريا إلى جانب الاتحاد الأوروبي.
يستهّلُّ ديبوف كتابه بالتأكيد على أنّ ما يشهده العالم العربي هو ثورةٌ حقيقية وبأنّ الرّكون إلى وصف هذا التحول التاريخي بأنّه مجرّد ربيع عربي إنّما ينطوي على مغالطة منهجية إذْ أنّ هذه الموجة التغييرية ليست موسمية ولا ترتبط بحدثٍ مباشر بعينه كما كان الحال حين بدأ الإعلام يتداول مصطلح الربيع العربي لأوّل مرّة إثر اغتيال الزعيم اللبناني رفيق الحريري سنة 2005 وصعود تيّار قوى 14 آذار في لبنان، على العكس فإنّ ما نشهده الآن -وفقاً لديبوف- ثورة تاريخية لا تنقصها العالمية أبداً ولا تختلف بجوهريّتها عن لحظة سقوط برلين سنة 1989، تلك اللحظة التي جاءت مفاجئةً وصادِمةً وسط ارتباكٍ عالميّ حينَ عَبَرَ الآلاف من المواطنين برلين الشرقية مساء التاسع من نوفمبر وأسقطوا ذلك الرمز الذي لطالما كرّس الفصل والظلم والدكتاتورية، لم يكن الانهيار مجرّد انهيار جدارٍ فقط، إذْ تداعت إثره الدكتاتوريات الشيوعية في أوروبا الشرقية في كل من بولندا والمجر وتشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا ورومانيا وبلغاريا وليتوانيا ولاتفيا وأستونيا وصولاً إلى الاتحاد السوفييتي نفسه سنة 1991 في لحظةٍ وضعت حدّاً لحرب تاريخية بين الشيوعية والرأسمالية وبين الديمقراطية والدكتاتورية وألهمت عالم السياسة والاقتصاد فرانسيس فوكوياما لكتابة مؤلّفه العظيم “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” وقد بدا منذ ذلك الحين بأنّ المسألة ستحتاج بعض الوقت ريثما تتحوّل تلك البلدان نحو الديمقراطية والانفتاح والأسواق الحرّة، وفي الواقع فإنّ الأمر لم يستغرِق سوى سنوات قليلة حتى انطلقت الموجة الثورية الثانية من بلغراد وطالت ديكتاتور جورجيا شيفرنادزه لتثبت صدق نبوءة فوكوياما.
لوحة: محمد أبو الوفا
لا يتحدّث الكاتب كباحثٍ يقطن في الغرب الأوروبي ويرصد مشاكل الشرق الأوسط من وراء نافذة مكتبه الدافئ مستعجلاً إطلاقَ الأحكام التنميطيّة أو مأخوذاً بتلفيقات الميديا ومركزّيّتها الانتقائية، إنّما كخبير ميداني وصاحب رأي ملتزم، قرّر -كما يقول- أن لا يفوته هذا الحدث التاريخي في الشرق الأوسط فحزم حقائبه ومضى إلى مصر ونزل إلى ميدان التحرير مع المتظاهرين، كذلك غامر في الاندفاع إلى الخطوط الأولى في الأحداث السورية وتنقّل بين مناطق الشمال السوري، وقف مع المقاتلين على خطوط النار وعايش اللاجئين في مخيماتهم ليرصد هذا التسونامي السياسي الذي اجتاح الشرق الأوسط والعالم، كما لا يفوته أن يسجّل في مقدّمة كتابه شكراً لشخصياتٍ عربية ساهمت في إغناء محتوى كتابه كما يقول، ومنها عمرو موسى، أحمد الحريري، فواز تلّو وآخرون.
يدرك الكاتب جيّداً حسب ما يشير إليه في مستهلّ كتابه أنّ التحولات التاريخية كالتي يشهدها العالم العربي ستتطلّب وقتاً كي تؤتي أُكُلَها مستنداً إلى تجارب بلدان أوروبا الشرقية التي لم تتحول لبلدان ديمقراطية بين عشيّة وضحاها، لقد اقتضى الأمر وقتاً وجهداً حتى تمكّن البولنديون من اختيار مرشّحيهم للبرلمان من بين ما يقرب من تسعين حزباً سياسيّاً بينها حزبٌ لشاربي البيرة! وعليه فإنّه يشير إلى تفهّمه للخلفيّة التي دفعت بالسفارة المصرية في بروكسيل للاتصال به بعد وصوله مع عائلته إلى القاهرة في الأول من سبتمبر عام 2011 (بعد مرور ما يقارب سبعة أشهر على سقوط حكم حسني مبارك) وذلك لإبلاغه بعدم ارتياح السلطات المصرية لنشاطاته في مصر وكيف أبلغه أحد أصدقائه الذي كان على صلة جيدة بوزيرة التعاون الدولي المصرية بأنّ السلطات المصرية تعرف كلّ شيء عنه، بدءاً من المدارس التي اختارها لأولاده وليس انتهاء بموقع البيت الذي سينزل فيه، وبأنّ عليه أن يحزم حقائبه ويغادر مصر، لم يفاجئ حصولُ ذلك ديبوف بالرغم من مرور سبعة أشهر على سقوط نظام حسني مبارك.
“كنتُ ما أزال في السادسة عشرة من عمري يوم سقط جدار برلين” -يقول ديبوف- لذلك لم تكن لي فرصة قيادة سيّارتي إلى الحدود الألمانية لمشاركة آلاف الناس الذين توافدوا من جميع أنحاء أوروبا للاحتفال بهذا الحدث التاريخيّ، إلاّ أنني قرّرت ومنذ أن أبلغني صديقي التونسيّ فيما كنّا نتناول القهوة في أمستردام بأنّ الشخص الذي تحدّث إليه على الهاتف منذ قليل لم يكن سوى والده يبلغه بأنّ الرئيس التونسي زين العابدين بن علي سيعلن استقالته من منصبه خلال الساعات القادمة، وبالفعل كنّا ما نزال في قطار العودة من أمستردام إلى بروكسيل حين وصلتنا الأخبار بفرار بن علي من تونس، لقد كانت اللحظة صادمةً بالنسبة إليّ، لم نتوقّع نحن الذين تابعنا ما وصلنا على أنّه “أبناء كاذبة” حول احتجاجات في مناطق محدودة من المدن التونسية، كانت اللحظة فارِقة بالنسبة إلى المؤلّف الذي لم يعُد في السادسة عشرة من العمر، ولم يستغرق الأمر وقتاً طويلاً قبل أن تصل موجة الاحتجاجات إلى مختلف أرجاء الشارع العربي، فمن مصر إلى اليمن وليبيا والبحرين والمغرب والأردن وصولاً إلى سوريا، لقد كان من المنطقي جدّاً وصف هذه الأحداث بالموجة الثورية الثالثة التي تضرب النظام الدكتاتوري الذي هيمن على دول عربية عديدة تحت عباءة الحلم الاشتراكي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وإزاحة الملك فاروق وبزوغ الناصرية سنة 1952 والتي لا يمكن فصلها جميعاً عن قيام النظام العسكري الاشتراكي في ليبيا وهيمنة دكتاتوريات العسكرتارية البعثية على سوريا والعراق ممثلةً بنظامي حافظ الأسد وصدام حسين.
يسوق المؤلف مقارنات بين الثورة الفرنسية عام 1789 والثورات العربية التي انطلقت عام 2011، ليقول بأنّ الثورة الفرنسية احتاجت ما يقارب 86 عاماً و14 دستورا للوصول إلى ديمقراطية مستقرّة، كذلك تشترك الثورات العربية مع الثورة الفرنسية في كونها جاءت ردّاً على الفساد والاستبداد والدولة البوليسية القمعية، تتشاطر الثورتان حلماً مشروعاً في المطالبة بإنهاء الاستبداد وتكريس الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ليعاود التأكيد على أنّ هذه اللحظة الفارقة لا تقل أهميةً عن لحظة الثورة ضد الاستبداد الشيوعي قبل نحو مئتي سنة، لذا فإنّه يبثُّ نداءً علنيّاً بضرورة مساندة الربيع العربيّ ومنحه المساعدة والوقت.
بالنسبة إلى أوروبا كما يرى جاي فيرهوفشتات، فإنّها ظلّت متردّدة وحائرة أمام هذه الموجة العارمة من الحراك الشعبي
كما يذكّرنا ديبوف بحقائق ديموغرافية لها دلالاتها المؤثّرة في تأمين قوّة الدفع لهذه الموجة التغييرية، إذ أنّ نصف سكّان العالم العربي هم دون سن الخامسة والعشرين من العمر، تبدو التركيبة السكانية مسألةً حاسمةً في هذا السياق شكّلَت كتلةً حرجةً لانتفاضة الشعوب وانقلابها على واقعها المتردّي، يتطلّع هؤلاء الشباب إلى وظائف وحياة كريمة، كما يمسكون بأدواتٍ بالغة التأثير تتمثّل في إمكانية الوصول إلى شبكة الإنترنت واستخدام أداتها الأكثر فعاليةً اليوم وهي وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت تشكّل أداة تعبئة سياسيّة حاسمة وكان لها الدور البارز في مراكمة وتجميع الأصوات الفردية التي نحتت لحظة الخروج إلى الشارع والمطالبة بالتغيير والحقوق المسلوبة ودشَّنَت بداية مرحلةٍ من التحولات التاريخية العميقة في المنطقة والعالم على حدّ سواء.
ينتقل الكتاب بعد ذلك إلى سرد التسلسل الزمني للثورات العربية منذ أضرم محمد البوعزيزي النار في نفسه في يوم 17 ديسمبر عام 2010، مقدّماً حياته قرباناً للثورات وحتى اندلاع الحرب السورية الشرسة بعد أن مارس النظام السوري كافة أشكال القمع والتنكيل ضد الاحتجاجات السلمية مروراً بفشل تجربة الإخوان المسلمين في الحكم في مصر وعودة العسكر إلى الحكم عبْر الرئيس الجديد عبدالفتاح السيسي.
يفرِد الكتاب مساحته الأبرز للثورة المصرية وما تلاها في مصر مقدّماً قراءات تحليلية في تجربة حكم الإخوان المسلمين والرئيس محمد مرسي واستشرافات ترصد النشاط السياسي آنذاك وتداعياته الدراماتيكية مؤكّداً مراراً على قناعته بأنّ الانتصار سيكون للديمقراطية في نهاية الأمر وأنّ ما بدأ في “ثورة تويتر” سوف يقود في نهاية المطاف إلى “ديمقراطية تويتر”، كما يناقش الكتاب أبعاد الصراع السياسي على السلطة في كلّ من مصر وتونس قبل أن ينتقل إلى المسألة السورية كمحور رئيسي آخر.
في الشأن السوري فإنّ الكاتب يحثُّ المجموعة الأوروبية على ضرورة تقديم الدعم للجيش الحرّ وتزويده بوسائل مضادّة للطائرات لمواجهة الدعم اللاّمحدود الذي يتلقّاه النظام من حلفائه روسيا وإيران وبضرورة إقامة مناطق حظر طيران تشكّل جزر آمنة للسوريين الذين فرّوا من ويلات الحرب المدمّرة، إذْ أنّه دون مناطق حظر الطيران التي تمّ فرضها في ليبيا لكنّا شاهدنا مجازر كتلك التي شاهدناها في سراييفو وسربرنيتشا، وأنّ التردد في تقديم هذا الدعم من شأنه أن يغذّي القوى المتطرفة التي تتطلّع للهيمنة على مجريات الأمور في سوريا، وبأنّ تخلّي الغرب عن مساعدة الجيش الحرّ لصالح التركيز على محاربة تنظيم داعش إنّما كان بمثابة مساعدة للأسد الذي يعتبر المشكلة وليس الحلّ في سوريا.
ربما تكمن أهمية الكتاب في طابعه الميداني أوّلاً كونه يقدِّم مسحاً شاملاً لخارطة الحراك العربي الذي دشّنته لحظة “البوعزيزي” من وجهة نظرٍ غربية؛ وفي كون مؤلّفه غير عربي ثانياً، كما أنّه لا يأتي من الهامش النظري لمادّته، بل هو فاعل في صياغة السياسة الشرق-أوسطية لتحالف الليبراليين الديمقراطيين من أجل أوروبا ومندوبها إلى المنطقة، كما أنّه وإلى جانب ما يرصده من تفاعلاتٍ على أرض الواقع، يقدّم مساهمةً هامة في قراءة النظرة الأوروبية لظاهرة الربيع العربي وثوراته اللاحقة، وإنْ كان يؤخذ على محتواه وعلى تقديمه الذي وضعه فيرهوفشتات وروّج لفكرة المجتمع المتوسطي؛ غياب نقاشٍ حقيقيّ لا مفرّ منه حول مركزية المسألة الفلسطينية وحول السياسات الإسرائيلية التي تسير في اتجاه مغاير تماماً لمفهوم الشراكة المقترحة.