بنية المكان في الرواية الكنفانية
تَتَمَثَّلُ المقُولاتُ الأساسيةُ التي تنهضُ عليها الرِّوايةُ الكَنَفَانِيَّةُ في ستة مصطلحات مفهومية هي الوطن؛ الهُوِيَّة؛ المنفى؛ الوعي القائم؛ الوعي الممكن، الرؤية للعالم. وباعتبار أنَّ فنِّ السَّرد الروائي “عملية اجتماعية رمزية مركزية” يتصدَّى لإتمامها أشخاصٌ مُبْدِعُون، فإنه يَنْهَضُ، في الرِّوايةِ الكَنَفَانِيَّةِ، باحتواء هاته المقُولات ليعمل على تجسيدها، فنياً، على نحو يُجلِّي حضورها في جميع مكونات الرواية وعناصرها الفنية المختلفة، وضمنها بالطَّبع البنية المكانية الحاكمة تشكُّل الرِّوايات الكَنَفَانِيَّةِ الأربع النَّاجزة، والمؤسِّسة لانبثاق السَّرد الرِّوائي فيما هي تتجلَّي في نطاقه مُحفِّزة تقدُّمه عبر تنوُّع مساراته.
تتداخل نصوص غسان كنفاني الروائية لتُشكِّل، عبر تضافر شفراتها وتشابك علاقاتها وتفاعلها المفتوح، سياقها الخاص في الإطار العام للرواية الفلسطينية الذَّاهبة نحو تأسيس مسارها الخاص في الإطار العام للرواية العربية، وربما العالمية أيضاً. وتتأكَّد جدارة هذا الافتراض حين نتعامل، مباشرةً، مع النُّصوص الروائية الناجزة؛ وهي الروايات الأربع المعروفة (1) التي كان غسان كنفاني قد أتمَّ كتابتها، وأَقْدَمَ على نشرها قبل اغتياله ولمَّا يبلغ السادسة والثلاثين من العمر بتفجير سيارته صباح يوم الثامن من (يوليو) تمُّوز 1972 في منطقة الحازمية في بيروت؛ فقد جاءت كلُّ واحدةٍ من هذه الرِّوايات وهي تحملُ سؤالها، تاركةً دروبَ الإجابة عنه مفتوحةً، لنعثر عليها، أو على اتجاه البحث عنها، في الرواية التالية.
سُؤَالُ الهُوِيَّة والطَّريق
إنَّ أبطالَ الرِّواية الأولى “رجال في الشَّمس“، المقتلعين لتوهم من الوطن، والمقذوفينَ إلى شراسة المنفى، والمدفوعين، قسراً وعنتاً، إلى الانخراط في ديامِيسِهِ، إنما يتساءلون عن علَّة وجودهم في الوجود، ويبحثون تحت ضغط الضَّرورات الاجتماعية والطبيعية والاقتصادية والسياسية، وغيرها من الضَّرورات والعوائق القاهرة، عن حلولٍ فردية لمآسيهم التي نظروا إليها على نحو فرديٍّ قادَ بحثُهم صوبَ اتجاهاتٍ تفرضها طبيعة هذه النَّظرة الفردية. وليست هذه الاتجاهات، في واقع الحال، إلا تنويعاتٍ على اتجاهٍ مُهَيمِنٍ هو اتجاه الانخراط في المنفى، والبحث عن منفى آخر في المنفى. وهو اتجاه يسير في الطَّريق المعاكسِ طريقَ الوطن، إذْ يُحَرِّكهُ وعيٌ عاجزٌ عن وعي عقابيلَ الإذعان لسطوة القوى المروِّجةِ فكرةَ وجودِ عِلَّةٍ للوجود، ولبناء المستقبل الفرديِّ، أو الجماعيِّ، خارج الوطن، وخارج الانخراط في حركة جماعِيَّة تعملُ، بدأبٍ ومُثابرةٍ، على استرجاعه وبناء مستقبله ومستقبل الإنسان الفلسطيني فيه.
وإذْ تنتهي رواية "رجال في الشَّمس" بموت رجالها الثلاثة داخل “خزَّان”، وهم يُحَاولون اجتياز “الحدود” البعيدة عن “حدود” الوطن، نهايةً فعليةً منطقيةً لرواية درامية، ولمسار أحداثها، فإنها؛ أي الرِّواية، تعودُ لتحفر لنفسها مساراً جديداً ينطلق من نهايتها؛ أي من الموت، لتلقي عبر مفصلها الأخير، الذي هو ” القبر”، بالجثث الثلاث فوق “مزبلة” في عراء الصَّحراء وتحت محرقة الشمس، غارسةً سؤالها في صحراء الذَّات الفلسطينية الهاربة، وفي مدارات الكون: “لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟“(2)، وهو السُّؤال الذي ينزلقُ فكرةً من رأس أبي الخيزران؛ سائق الشاحنة، لتتدحرج على لسانه سؤالاً استنكارياً فاجعاً، ولتبدأ “الصَّحراءُ كلُّها تردِّد الصَّدى” (3) الرَّاجعَ من ضَرَاوة هذا السُّؤال المرير، والذي يرتدُ رَجْعُهُ، بضراوةٍ أشدّ وأعتى، على الصَّارخ به قنوطاً أو يأساً أو إدانة للذّات جرَّاء عجزها عن إعمال العقل في تدبُّر شؤون حالها المأساويِّ الرَّاهنِ وإدراك مُسبِّباته ومُمْكِنَات مآلاته، وخوض معركتها الوجودية مع ضراوة العدم، وضرورات الحياة!
يَنْسَلُّ سؤال النهاية الثانية للرواية الأولى "رجال في الشمس" ليحفر لنفسه مساراً في الرواية الثانية “ما تبقى لكم“، حيث يتطور الأمر من مجرد سؤال عن عِلَّة الوجود في الوجود، وعن الموت الناجم عن العجز عن دقِّ جدران الخزان – القبر، إلى السُّؤال عن الهُوِيَّة: من أنا؟ وهو سؤالٌ مسكونٌ بالأسئلة السابقة، ومنفتحٌ على أسئلة أخرى تنبثق عنه كإجابات تجيء على هيئة أسئلة تتوالد إذْ تقذفها الشَّخصيات الروائية من مواقع متعارضة، ومن منظورات متباينة، لتخلق توتراً درامياً متصاعداً يشقُّ مجراه في موقعي الحدث: الصَّحراء والبيت، ويصلُ نهايته الحتمية مع انبثاق بدايةٍ جديدةٍ تشي بالمسار الذي ينبغي لسؤال البحث عن الْهُوِيَّةِ أن يخترقه؛ وهو المسار الذاهب باتجاه الوطن الذي من الانتماء إليه تنبع قدرة الذَّات على الاختراق والتجاوز ومتابعة العبور صوب أفقٍ آخر يُفضي عبوره إلى صوغٍ هُوِيَّة جوهريةٍ عميقة تتبدَّى مكوناتها مع توالي تقدُّمه، وتعاقب مراحله، وتنوِّع مساراته.
فإذا كان أبطالُ رواية "رجال في الشَّمس" يحاولون اختراق “باب جبار لقدر جديد مجهول”(4) فيما هم عاجزون عن قرع جدران الخزان لأنهم يتحركون في الاتجاه المعاكس للمسار الصحيح؛ فإنَّ كلاًّ من “حامد” و”مريم” في “ما تبقى لكم” يخترقان بوابات القدر، الأول “بمزيج من المشاعر التي تملأُ قبضتيِّ مُغامر شُجاع وهما تدقَّان بوابةً مجهولة”(5)، والثانية “بكل ما فيَّ (فِيهَا) من قوَّة”(6)، لأنهما يخطوان في المسار الذاهب باتجاه الوطن، والمتداخل معه، وفيه. غير أنَّ هذا المسار الذي ينتهي بإقدام “حامد” على قتل “الجندي الإسرائيلي” الذي اعترض طريقه فيما كانَ يخترقُ صحراءَ النَّقب المُحتلَّة ذاهباً إلى حيثُ أمِّه، وبإقدام “مريم” على قتل “زكريا النتن” الذي لم يكفَّ أبداً عن مطالبتها بالتخلُّص من الجنين الذي حملت به منه سفاحاً، ليس إلاَّ بدايةً لتلمس الإجابة عن سؤال الهُوِيَّة، وعن الأسئلة التي تسكنه؛ لأنَّ أياً من الفعلين، على الرغم من أنهما يهدفان، باتجاهات متقاطعة، إلى تجاوز الماضي المُكبِّلِ الكابحِ، واختراق حائط الضَّرورات، عبر الاعتماد على الذَّات في مواجهة ضراوة العالم، يظلُّ فعلاً فردياً منطوياً، في حدِّ ذاته، على شيء من الإحساس الفردي بالعجز المهيض، وعلى التَّسرُّع الانفعاليِّ والابتسار وغياب الاستمرارية، وهو ما يترك سُؤال الرواية مفتوحاً على إمكان تطوير الإجابة عنه في سياق البحث عن هُوِيَّة الذَّات؛ عن علَّة وجودها، عن دورها في العالم، وعن الطَّريق الذي ينبغي للفلسطيني أن يسلكه بحثاً عن هُوِيَّته، وعن مستقبل وجوده في الوجود.
ثمة تكثيف للواقع وكشف عن شروطه وعلاقات مكوناته، وثمة استشراق لأقصى درجات الوعي الممكن لدى الشخصيات التي تجسد الرواية الكنفانية صراعها مع ضرورات الحياة
وتجيء رواية “عائد إلى حيفا“، مثل غيرها من روايات كنفاني، مواكبةً المسارَ الواقعي للقضية الفلسطينية، ولأسئلة الفلسطيني في المنفى، تلك المنبثقة عن وعيه الممكن الذي يستشرفه غسان كنفاني، ويكثِّفه، ويفجِّره أسئلة تبحثُ عن إجاباتها التي تُفَجِّرُ، بدورها، أسئلة أخرى تبثُّها رواياته، أو تتأسس عليها. ولقد جاء التَّوحيد الواقعي لأرض فلسطين عقب إكمال احتلالها من قبل إسرائيل في يونيو (حزيران) من العام 1967، ليدفع غسان كنفاني إلى طرح سؤال رواياته المتكرِّر والمكثَّف؛ سؤال الهوية والطريق، وذلك من منظور علاقة الذَّات الفلسطينية بماضيها في الوطن؛ ماضيها الذي يسكنها والذي ترى إليه بوصفه ماضياً قابلاً للاستعادة ليكون مستقبلاً، أو نقطة انطلاق لتواصل العلاقة مع الوطن بمعزل عن الانقطاع الناجم عن الاحتلال، والاقتلاع، وذلك عبر نوع من الدِّفاع النَّفسي (السيكولوجي) اللَّاواعي الذي يُحاول إلغاء هذا الانقطاع وتغيِّبه عن الوعي، أو عبر محاولات واعية لدفنه في أعمق أغوار الوعي الباطن، وكبح أيّ إمكانية لانفجاره!
وإذْ تطرحُ “عائد إلى حيفا” سؤالها، فإنها تنتهي بترسيخ قناعة بطلها "سعيد س"، البرجوازي الصغير، بأنه وزوجته “صفية” المسكونة، مثله، بثقل الماضي، قد أخطئا حين اعتبرا “أنَّ الوطنَ هو الماضي فقط” (7) ذلك لأنَّ “فلسطين الحقيقية التي هي أكبر من ذاكرة، أكثر من ريشة طاووس، أكثر من ولد…” (8)، وأكثر من “مجرد تفتيش عن شيء تحت غبار الذاكرة” (9) لا يقود إلى العثور على شيء سوى الغبار، هي فلسطين – الوطن الذي يعرفه خالد، ويرى إليه، “فالوطن عنده هو المستقبل” (10)، مثلما هو كذلك عند عشرات الألوف من أمثاله الذين “لا تستوقفهم الدُّموع المفلولة لرجال يبحثون في أغوار هزائمهم عن حُطَام الدُّروع وتُفْل الزُّهور” (11). إنَّ خالداً وأمثاله “يُصَحِّحُون أخطاءنا وأخطاء العالم كلِّه”(12)، كما يقول “سعيد س″. وإذا كان هذا الأخير قد حال دون ابنه “خالد” وتحقيق رغبته في الالتحاق بحركة الكفاح المسلَّح، في بداية الرواية؛ فإنه يكتشفُ، عقب المجادلة الحامية التي دارت بينه وبين ابنه “خلدون” (13)، عمق الوهم الذي خَلَقَهُ، وعاشَ لَهُ، وأوغل فيه، كما يكتشف الخطأ الفادح الذي ارتكبه حِينَ مَنَعَ ابنه “خالد” عن الانخراط في حركة الكفاح المسلَّح من أجل تحرير فلسطين، وذلك لأنه بات مقتنعاً أنَّ استعادة البيت – الوطن “شيء تحتاج تسويته إلى حرب” (14).
تتجاوبُ إجاباتُ “عائد إلى حيفا” مع إجابات “ما تَبَقَّى لكم” حيث يلتقي وعي البرجوازي الصَّغير مع وعي ابن المخيم في صوغ الإجابة، وتطويرها، وتوسيع حيِّز حضورها في الذَّات الفلسطينية التي تبدو وكأنما هي تصوغ ذاتها فيما هي تصوغ إجاباتها عن أسئلة التصحُّر والموت: أسئلة منفاها وموتها في المنافي؛ أسئلة ماضيها الذي ترى فيه مستقبلها وتحاول استعادته؛ أسئلة الوطن الذي اكتملت سرقته وبدا مُنْكِراً أبناءه الذين اعتقدوا أنَّهم عادوا إليه راجعينَ إلى عيش ماضيهم فيه بعد اكتمال سرقته وتوحُّده تحت الاحتلال الأجنبي الغريب، كما نرى في “عائد إلى حيفا”. وحين تجيب “عائد إلى حيفا” عن كلِّ هذه الأسئلة مكتشفةً وهم الاعتقاد بإمكان مواصلة العلاقة مع الوطن تحت نير الاحتلال؛ فإنها بذلك، وبتجاوبها مع إجابات “ما تبقى لكم” تشير إلى مغزى تجاوز الإطار الفردي، وتؤكِّد أنَّ إعادة صوغ الذَّات الفلسطينية، وترسيخ هويتها، وتأكيد حضورها في الحياة، يكون جماعياً أو لا يكون، وأنَّ الطريق الوحيد المفضي إلى ذلك هو النِّضال الوطنيُّ التَّحرُّريُّ، وفي مقدم وسائله الكفاح المسلَّح الذي ستأتي رواية “أم سعد” لتؤكِّد ضرورة اعتماده أسلوباً أساسياً من أساليب هذا النِّضال، وذلك بجلاء شديد، وبتواشج عميق يجمع ما بين المنظور الرؤيوي الذي تنطلق منه “أم سعد” التي يُجَسِّدُ صوتُها “صوتَ تلك الطبقة الفلسطينية التي دفعت غالياً ثمن الهزيمة” (15)، والمنظور الرؤيوي الذي ينطلق منه الرَّاوي؛ البرجوازي الصغير والمثقف الثوري، الذي يعرف “أم سعد” جيداً، ويُحْسِنُ التَّعلم منها، لأنها “ليست امرأة واحدة” (16)، وإنما هي، في نظره، جمعٌ في صيغة مفرد أو مفردٌ في صيغة جمع، فَصَوُتُهَا هو صوتُ تلك الطَّبقة “المسحوقة والفقيرة والمرمية في مخيمات البؤس" (17)، والتي هي “المُعَلِّمُ الحقيقيُّ الدَّائم، والذي في صفاء رؤياه تكون الثَّورة جزءاً لا ينفصم عن الخبز والماء وأكفِّ الكَدْحِ ونَبْضِ القلب” (18).
لوحة: برهان كركوتلي
تَحَوُّلاتٌ درَامِيَّةٌ ومَلْحَمِيَّة
إنَّ عثور الأسئلة التي طرحتها رواية "رجال في الشَّمس" على إجاباتها في الرِّوايات التي أعقبتها، تلك التي صدرت تباعاً خلال ست سنوات من عقد السِّتِّينات من القرن الماضي، لأمرٌ ذو دلالة على أكثر من مستوى وصعيد؛ فمن جهة أولى، ثَمَّةَ تكثيفٌ للواقع وكشفٌ عن شروطه وعن العلاقات القائمة بين مكوناته، وثمة استشرافٌ لأقصى درجات الوعي الممكن لدى الطبقات والفئات الاجتماعية التي تُجَسِّد تلك الروايات اصطراعها الدَّاخليِّ اللَّاهب وصراعها القاسي مع ضرورات الحياة وشروطها القاهرة. وثمة، من جهة ثانية، تحويلٌ فنيٌ عميق لزخم الواقع الفلسطيني في مرحلة التَّحَوُّلات المتسارعة خلال عقد الستينات من القرن الماضي، وهي المرحلة التي تتجاوب، في الواقع الفعلي، مع تحولات وانتقالات فلسطينية وعربية، فكرية وأيديولوجية ومجتمعية وسياسية، مُتضاربةٍ وشديدةِ التَّسارع. ومن جهة ثالثة، ثمة تحويلٌ فنيٌ لمغزى هذا التَّسارع، ولا سيما في رواية “ما تبقى لكم” التي تشهد تحولات درامية لمفهوم الزَّمان، وتقيم تقابلاً حاداً بين الزَّمن الطبيعي والزَّمن الإنساني، وترى أنَّ الزَّمن يفقد ثقله الباهظ، وجموده وثباته ثقيل الوطأةِ على النَّفس، حين يكون مجالاً حيوياً لتحولات مُتَسَارِعَةٍ لا تكفُّ عن اجتراح تحولات جديدة يتطلَّعُ إليها، ويُحفِّزُ حدوثها ويُحْدِثُها، الإنسان. ومن جهة رابعة، ثمة تحويلٌ فني للعلاقات القائمة بين الإنسان والمكان والزَّمان، وللمقولات الفكرية والأيديولوجية البارزة على السَّطح، أو الكامنة في أعماق البنية المجتمعية والثَّقافية وممكنة الانبثاق أيضاً، وهو تحويلٌ يعمِّق صلة الرواية الكنفانية بالواقع الفلسطيني وبسياقاته الاجتماعية والثقافية العديدة والمُتنوِّعة، ويَحْفُرُ لها، بوصفها قولاً لغوياً أو ملفوظاً حكائياً، سياقاً فنياً خاصاً في إطار السياق العام للرواية الفلسطينية، ويُحَدِّدُ لهذا السياق الكنفانيِّ الخاص موقعاً فكرياً وإبداعياً متميزاً، وذلك باعتبار أنَّ الفنَّ “مجال خاص من مجالات الأيديولوجيا” (19)، ولأنه “تفكيرٌ عيانِيٌّ في تَصَوُّرَاتٍ تَعْمِيمِيَّةٍ يجري إنشاؤها بواسطة المفاهيم، وهو يُعِيدُ خَلْقَ الحياة في صور” (20)، فيفسِّرها، ويُصْدِرُ حُكْمَهُ، المشروط بمعطيات شبكة علاقات زمانه ومكانه، عليها.
واستناداً لما سبق، سَيَصْدُقُ على الرِّواية الكَنَفَانِيَّة أنْ تُسمَّى “رواية التحول الفلسطيني في الستينات“؛ أو “رواية سُؤَال الهُوِيَّة والطَّريق“؛ رواية البدء في إعادة صَوْغ الهُوِيَّةِ الوطنية في مجرى نضالٍ تحرُّريٍّ مريرٍ ونبيل. وفي هذا الضَّوء، سَيَصْدُقُ أنْ نرى إلى غسان كنفاني بوصفه واحداً من صُنِّاع الهُوِيَّة الوطنية الفلسطينية التي أخذت تتلمس طريقها ومكوناتها في سديم المنافي، وفي عتمة الاحتلال الاستيطاني الاقتلاعي الإحلالي الذي أنتجَ لدى الفلسطيني المقتلع من وطنه شعوراً ضارياً بالاغتراب عن المكان – الوطن البعيد السَّليب، ولدى الفلسطيني الذي نجا من الاقتلاع فتشبثَ بالوطن شعوراً أشدَّ ضراوةً بالاغتراب المُضَاعِفِ داخل المكان – الوطن المحكوم بالاحتلال الأجنبي الاستلابيِّ الضَّاري (21).
وإذا كانت درامية الحياة في كلا المكانين: المنافي، والوطن المحكوم بالاحتلال، قد فرضت أسئلة شديدة الدرامية كسؤال البحث عن هوية الذَّات الفردية والجماعية، وتعرُّف مكوناتهما وقواسمهما المُشتركة وأولوياتهما، والسُّؤال عن عِلَّةِ الوجود في الوجود، وعن مغزى الحياة في عالم يمضي مسرعاً فيما الفلسطيني يقفُ وحيداً، عارياً وعاجزاً، أمام قدرٍ غامضٍ أو خَفِيٍّ تماماً؛ فإنَّ الإجابة الفلسطينية الفَرْدِية عن هذه الأسئلة المُتشعِّبة والمفجِّرة أسئلةً جديدةً، قد انطوت على تنويعاتٍ دراميةٍ، وعلى إمكاناتِ نموٍ سرديَّ مُتشعَّبِ الدُّروب، جعلت من وقوف الفلسطيني، ساكناً مُستكيناً، في ظاهر الحياة الواقعية، حركةً شديدة التَّوَتُر في باطن هذه الحياة، وفي أعمق أغوار الذات، وهو الأمر الذي نجده جلياً في الروايات الثلاث الأولى التي شرعت شخصياتها في البحث عن ذواتها وعن حضورها في العالم، خارج ذواتها وخارج الوطن (قلب العالم)، فانتهت محاولاتها الباحثة عن منفى آخر في المنفى، بعيداً عن الوطن، إلى موت مهين داخل خزَّان مُغلقٍ يُلهبهُ القيظ، وعلى حافَّة مزبلةٍ في هجير الصَّحراء، هو ذاك الموت الذي إليه انتهت مصائرُ الشَّخصيات الرئيسة في "رجال في الشمس".
يصدق على الرواية الكنفانية أن تسمى "رواية التحول الفلسطيني في الستينات". "رواية سؤال الهوية الفردية والوطنية في مجرى نضال تحرري مر ونبيل
وإذْ غيَّرت الشَّخصيات الرِّوائية اتجاهها فراحتْ تبحثُ عن ذواتها وعن حضُورها في العالم، داخل الذَّات وداخل الوطن الذي يسكنها ولا تستطيعُ سُكْنَاهُ، جاعلةً من الذَّات، من جهةٍ أولى وفي تفاعلٍ مُتَّصل، فاعلاً حيوياً لا يكفُّ عن إطلاق الأسئلة والبحث عن إجاباتٍ عنها عبر التَّجربة الحيَّة، وموضوعاً للتأمل والاكتشاف والكشف وتحفيز الإرادة واختيار الطَّريق، وجاعلةً من الوطن، من جهةٍ ثانيةً وفي انفتاحٍ تفاعليٍّ على مكنونات الأنا العميقة، مجالاً حيوياً لوقع الخطوات التي تَحْفُرُ مجراها فوق ترابه المُحتلِّ لتحريره واستعادته، حيث يلتقي الفلسطيني، وجهاً لوجه، عدوَّه، غاصبَ وطنه وسارق حاضره ومستقبل وجوده، وحيث ينبثق عن هذا اللقاء زمنٌ آخر هو “زمن الاشتباك” الذي تبدأ الذَّات الفلسطينية، مع انبثاقه، في عبور طريقها المفضي إلى العثور على أصوب الإجابات عن أسئلتها الوجودية الفاجعة؛ وكأنما الدُّخول إلى الوطن وفي الوطن، دخولٌ إلى الذَّات وإبحارٌ في أعماقها، وكأنما الوطن لا يثق بمن يدخلُ إليه وهو خارج ذاته مُغترباً عنها، أو كأنما الوطنُ يُلحُّ على أن يفتحُ أبوابَ الدُّخول إلى أعماق الذَّات لحظة الإقدام على دخوله، ليكون هو دائماً الوطن المُعرَّف فحسب؛ أي المجال الحيوي لتحقيق الهُوِيَّة بمغزاها الجوهري العميق، ولتجسيد الذَّات الكليةِ التي تَضْفُرُ، في إهابٍ واحدٍ، ماضيَ الإنسان الفلسطيني، وحاضرهُ، ومستقبلهُ المفتوحَ على آفاقٍ مُستقبليةٍ لا تُحَدُّ.
وهذا شيء مما تقوله روايتا “ما تبقى لكم” و”عائد إلى حيفا”. وإذا ما كانت الرِّواية الأخيرة قد أكَّدت، عبر تجربة شديدة الدرامية، أنَّ النِّضالَ خلاَّقُ هُوِيَّة، وأنه الطَّريق، فإنَّ العبور الجماعي، أو الذَّهاب الجماعي إلى الوطن عبر النِّضال، هو ذهابٌ نحو الالتحام بالذَّات الكلية الجامعة، وخلوصٌ من تشظي الذَّوات الفردية ومن تمزُّق هُوِيَّاتها، وكأنَّ تَمَاسُكَ الهُوِيَّةِ الفردية مُنْسَجِمة المُكوِّنات، لا يكونُ، ولا يتحقق، إلاَّ إذا كانت هذه الذَّاتُ تجلياً عميقاً وعمقياً للذَّات الكُلِّية الجامعة. ولعلَّ هذا المغزى أنْ يكونَ هو، بالضبط، ما يقف وراءَ حُضُورِ “أمّ سعد” بوصفها شخصيةً ملحميةً تعكس من خلال خصوصيتها وتفرُّدها، وارتباطها الجذري بالوطن، وحدة الخاص والعام، فتوجز في تكوينها سمات هُوِيَّة الشَّعب الذي تنتمي إليه ورؤيته الممكنة للعالم، على نحو ما ارتسمت في رؤية الرَّاوي الضِّمني الموثوق الذي تبدّى، على امتداد السَّرد، قناعاً للرِّوائي غسان كنفاني؛ قناعاً تتعدُّد تجلياته إذْ تَسْكُنُهُ، من حينٍ إلى آخر، أصواتٌ أخرى تعودُ إلى شخصيات روائية عديدة، ومن ضمنها الرَّاوي نفسه و”أمُّ سعد”.
ولئن كانت أم سعد صوتاً صافياً للطبقة الباسلة، المسحوقة والفقيرة والمرمية في مخيمات البؤس، فإنها، في الوقت نفسه، حاضنةٌ صادقةٌ لأصوات تَجِيء إليها من مختلف فئات الشعب وطبقاته، فتوحِّدها وتصهرها وتضفرها في سياق صوت ملحمي واحد؛ ويكفي أنْ نُشِيرَ، هنا، إلى الصِّلة الحميمية التي تربط الرَّاوي، المثقف البرجوازي الثوري، بـ”أم سعد”، الأم والمدرسة وصوت الشعب، وإلى أنَّ “أم سعد” قد رأت إلى الرَّاوي بوصفه ابناً من أبنائها، ناطقاً باسم وجدانها الأصيل. لقد جَسَّدت “أم سعد” الشَّعب والوطن في لحظة التحامهما الملحمي، حيثُ بدا أنه لا يمكن لقوَّة، مهما بلغت، أن تفصل بينهما طالما ظلَّت هذه الروح الملحمية هي الرُّوحُ المُوَحَّدةُ المُلْتَحِمَةُ، والمُوَحِّدةُ اللَّاحِمَة.
إنَّ تحوَّل الإجابات الفردية، أو الكشوف الفردية للإجابات، عبر تراكمها وتحوِّلها النَّوعي، إلى إجابة جماعية، ثمَّ الانخراط الجماعي في حركة جماعية تُحِيلُ هذه الإجابات إلى واقع يواصل الحضور، يقتضي، كي يتمَّ تحويله من "الواقع" إلى “الفن”، أن يتجسَّدَ في إطار بناءٍ ملحميٍّ يتصاعد إيقاعه مع تصاعد حركة النِّضال وهي تُجيب عن سؤال الهوية والطَّريق؛ ذلك لأنَّ الأدب والفن هما “إعادة خلق للواقع على اعتباره إمكانية… [ولأنَّ] أيَّ شيء لا يمكن أن يُوجد في الواقع لا يمكن أن يكون أدبياً” (22)؛ ولأنَّ “الجمالَ لا يتحقق في الفنِّ إلا إذا تحقق الأصل الذي يَصُوغُهُ في الواقع فعلاً” (23). فهل كان لرواية “أم سعد” أن تُوجَدُ في بنيتها الملحمية، المفارقةِ بُنى الرِّوايات الكنفانية السابقة لها، لو لم يكن الواقع الذي سعت إلى تحويله فنياً واقعاً ملحمياً؟ أو لم يكن التَّحوُّل الذي شهده الواقع الفلسطيني بالخروج من “الزمن المأساوي” إلى “الزمن الملحمي” دافعاً رئيساً وأصيلاً لانتقال الرواية الكنفانية من الدرامية إلى الملحمية؟
إنَّ “أم سعد” كرواية ملحمية مفتوحة تتجاوب مع واقع ملحمي مفتوحٍ تظلُّ، حتَّى هذه اللحظة من تاريخنا، قابلةٌ لاحتضان إيقاع الخطوات الفلسطينية في رحلتها الملحمية باتجاه الوطن، وفي الوطن، وهي تدعونا، باستمرار، إلى أنْ نرى الدَّالية التي برعمت، وأن نتعهَّدها بالسِّقاية والرَّعاية والتَّشذيب، وبكل ما يجعلها قادرةً على ترسيخ جذورها في الأرض، وعلى النُّمو والاخضرار والإثمار، ومواصلة الصُّعود. إنها تدعونا، الآن، إلى التأمُّل في مسار الرحلة، وإلى قراءة ما جرى وما يجري، وتحثُّنا على مواصلة الخطو كي نقطف ثمار الدَّالية التي برعمت قبل نصف قرنٍ، وذلك رغماً عن إدراكنا حقيقة استمرار وجود قوى وكيانات وأشخاص لا يُريدون لنا قطفَ عناقيدها التي شارفت، برواء الدَّم وعبير الأرواح، على النًّضوج، وذلك لأنهم يُريدون الاستمرار في اغتصاب وطننا، وفي توسيع حضورهم باستلاب المزيد من بلاد العرب، للاستمرار في سَلْبِنَا جميعاً كلَّ ثمرةٍ من ثمار نضالنا المُشترك الشَّاق، المرِّ والنَّبيل، الذي سَلَبَنَا أجملَ سنيِّ العُمْرِ، وأنْبَلَ من كانَ فينا من الرِّجال والنِّساء، وأجمل من كان بيننا من الأطفال والشَّباب والكهولٍ والشًّيوخ!
منْ نحنُ؟ وإلى أينَ نَسِيرُ؟
على هذا النَّحو من التَّواشج العميق بين أسئلة الروايات وإجاباتها، وللأسباب والعوامل التي بينَّاها، بإيجازٍ توخّيناهُ غيرَ مُخِلٍّ بما أردنا بيانه، تبدو كل واحدة من الروايات الأربع وهي تؤسس، عبر شفرتها الخاصة، وجودها الخاص، فيما هي تُشير إلى احتمالٍ روائيٍّ جديدٍ، آتٍ، يتكفَّلُ فورَ إنجازه ونشره، بإثراء الرِّواية السَّابقة عليه إثراءً فنياً ودلالياً، وبتعميق السِّياق الرِّوائي الكنفاني بأكمله، وإعادة بناء علاقاتِ تَدَاخُل مكوناته وتفاعلها وتكاملِ وحدتها الإبداعية. وفي هذا الإثراء والتطوير وإعادة البناء والبنينة عبر التَّواصل والتفاعل الجدلي الخلاق، ومن خلال مواكبة الرواية الكنفانية مأساويةَ الواقع الفلسطيني ودراميته التي عكستها الروايات الثلاث الأولى وهي تصوغ حكايات أفراد يُواجهون أقدارهم، وملحميتهُ التي عكستها “أم سعد” وهي تصُوغ مسيرة شعب شرع في إعادة صوغ هويته إذْ عثر على جدارة وجوده في الحياة وعلى جدوى حضوره الفاعل في العالم؛ أقولُ، في كُلِّ هذا تكمنُ بالضَّبط، خصوصيةُ السِّياق الرِّوائي الذي خطَّتهُ الرِّواية الكنفانية لنفسها، وفي هذه الخصوصية تكمنُ أهمية الرِّواية الكنفانية التي تؤسَّس قدرتها على مواصلة الحياة في الزَّمان كَنُصُوصٍ روائيةٍ تأسيسية.
ولعلَّ هذه الأهمية أن تكون مجسَّدةً في الصِّلة العميقة التي تربط الرواية الكنفانية بمقولتي الهُوِيَّة والمنفى، أو لنقل “القومية والمنفى“؛ وذلك على حدِّ تعبير إدوارد سعيد في سياق آخر، واستناداً إلى إدراك ما بين الهوية والقومية من تمايزٍ وتَضَافُر، فالثَّانية هي حاضنةُ الأولى، وكلاهما ينحدرُ من منبع واحد، يقول إدوارد سعيد:
“المنفى والقومية.. لا يمكن فصلهما أبداً. وفضلاً عن ذلك فإنَّ المصطلحين ينحدران من أكثر المشاعر الجماعية جماعيةً، ومن أكثر التجارب الخصوصية خصوصيةً،.. ولنأخذ السَّرد الروائي مثالاً لما أحاول أنْ أصف، فكما اقترحتُ من قبلُ نَجِدُ كلَّ شعبٍ أو أُمَّةٍ تبني وعيها الجماعيَّ بذاتها حول رواية قومية تُفَسِّرُ ما نفعله “نحن”، وكيف صرنا ما “نحن” عليه، وإلى أين نتجه “نحن”. وبهذا المعنى فالسَّردُ الرِّوائيُّ، في قول فردريك جيمسون، هو عمليةٌ اجتماعيةٌ رمزيةٌ مركزيةٌ، وهي ليست في مُتَنَاولِ كُلِّ فردٍ من أفراد الأُمَّة بتفاصيلها” (24).
لوحة: برهان كركوتلي
بنية المكان الرِّوائي: نموذج كُلِّي
في بؤرة الصِّلة العميقة بين مقولات: الوطن، الهوية، المنفى، الوعي القائم، الوعي الممكن، الرؤية للعالم، والسرد الروائي -وهي المقولات التي تعاملنا معها، صراحةً أو ضمناً، في الفقرات السابقة، والتي اتضح لنا، مع إعمال إجراءات منهجية متعاقبة سنوضحها بعد قليل، أنها تتفاعل معاً في صوغ سياق الرواية الكنفانية وتُكْسِبُهُ خصوصيته الخاصة- يَكْمُنُ مغزى دخولنا إلى قراءة تجليات المكان الروائي في الرواية الكنفانية لاكتشاف بنيته، والكشف عن دلالات هذه البنية، وعن تَحَوُّل العلاقات بين مكوناتها على نحوٍّ يُفضي إلى انبثاق تحولاتٍ لافتةٍ، وذات مغزى، في شبكة علاقاتها الدَّلالية. وقد اقتضت عمليةُ بناء نموذجا كلَّيا للبنية المكانية الحاكمة الروايات الكنفانية الأربع الناجزة أن نعتمد منهجاً تحليلياً ينطوي على ثلاث حركاتٍ إجرائيةٍ وجب إعمالها:
تمثَّلت الحركة الأولى في رصد الأمكنة الروائية لاكتشاف جميع تجلياتها المتجسِّدة في الروايات الأربع، وذلك استناداً إلى منهج استقرائي يقوم، بعد رصد جميع الأمكنة، بعزلها عن سياقاتها، وعن تداخل علاقاتها، وذلك لتسهيل عملية فرزها وتصنيفها، ثمَّ إعادة تصنيفها، بحسب المتكررات المتجاوبة أو المتعارضة، في مجموعاتٍ تتجاوب مكوناتها، وتتعارض فيما بينها وفيما تنطوي عليه، داخلياً، من عناصر ومكونات جزئيةٍ ومدلولات. وقد أفضت هذه الحركة إلى اكتشاف وجود انشطارات مُتَضَادَّة داخل المجموعة الواحدة التي تندرج تحت مقولة مكانية واحدة (الوطن أو المنفى)، وإلى إبراز حقيقة أنَّ هذه الانشطارات تُشكِّلُ مجموعاتٍ تتعارض، خارجياً، مع بعضها بعضاً، بسبب تناقضاتها الدَّاخلية القائمة في نطاق وحدتها الجغرافية أو الديمغرافية الواقعية الظَّاهرة، فاقتضى الأمر أنْ نذهب إلى تفسير هذا التناقض عبر اكتشاف أسبابه الفعلية، ومُحفِّزاته، الظَّاهرة والكامنة، ولم يكن ذلك التفسير متاحاً إلا من خلال تحليل آليات تشكُّل المكان نفسه، وهو التَّشَكُّل الذي لا يجري إلا في سياق بناء السَّرد الروائي، ولا يتحقق إلاَّ عبر صيرورة هذا السَّرد، وفي إطار تداخل علاقات مكوناته وتفاعلها المستمر.
وهكذا تمثَّلتْ الحَركةُ الثَّانيةُ في تحليل الرِّوايات الأربع من مدخل تحليليٍّ يتمركز في السَّرد الروائي، ويتوخَّى اكتشاف المقولات الأساسية التي تحكمه، والتي تفرز، تالياً، آليات تشكُّل المكان الروائي وتحكمها؛ وذلك لأنَّ هذا الأخير، بوصفه ملفوظاً لغوياً حكائياً خالصاً، لا يُوجد، ولا يمكن له أن يُوجد، إلاَّ من خلال اللُّغة التي يتوسلها السَّرد، وهو، تأسيساً على ذلك، مشروطٌ بمقتضيات السَّرد، وبآليات انبثاقه وصيرورته وتواصله؛ أي أنه مشروطٌ باللُّغة التي تُحَقِّقُ حُضُوره الحسِّي والتَّصوري؛ إذْ باللُّغة (أي بالسَّرد) تتحدَّد آليات انبثاق المكان الروائي الذي يُؤسِّسُ لانبثاقه، وبها نتعرَّف وجهة النَّظر التي تحكم تشكُّله وتعطيه جانباً أساسياً من جوانب دلالته، أي أننا ندركُ، من خلال اللُّغة، بنيته، ومن خلالها نتعرف حركته الدَّلالية وشبكة علاقاته ومدلولاته، فنُحدِّدُ هُوِيَّتهُ، ونُدْركُ صلتهُ، القائمة أو الممكنة، بالشخصيات التي تخترقهُ، أو تسعى لاختراقه، وبالأحداث التي تجري، أو يُتَوَقَّعُ لها أنْ تجري، فيه ، فَنُدْرِكُ، في ضوء ذلك، زمانيته؛ ونتعمَّق في فهم تاريخيته، وتاريخه المُتَعَيَّن الذي يَسِمُهُ بخصائصه مؤكِّداً حضوره في الزمان جاعلاً منه مكاناً زمانياً، أو مكاناً مجسِّداً لزمان، أي “زمكانا” روائيَّاً مُلْتَحِماً.
وقد أفضت هذه الحركة المنهجية إلى اكتشاف الأسئلة الأساسية التي طرحتها الروايات الأربع، وتَبَيُّن تفرعاتها، والعثور على إجاباتها المتباينة بتباين الشخصيات والتجارب، وبتعاقب المراحل التاريخية، وهو الأمر الذي مكَّنَنَا، عبر تحويل العلاقات الحسية التي تتوافر عليها المكونات المختلفة للنَّسيج الروائي، والمتشكِّلة عبر السرد، إلى مَقُولاتٍ مُجَرَّدَةٍ، من تحديد المقُولات الأساسية التي ينهض عليها السَّرد الروائي الكنفاني، والتي يُفْضِي تفاعلها المستمر والمفتوح، وعثورها على المعادلات الموضوعية الفنية التي تصهرها في نسيج سرد روائي متميز، إلى وسم الرواية الكنفانية بخصوصيات مكَّنَتْهَا من أنْ تخطَّ لنفسها سياقاً خاصاً في الإطار العام للرواية الفلسطينية والعربية، مُرسِّخةً تميزها ضمن هذا الإطارِ من الوجهتين المضمونية والفنية البنائية، على حدٍّ سواء .
تتمثل المقولات الأساسية التي تنهض عليها الرواية الكنفانية، كما أشرنا قبلاً، في ستة مصطلحات مفهومية هي الوطن؛ الهوية؛ المنفى؛ الوعي القائم؛ الوعي الممكن، الرؤية للعالم. وباعتبار أنَّ فنَّ السَّرد الروائي “عمليةٌ اجتماعيةٌ رمزيةٌ مركزيةٌ” يتصدَّى لإتمامها أشخاصٌ مُبْدِعُونَ ذوو مهاراتٍ مُميَّزة، فإنَّ السَّرد الروائي، كما يتجلَّى في الرواية الكنفانية، إنما ينهضُ باحتواء هاته المقولات الأساسية ليعمل على تجسيدها، فنياً، على نحو يُجلِّي حضورها في جميع مكونات الرواية وعناصرها المختلفة، وضمنها بالطَّبع البنية المكانية الحاكمة تشكُّل الرِّوايات الكنفانية الأربع النَّاجزة، والمؤسِّسة لانبثاق السَّرد.
تكمن خصوصية الرواية الكنفانية في قدرتها على مواكبة تحولات الواقع الفلسطيني من المأساوية إلى الدرامية إلى الملحمية عبر خلق واقع روائي فني مواز ومستقل يتأسس على قراءة ما بين الهوية والمنفى
ونظراً لأنَّ المقولتين الأساسيتين اللتين تحملان، ضمن ما تحملانه من معان ودلالات، إحالةً مكانيةً مُباشرةً، هما مقولتا “الوطن” و”المنفى“، فقد اقتضى الأمر إعادة اختبار المجموعات المكانية التي سبق فرزها وتصنيفها، للتَّعرُّف على العلاقة التي تصلها بأيٍّ من المقولتين، واكتشاف طبيعة هذه العلاقة وتبيُّن محدِّداتها، على مستويي التَّجاوب والتَّعارض؛ فاتضح أنَّ واحدة من هذه المجموعات تتجاوب مع مقولة “الوطن” في ضوء مفهومها الذي تبثه الروايات، وأنَّ مجموعة ثانيةً تتجاوب مع مقولة “المنفى” وفق المفهوم الذي تبثه الروايات أيضاً، وأنَّ المجموعة الثالثة لا تتجاوب مع أيٍّ من المقولتين، وذلك لأنَّ الأمكنة التي تضمُّها هذه المجموعة لا تقعُ، بحسب المنظور الحاكم رؤية الشَّخصيات الروائية للعالم، في أيٍّ من المجالين المكانيين اللَّذين تدلُّ عليهما مقولتا “الوطن، والمنفى، غير أنها، من وجهة نظر موضوعية مجردة تستند إلى معطيات الواقع الفعلي، لا تقعُ، ولا يمكنها أنْ تقعُ، إلاَّ في نطاق مجال من هذين المجالين؛ وذلك بمعنى أنَّ أيَّ مكان من الأمكنة المُنْدَرجة في إطار المجموعة الثالثة هو مكان واقع ضمن حدود الوطن الجغرافية، أو ضمن حدود المنفى كمجال جغرافي شاسع المسافات يتسعُ تحديدهُ لإمكان شموله جميع الأمكنة الواقعة خارج حدود الوطن، بالمعنى الوجداني والنفسي، وليس في المكان المحدَّد الذي تُوجَدُ فيه الشَّخصية الروائية في راهن الحدث الروائي، كمكانٍ لإقامتها في المنفى.
وكان علينا، في ضوء ما اتَّضحَ وتقدَّم بيانهُ، أنْ نبحث عن السِّمات الأساسية التي تنطوي عليها هذه الأمكنة، وأنْ نتعرَّف الأسباب التي تدفعُ الشَّخصيات الروائية إلى اعتبار أيٍّ منها مكاناً لا ينتمي إلى أيٍّ من المجالين المكانيين المتعارضين: “الوطن” و”المنفى”. وقد كشفت عمليات التفحُّص والتحليل والتَّدقيق أنَّ الأمكنة موضع التساؤل إنما تقع في حيز جغرافي يفصلُ الشخصية الروائية إما عن مسقط رأسها في الوطن، أو عن مكان آخر في المنفى تودُّ الوصول إليه لاعتقادها أنها تستطيع إعادة إنتاج الوطن فيه. ويتسمُ هذا الحيِّز في أنه صَعْبُ الاختراق، وذلك بسبب وجود المراكز الحدودية وما يتبع إليها من وجود قوات شرطة، وحرس حدود، وجيش. واتضح، أيضاً، أنَّ الشخصية الروائية المقيمة في مكان داخل حدود الوطن ليس هو مسقط رأسها، إنما تنظر إلى هذا المكان بوصفه مكاناً انتقالياً أو منفى، كما أنها تنظر إلى الحيز المكاني الفاصل بين هذا المكان ومسقط الرأس، وهو مكان يقع ضمن حدود الوطن الجغرافية، ليس بوصفه مكاناً هو الوطن، بل بوصفه مكاناً يتوجَّبُ اختراقه وصولاً إلى الوطن؛ أي إلى مسقط الرأس الذي هو دائماٍ قلب الوطن؛ وليس ذلك بالمعنى الشُّعوري والوجداني فحسب، بل بالمعني الحياتي والمعيشي أيضاً، حيث يتوافر مسقطُ الرَّأسِ هذا على شروط التواصل الاجتماعي والتاريخي والجذوري والثقافي مع الوطن بوصفه مجالاً حيوياً لتحقيق الهُوِيَّة، وترسيخ وجود الذَّات الفردية، والجماعية، عبرَ إحالتهما إحالةً موضوعيةً تتواصلُ فاعليةً وتطوُّراً يُرسِّخان وجودها الفاعل والمتجدِّد في الوجود.
قطبا التَّضاد: الوطن المنفى
وقد أفضت الإجراءات المنهجية التي أعملناها، والتَّحليلات النَّصية والبنائية متعدِّدة المداخل التي أجريناها، (والتي ستكونُ مُتاحةً لاطلاع القارئ، إنْ رغبَ، على صفحات كتابٍ نأملُ أنْ يُنشرُ قريباً)، إلى استنتاجٍ أساسيٍّ مُؤَدَّاهُ أنَّ المكان في الرواية الكنفانية لا يُوجد، ولا يمكنه أنْ يُوجد، إلا من خلال التضاد القائم بين مقولتي الوطن والمنفى، ذلك لأنَّ قطبي التَّضاد هذين، في مفاهيمهما المتغيرة والمتحوِّلة، وعبر ما يقع بينهما من جدل يُحرِّكه سؤال الهوية والانتماء، والأسئلة المتعلِّقة بمواجهة الضَّرورات الطبيعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وشروط الحياة القاسية النَّاجمة عن الاقتلاع من الوطن والانقذاف المُرِّ والمُتكرِّر في منافي التَّشرُّد واللجوء، أو عن البقاء في الوطن تحت شروط الاحتلال الإسرائيلي الاستعماريِّ الاستيطاني الإحلاليِّ الضَّاري، هما القطبان المُتضادان المكبوحان عن الصِّراع، أو الجدل الصِّراعي، وذلك بفعل وجود حيِّزٍ مكانيٍّ يفصل بينهما من دون توفُّر إمكان اختراقه، أو هما القطبان المتصارعان المتجادلان، خارجياً وداخلياً، موضوعياً ووجدانياً، بفعل تَمَكُّنِ بعض الشَّخصيات الروائية من اختراق هذا الحيِّز الفاصل، أو بفعل استمرار وجود نوع من الصِّراع والجدل داخل الشَّخصيات الرِّوائية، على المستوى الوجداني، وذلك لأنَّها شخصيات تحمل الوطن في وجدانها فيما هي تسكنُ المنفى في الوطن، أو تسكن الوطن القابع تحت نير الاحتلال، أو تسكن المنفى خارج الوطن الذي اقتلعت منه واستحالت، أو صَعُبتْ عليها، عودتها إليه من جديدٍ لسُكْناه.
وإذْ تنتقل حركةُ هذا الصِّراع والجدل، المواكبةُ زمانية المكانِ ووجدانيته، إلى السَّرد الروائي فإنها تؤسس مُنْطَلَقَه وتفتح أفق صيرورته، وتُعطي للحدث الروائي مجال تحقُّقه، مُحَدِّدةً المكان الذي تستدعيه حركة الشَّخصيات في الزَّمان، ومعطيةً السَّردَ الروائي، بأسره، عِلَّة وجوده، وآليات انبثاقه وتشكُّل عناصره، وإمكان تواصله، ومُعَيِّنةً مواقع الرؤية ومنظوراتها، وطبيعة الرؤى للعالم التي تحملها الشخصيات الروائية، والتي تحمل، بدورها، الوعي القائم، فيما هي تومئ إلى الوعي الممكن مشيرةً إلى اتجاه حركته الممكنة.
لوحة: برهان كركوتلي
إنَّ وقوع الأمكنة الروائية في مجالين مكانيين مُتعارضين، ووجود أماكن روائية أخرى تنتمي إلى مجال مكاني ثالث يفصل بينهما، ويخترق أياً منهما مُغَيِّراً هُوِيَّة أيِّ جزءٍ يحتلَّهُ ويُلْحِقُهُ بمجاله ليجعله فاصلاً بين أجزاء تتحوَّل هويتها بفعل وجوده كفاصل بينها، كلُّ ذلك يضعنا على مقربة من “نظرية الحدِّ” كما بسطها يوري لوتمان (26)، وذلك لأنَّ فحوى هذه النَّظرية، أو مخططها البنيويٍّ على الأقل، يتجاوب مع معطيات البنية المكانية التي تحكم الرواية الكنفانية، ولأنَّ مصطلح “الحد Boundary” نفسه، من حيث انطوائه على خصائص طوبوغرافية Topographical أو هندسية Geometrical، وفي ضوء التَّكييف المفهوميِّ الذي أجريناهُ لملائمة هذا المُصطلح مع مُعطيات النُّصوص الروائية التي نتفحَّصُهَا مُحلِّلين، يَنْهَضُ بوظيفة تقسيم المكان الروائي إلى مجالين مكانيّين غير متقاطعين؛ مجالين يتوفر كلٌ منهما على استقلالية تامة لا تتيح له نفاذاً في المجال الآخر، ولا تتيح للمجال الآخر أنْ ينفذ إليه، حيث يحوز كلُّ مجال مكانيٍّ منهما انفصالهُ واكتفاءَهُ بذاته، وذلك وفق مبدأ أساسي هو اللًّانفاذية، أو انعدام قابلية الاختراق Impenetrability.
ونظراً لنهوض الحركة الروائية في الرواية الكنفانية على مبدأ أساسي هو النَّفاذية أو قابلية الاختراق Penetrability، وهو المبدأ القائم على إقدام الشَّخصيات الروائية على اختراق الحيِّز المكاني الذي يفصل مكاناً عن مكان آخر سواه، سواء أكان هذا المكان حيزاً داخل أيٍّ من المجالين المكانيين المنفصلين، أي الوطن، والمنفى، أو كانَ مكاناً يفصل بينهما كمجالين كبيرين منفصلين؛ فإنَّنا نجد أنَّ مصطلح “الحدَّ” ملائمٌ تماماً للدَّلالة على هذا الحيِّز المكاني الفاصل، ذلك لأنَّ خصائص هذا الأخير، التي بينَّاها، تتجاوب مع خصائص “الحَدِّ” في المفهوم اللوتماني، ولا سيما حين نُدْرِجُهُ في نطاق إطار مكاني يَضُمُّ حالاتٍ أكثر تعقيداً تنهض على وجود شخصيات روائية تستطيع غشيان هذا الفضاء (المجال أو الحيِّز الرِّوائي) أو ذاك ضِدَّاً على الحدود الفاصلة بين الفضاءات (المجالات أو الأحياز المكانية).
وفي ضوء التَّجاوب القائم بين مصطلح “الحَدْ” في المفهوم اللوتماني، ورديفه المُتحوِّل لاحتواء المكونات المفهومية للمصطلح الذي نحتفظ به ونقترحهُ للإحالة، مفهومياً، إلى مدلولات المجال المكاني الثالث الذي يسمُ بنية المكان في الرواية الكنفانية، فقد عمدنا إلى تكييف مصطلح “الحَدْ” بما يتلاءم مع مقتضيات النُّصوص الروائية التي ندرسها، حيث تنطوي دلالته على إحالة واضحة إلى الأماكن التي لم تندرج تحت إطار المكان/الوطن، أو تحت إطار المكان/المنفى، في سياق محاولات الفرز والتصنيف والتحليل النَّصي التي أجريناها في الحركتين المنهجيتين الأولى والثانية. وهكذا تولَّدت إمكانية بناء نموذج كُلِّي للبنية المكانية المتجسِّدة في الروايات الأربع التي حلَّلنا بُنَاها المكانية؛ أي أمكننا الانتقال إلى الحركة المنهجية الثالثة وإنجازها، وتعرُّف خُلاصاتها.
ثمة إذنْ ثلاثة مجالات مكانية كبرى تحتضنُ كلَّ الأماكن الروائية التي تتوافر عليها الرِّواية الكنفانية: مجال الوطن، مجال المنفى، ومجال الحَدْ. ولعله من الملائم أن نشير، الآن، إلى أنَّ لكلِّ مجال من هذه المجالات، ولكلِّ مكان من الأماكن التي يَضُمُّها أو يُومئ إليها، مهما صَغُرَ أو ضَؤُلَ، حُضُورَهُ الجغرافي ومميزاته الطوبوغرافية؛ أي حضوره الموضوعي النِّسبيِّ المستقل، غير أنَّ هذا الحضور لا يتحقق في النَّص، ولا يكون ذا دلالة ومغزى، إلا عبر حضوره في وجدان الشَّخصيات الروائية، وعبر انبثاقه من خلال تعبيرها عن مشاعرها والكشف عن رؤاها للعالم؛ أي أنَّ المكان لا يَحْضُرُ بوصفه مكاناً منعزلاً يجري وصفه وبيان مكوناته بموضوعية تامة، وَحَيْدَةٍ مُكْتَمِلَةٍ، وإنما هو يحضر في النَّص لأنَّ حركة الذَّات – الشخصية الروائية، وما تنهض به من أفعال، وما تبثُّه من مشاعر وهواجس وأفكار وتصورات ورؤى وآراء، وما ينبثق عن وجدانها من أقوال وتداعيات، تستدعي حضوره، وتضعه في نطاق الرؤية البصرية والفاعلية الدَّلالية، فتجعله حاضراً في الزمان، أي تجعله زمكاناً، أو تجعله مكاناً موسوماً بالزَّمان، ومجسداً له، ومكتنزاً خلاصات تجارب النَّاس الذين قطنوهُ، أو حنُّوا إليه، أو كانوا على صلةٍ مميَّزة به على نحوٍ أو آخر.
ولا شكَّ، في هذا الضَّوء، أنَّ الزَّمان، بوصفه البعد الرَّابع للمكان، لا يتحقق إلا باختراق الإنسان للمكان مهما كانت طبيعة هذا الاختراق ومهما تباينت غاياته؛ فمن خلال حركة الإنسان، وعبر فعله في الزَّمان، يتمُّ انصهار علاقات المكان والزَّمان هذه في كلٍّ واحدٍ مُدْرَكٍ ومُشَخَّص. ومن خلال رؤية الإنسان الشُّعورية والوجدانية تُلْغَى موضوعية الظَّاهرة المكانية أو تَفْقِدُ هذه الظاهرة دلالتها القديمة، فلا تعود محضَ ظاهرةٍ هندسيةٍ ذات خصائصَ موضوعية مجردة، أو ذات دلالة معهودة مُسْبَقَةِ الوجود، وإنما تصطبغ بما تُضْفِيه عليها القيمُ الشُّعورية والوجدانية التي تتبنَّاها، أو تتسم بها الذَّات الرائية إليها، من أفكارٍ وتصوراتٍ ومدلولات؛ وذلك لأنَّ القيمَ تُغَيِّرُ الحقائقَ، وفي اللَّحظة التي نحبُّ فيها صورةً ما، أو مكاناً ما، لا تظلُّ هذه الصُّورة، أو ذاك المكان، نسخةً طبقَ الأصلِ عن الواقع الذي كانا عليه قبل اتصالنا بهما، وقبلَ انفتاح حساسيتنا المُحِبَّة صوبهما.
يتحول مكان في المنفى إلى وطن بالنسبة إلى شخصية تستبدل المنفى بالوطن، وقد يتحول مكان في المنفى إلى حد بالنسبة إلى شخصية تنهمك في البحث عن تحقيق ذاتها في المنفى، وتسعى إلى فعل ذلك في حيز مكاني آخر غير الحيز الذي تقيم فيه
الرؤية للعالم والمكان الروائي
إنَّ الرؤية للعالم التي تتأسس على علاقة تتباين طبيعتها بين الذات الرائية والموضوع المرئي هي التي تختار ما تركِّز على إبرازه، وما تُغْفِلُهُ أو تهمِّش حضوره، من مكونات الموضوع المرئي وخصائصه وسماته، وهي التي تحدِّد علاقاته، وتبني شبكة دلالاته وتؤسس تحولاتها؛ فالذَّاتُ الرائيةُ، المسكونةُ برؤية للعالم يحكمها جدل مستمر بين الذَّات والموضوع، تختارُ، بحسب تصوراتها وفي ضوء حالاتها الوجدانية والشُّعورية، المكونات والخصائص الطوبوغرافية والهندسية وغيرها من المميزات التي تسم المكان الذي تتحرك فيه، أو الذي ترنو إليه، أو الذي تستدعيه، وذلك على نحو يُؤسِّسُ لأنْ تُفضي عملية الاختيار الواعية، أو غير الواعية أحياناً، إلى إحالة كلِّ مكون أو عنصر يتمُّ اختياره إلى الدلالة على جانب من جوانب الرؤية للعالم، تلك التي يعتنقها الرَّائي أو يودُّ امتلاكها، وليس على المُكَوِّن أو العُنْصُر المُختار عَينهُ، كموضوعٍ مُنْفَصِلٍ، أو كموجود مستقل.
وإذْ تفعلُ الذَّات الرَّائيةُ ذلك، فإنما هي تُحَوِّلُ خصائصَ العناصر والكائنات والمكونات الطوبوغرافية أو الهندسية إلى خصائص شعورية تنبثق عن “طُوبُوغرافيا” الوجدان، لتسم المكان بخصائص “وجدوغرافية”، إنْ جاز التعبير، ولتجعل من هذه الخصائص بديلاً للخصائص الموضوعية المجردة غير الموسومة بعطايا الوجدان وهباته التي يكسبها للمكان إذْ يرى إليه. وليست هذه العملية محضَ إسقاطٍ للذَّاتِ الرائية على الموضوع المرئيِّ، وإنما هي نوع من الجدل الشُّعوري المُدْرَك، أو ربما الذي يُحسُّ ولا يُدرك، بين الإنسان والمكان، فالأمكنة بما لها من خصائص، وبما تنطوي عليه من زمانية، ليست محايدةً تماماً، إنها تعكس نفسها على الذَّات التي تنهض بتحويل ما تبثه هذه الأمكنة من خصائص كي تُغيِّر اتجاه حركتها الدلالية التي تتشكَّل داخل الذَّات نفسها، والتي يجري بثُّها لتُشكِّل، أو لتعيد تشكيل، رؤية هذه الذات للعالم وهي تنعكس من خلال رؤيتها للأشياء والأمكنة.
على هذا النحو نرى إلى الأمكنة الرِّوائية، ونكتشف الآلية الرئيسة التي تحكم تشكُّلها في الرِّواية الكنفانية، وهي الآليةُ التي ينبغي إدراجُ مُتطلباتها ضمن أيِّ منهج يتوخَّى تحليل هذه الأمكنة لاكتشاف علاقاتها وقراءة حركتها الدلالية، وفهم مدلولاتها وتحولاتها القائمة الآن والممكنة في المستقبل. وهذا ينطبق على المجالات المكانية الثلاثة الكبرى، كما ينطبق على كلِّ مكان تحتويه؛ فليس ثَمَّةَ من مكانٍ يمكن أنْ يُوجد بمعزلٍ عن حركة الشَّخصية ومسارها في الزَّمان، أو بمعزل عن تبدُّل مواقعها، ومواقفها، وتنامي تجربتها، وتحوُّل رؤيتها للعالم. قد يُوجد المكان/الوطن في حيِّز يحكمه نسق “هنا- الآن”، أو في حيِّز يحكمه نسق “هناك- قبلاً”، أو قد يُوجد في حيِّزٍ يَضْفُرُ الحيِّزين معاً في بنية مكانية تجمع الزَّمنين، فنكون إزاء نسقٍ مُضَاعَف “هنا- قبلاً، وهنا- الآن”. وقد تنظرُ الشَّخصية الروائية إلى مكان معيَّن في ضوء نسق “هنا- قبلاً” فتراه وطناً، ثمَّ تنظر إليه في ضوء نسق “هنا – الآن” فتراه منفى، بينما تنظر إليه في ضوء نسق “هناك – الآن” فتراه حدَّاً، أو تراه وطناً مَسْرُوقاً، وذلك في ضوء التفاعل الجدليِّ القائم دوماً بين التَّحولات التاريخية التي عاشها ويعيشها الوطن، وبين الرؤية الذَّاتية للوطن/المكان، المحكومة بموقع الرَّائي، وبطبيعة منظوره وزاوية رؤيته، وبقيم الحماية والألفة والاستقرار والتواصل الاجتماعي والتاريخي والجذوري التي يُوفرها المكان/الوطن بوصفه مجالاً حيوياً لتحقيق الذَّات، وبناء الهُوِيَّة الفردية والجماعية الجوهرية عبر تحديد مكوناتها وإعادة ترتيب أولوياتها؛ أي بوصفه ذاتاً كلية جامعةً تحتضن تحقُّق الهوية الفردية، على تنوُّعها، وتسهم في صوغها، وتنهض بمهمة تشكيل “الأنا الاجتماعية” الفردية والجمعية من خلال التفاعل الدائم بين الأَنَاتْ الفردية، وعبر جدل علاقاتها مع المجتمع والحياة والطبيعة، ومع الآخرين من بني البشر.
يتحوَّل الوطن كلُّه، أو حيِّز منه، إلى منفى، وذلك في سياق رؤية وجدانية معيشية. وقد يتحوَّلُ حيِّز من الوطن إلى حدٍّ وذلك حين يكون هذا الحيِّزُ فاصلاً صعب الاختراق يَحُولُ دون الشَّخصية القابعة في حيِّزٍ مكانيٍّ، هو منفى داخل الوطن، والنَّفاذ إلى حيِّز مكاني آخر داخل الوطن؛ هو الوطن، أو هو “قلب الوطن”، وفق منظورها. وهكذا يتجزأُ الوطنُ، وجدانياً، فلا يُنْظَرُ إليه باعتباره وحدة جغرافيةً غير قابلةٍ للتجزئة أو للانشطار، بالمعنيين القانوني والسياسي! غير أنَّ هذه التَّجزئة الوجدانية تُواجَهُ، على المستوى الوجداني أيضاً، بإصرار الشَّخصية، المقتلعة من وطنها، على حمل “مسقط رأسها” في قلب وجدانها، وعلى إسكانه أعماق ذاتها، بوصفه الوطن، بالتَّعريف، أي بوصفه “قلب الوطن” الذي لا يمكن للوطن أن ينهض حياً إلا إذا نبض في جسده المتماسكِ المُتعاضد هذا القلبُ.
ويكاد الأمرُ نفسه ينطبق على المجال المكاني الثاني؛ أي المكان/المنفى، فقد يَتَحَوَّلُ مكانٌ في المنفى إلى وطن بالنِّسبة إلى شخصية تستبدل المنفى بالوطن، وقد يتحوَّل مكانٌ في المنفى إلى حدٍّ بالنسبة إلى شخصية تنهمك في البحث عن تحقيق ذاتها في المنفى، وتسعى إلى فعل ذلك في حيِّز مكاني آخر غير الحيِّز الذي تُقِيمُ فيه لحظة انبثاق قرار السَّعي للبحث عن منفى آخر أقلَّ ضراوةً، أو أكثر وعداً وأقلَّ عداءً، في المنفى، أي أنها تسعى إلى تحقيق ذاتها في مجال مكاني هو منفى في المنفى، وهي مُجبرةٌ، كي تحقق ذلك، على أنْ تتهيَّأ لاختراق حيِّزٍ مكانيٍّ يفصل المنفى الرَّاهن عن المنفى المُتَطَلَّع إليه. وليسَ هذا الحيِّزُ، في واقع الحال، إلاَّ حدَّاً يتسم بانعدام قابلية الاختراق، حيث يكون اختراقه، إنْ وقَعَ، اختراقاً للمحرَّم من الوجهة القانونية، وهو اختراقٌ ينطوي، في الأغلب، على هتكِ مُحَرَّماتٍ أخرى، هي دائماً كوابح مُكَبِّلة، وهي دائماً متنوِّعة الحقول والمجالات وذات أنظمةِ منعٍ وتحريمٍ وكبحٍ تُوَاكِبُ تنوُّعها اللافت، وتستجيبُ لتعدُّد انشطاراتها الذي يكاد يغطي جميع منافذ الحياة التي تتوخَّى إغلاقها!
لوحة: برهان كركوتلي
بنية مكانية مُتعدِّدة المجالات والأحياز
هكذا نجد أنَّ الأمكنةَ العائدة إلى مقولات، أو مجالات: “الوطن”، “المنفى”، و”الحَدّ”، لا تقع في مجالات مكانية منعزلة ومستقلة، وإنما تتداخل مع تداخل العلاقات التي تحكم النَّسيج الروائي وفي مُقدِّمته السَّردُ الذي ينسجهُ؛ وتتحوَّل مع تحوِّل هذه العلاقات؛ فمثلما تُوجد أماكن منفى في الوطن كذلك تُوجد أوطانٌ (مفترضةٌ) في المنافى، كما أنَّ أماكن الحدَّ تخترق كلا المجالين، وتحقق لنفسها حضوراً فيهما، بحيث يبدو الأمر وكأننا إزاء بنية مكانية كُليّةٍ متعدِّدة المجالات والأحياز والأبعاد (بوليفونية)، وربما فسيفسائية في نطاق الحيِّز المكانيِّ الجزئيِّ الواحد، وذلك لكونها شديدة التداخل، سريعة التَّحوُّل، ومتعدَّدة الأبعاد على التقائها أو تباينها، بل إنَّ الأمر هو كذلك بالفعل؛ ذلك لأنَّ البنية المكانية في الرواية الكنفانية لا تتطابق، إطلاقاً، مع المعادلات الواقعية الموضوعية التي تكوِّن المجالات المكانية التي تحيل إليها تلك البنية. وهذا يؤكد، بجلاء، أنَّ المكان في الرواية الكنفانية، وربما في الأدب والفن عموماً، يظلُّ مشروطاً بطبيعة الرِّؤية الإنسانية، وبمكونات البنية الوجدانية للإنسان الراَّئي وتحولاتها، وبأولويات سلَّم القيم التي تحكم رؤية هذا الإنسان للعالم.
وقد نكون في غير حاجةٍ إلى القول إنَّ كلاًّ من المجالات المكانية الثلاثة يحتوي في داخله أماكن صُغرى تُشكِّله، وتُؤَسِّس علاقات بنيته الدَّاخلية، وتفتح آفاق تحولاتها الدلالية، وهي أماكن قابلةٌ لانشطاراتٍ شتَّى، قد تكونُ موسُومةً بالتَّجاوب أو بالتَّعارض، على مستويي البنية والدَّلالة. غير أنه يتوجَّبُ التذكير بحقيقة أنَّ هذه الأماكن الصُّغرى تحتوي أماكن وأشياء وعناصر أشد صغراً وضآلةً منها، وتلعب، بالنِّسبة إليها، دوراً مُشابهاً للدَّور الذي تلعبه هي بالنسبة إلى المجالات المكانية الكبرى.
إنَّ محتويات الأمكنة الصُّغرى، مهما ضَؤُلَتْ أو بدت صغيرةَ الحجم بَخْسَة القيمة، هي في ذاتِهَا أمكنةٌ قد تحتوي أمكنة أخرى أصغر منها، وأشياء وعناصر أشدّ صغراً وضآلة، غير أنها، في كلِّ حال، لا تكفُّ، عبر نسج علاقاتها الخاصة مع المكونات الأخرى للنَّسيج الروائي، عن أنْ تكون أماكنَ وكائناتٍ رامزةٍ ذات دلالةٍ ومغزى، ولذا؛ فإنَّ تحليل المكان الروائي تحليلاً رصيناً جاداً يتطلَّب إعطاء العناية نفسها لأيٍّ من مكوناته ومحتوياته وعناصره، مهما ضَؤُلَ، وليس ذلك من أجل التعرُّف العميق على ماهية كلِّ مكوِّن ومحتوى وعنصر رامزٍ أو غير رامزٍ، فحسب، وإنما أيضاً، وتالياً، من أجل التَّعرُّف الوافي والعميق على ماهية الأمكنة الصُّغرى، والمجالات الكبرى. إنَّ الأشياء تبدأ صغيرة ثم تنمو، وتكبر، وليس من شيء من موجودات هذا العالم يمكن أن يكون منعزلاً، أو منطوياً على نفسه، أو بلا مغزى؛ ذلك لأنَّ الانعزالَ أو الانطواءَ هو في حدِّ ذاته علاقةٌ، ولأنَّ غيابَ المغزى، إنْ وُجِدَ، هو في حدِّ ذاته مغزى.
هوامش وإشارات
(1) روايات غسَّان كنفاني الأربع النَّاجزة التي تمَّ نشرها خلال الفترة من العام 1963 إلى العام 1969 هي: “رجال في الشَّمس” التي صدرت في العام 1963، و”ما تبقَّى لكم” التي صدرت في العام 1966، و”عائد إلى حيفا” التي صدرت في العام 1969، و”أمُّ سعد” التي صدرت في العام 1969 أيضاً. أمَّا الرِّوايات غير النَّاجزة فهي “العاشق”، “الأعمى والأطرش” و”برقوق نيسان”. ويتضمَّن المُجلَّد الأوَّل من آثار غسان كنفاني الكاملة جميع هذه الرِّوايات، ناجزةً وغير ناجزة.
(2) غسَّان كنفاني: الآثار الكاملة، المُجلَّد الأوَّل (الرِّوايات)، بيروت، لجنة تخليد غسَّان كنفاني ودار الطليعة للطباعة والنَّشر، الطَّبعة الأولى، 1972، ص 152.
(3) المصدر نفسه، ص 152.
(4) المصدر نفسه، ص 129.
(5) المصدر نفسه، ص 178.
(6) المصدر نفسه، ص 178.
(7) المصدر نفسه، ص 233.
(8) المصدر نفسه، ص 233.
(9) المصدر نفسه، ص 411.
(10) المصدر نفسه، ص 412.
(11) المصدر نفسه، ص 412.
(12) المصدر نفسه، ص 412.
(13) تتلخَّص العقدة الأساسية (أو الحبكة الروائية) في رواية “عائد إلى جيفا”، في توجُّه الشَّخصيتين الروائيتين “سعيد س″، وزوجته “صفية” من مدينة رام الله الفلسطينية (التي احتلتها إسرائيل في العام 1967) إلى مدينة حيفا الفلسطينية (التي كانت إسرائيل قد احتلتها ضمن مدنٍ وأراض فلسطينية أخرى في العام 1948) ، بموجب تصريح تنقُّلٍ صادرٍ عن الحاكم العسكري الإسرائيلي، وذلك للبحث عن ابنهما “خلدون” الذي كانا قد اضطرا إلى تركه طفلاً في مهده في بيتهما في مدينة حيفا التي طُردا قسراً منها جرَّاء غزو العصابات الإرهابية الصَّهيونية المُسَلَّحة لهذه المدينة، وتمكُّن هذه العصابات من احتلالها وطرد الأعم الأغلب من سكانها الفلسطينيين منها، خلال حرب العام 1948. فإذْ يتمكَّن “سعيد س″، وزوجته “صفية” من الوصول إلى بيتهما الحيفاوي المُحتلِّ، يكتشفان أنَّ أُسرةً يهوديةً، بولونية القومية، تقطنه منذُ وقت طردهما منه في ذلك العام، ويعرفان أنَّ هذه الأسرة، تتكوَّن من الأب “إيفرات كوشن”، والأم “مريام”، والابن “دوف”. وتحدثُ “صدمة التَّعرُّف” لحظة علمهما أنَّ “دوف” الذي هو الآن ضابطٌ في الجيش الإسرائيلي، هو “خلدون” نفسه، حيثُ كانت الأسرة اليهودية التي قطنت بيتهما قد وجدته راقداً في مهده، فقرَّرت، لانعدام فرصتها في إنجاب طفل، تبينيه، فأسمته “دوف” وتعهَّدته بالرِّعاية والتربية حتى صار ضابطاً في جيش يحتل أرض والديه الأصليين وبيتهما الذي تركاه فيه يومَ طُردا، قسراً، منه! ولمزيد من التَّأمُّل في عقدة الرِّواية، وإجاباتها عن سؤال الهوية وعلاقاته المُتشابكة، راجع دراسة كاتب هذه السُّطور في كتابه “استلهام الينبوع“، مطبوعات الاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين ومؤسسة سنابل للنشر والتوزيع، نيقوسيا، الطبعة الأولى، 1983.
(14) غسَّان كنفاني، مصدر سبق ذكره، 413.
(15) المصدر نفسه، ص 241.
(16) المصدر نفسه.
(17) المصدر نفسه.
(18) المصدر نفسه.
(19) غينادي بوسبيلوف: الجمالي والفني، (ترجمة)، عدنان جاموس، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، الطبعة الأولى، 1990، ص 242.
(20) المصدر نفسه، ص 222
(21) تتميَّز روايات إميل حبيبي وسحر خليفة، على سبيل التَّمثيل لا الحصر، بالتَّعبير الروائي عن هذا الاغتراب المُضاعف، أو المزدوج، داخل الوطن، وتقترحُ أشكالاً فنية وأساليب وتقنيات تراها أكثر مواءمةً لتجسيد ذلك. أما روايات غسان كنفاني فإنها تتميَّز بالتركيز على معالجة الاغتراب في المنافي موصولاً بزمن الاقتلاع القسريِّ من الوطن الذي تمَّ احتلاله جرَّاء غزو خارجيٍّ، وبالدَّعوة إلى إنهاض النِّضال الوطني الفلسطيني من أجل تحريره واستعادته وإعادة بنائه. وكلا الاتجاهين، اللذين يسهم فيهما روائيون عديدون، يصوغان تجربة الإنسان الفلسطيني مغترباً في منافي الشَّتات بعيداً عن وطنه، ومغترباً في وطنه القابع وإياه تحت سطوة احتلال أجنبيٍّ، ومتلمساً، في كلا الاغترابين، استعادة هُوِيَّته المفقودة، أو حماية هُوِيَّته المُهدَّدة، للبدء في صوغ هذه الهُوِيَّة، من جديدٍ، عبر النِّضال وفي تواصلٍ عميق مع التراث المُنير، ومع خبرات الماضي النِّضالي والحياتي المُضيء، ومع التَّوجُّه المفتوح دوماً صوب المُستقبل.
(22) بيلنسكي: الأعمال الكاملة، المجلد الثَّامن، أوردهُ: لافريتسكي: في سبيل الواقعية، (ترجمة)، د. جميل ناصيف، عالم المعرفة، بيروت، د.ط، د.ت، ص 94.
(23) عبد المنعم تليمة: مُقدِّمة في نظرية الأدب، القاهرة، دار المعارف، الطبعة الأولى، 1973، ص 144.
(24) إدوارد سعيد: تأمُّلات في المنفى، مجلة الكرمل، العدد 12، 1984، ص 20.
(25) المصدر نفسه.
(26) لمزيد من التفصيل حول ذلك أنظر:
Lotman, Juri: The Structure of the Artistic Text, translated by: Lenhoff, Gail and Vroon, Roland, University of Mitchigan, Department of Slavic Language and Literature, First Edition, 1977, pp. 217-231.