كونتينر
(1)
ملاحظة: أحداث هذه المسرحية غير محددة الزمان ولا المكان، الشخصيات هنا متخيلة، والأحداث متخيلة، وقد يكون ثمة تطابق بين أحداث المسرحية وأحداث واقعية، لكنها بالتأكيد غير مقصودة، فالحكاية تتكرر في كل زمان ومكان.
المسرح عبارة عن كونتينر معدني مخصص للاجئين، والأحداث تدور في مخيم للاجئين في مكان ما في هذا العالم، الكونتينر رغم بساطته مرتب بأناقة أنثوية، منصة طبخ وعليها بعض الصحون والقدور، بعض الكتب المرتبة على رف، صورتان ليافعين، صورة للزوجة وهي تعزف على البيانو في مسرح. الهدوء يعمّ المكان سوى بعض الطرقات على جدار الكونتينر الخارجي، طرقات منتظمة، وصوت ريح خفيفة. على جانب من جوانب المسرح فراشان على الأرض حيث ينام الزوج والزوجة، صوت همهمات الزوج يتعالى على وقع الطرقات المنتظمة، تتسارع أنفاسه شيئاً فشيئاً، يصحو فزعاً يتنفس بسرعة، عليه يبدو الخوف يصرخ من خوفه..
الزوج: (خائفاً) هم، لقد عادوا مجدداً.. لا أريد أن أذهب معهم.
تصحو الزوجة بتثاقل وهدوء، تهز رأسها
الزوجة: (بهدوء) ليسوا هم، لا أحد هناك.
الزوج: (خائفاً) ألا تسمعين، إنهم يطرقون الباب، لمَ أنا بالذات، لمَ يلاحقونني أينما أذهب؟
الزوجة: (بنفس الهدوء وهي تتثاءب) نم، لا أحد هناك. إنك تزعجني بصراخك، وستزعج الجيران.
الزوج: اذهبي، قولي لهم إني لست هنا.. خبئيني عنهم.
الزوجة: أرجوك، كفّ عن هذه الكوابيس. أريد أن أنام، لديّ عمل في الصباح.
الزوج: (بخوف) أيّ صباح هذا الذي تتحدثين عنه؟، إنهم يريدون اعتقالي مرة أخرى.
الزوجة: (بهدوء) نحن بعيدون عن زوار الليل، بعيدون جداً، لن يلحقوا بك إلى هنا (بتذمّر) أريد أن أنام، أتسمع؟، لا أحد هنا.
الزوج: (لا زال في خوفه) وهذا الطرق على الباب؟
تقف الزوجة متململة وتتجه جهة الباب، تفتحه وتخرج، تعود ثانية بلوح خشبي مكتوب فيه رقم الكونتينر، تقترب من زوجها المتكوّم الخائف وترمي بجانبه اللوحة.
الزوجة: طلبت منك مراراً إصلاحها، وبسببها طار النوم. هذا ما كان يطرق الباب.
الزوج: (متكوّماً خائفاً) لا، أكيد هم، لقد جاؤوا ثانية لأخذي، لا أريد العودة للسجن.
تبتعد الزوجة وزوجها لا زال في حديثه، تأخذ كأساً من الماء، وتقترب منه، تصب الماء على وجهه وجسده بكل هدوء، يفزع وينتفض.
الزوج: (مفزوعاً) ماذا تفعلين؟
الزوجة: لكي تستيقظ من كابوسك، كلما سمعت صوتاً في الخارج انتابك كابوس الاعتقال والسجن (بتذمر) وأنا لا بد أن أعاني من كابوسك المتكرر هذا.
الزوج يستعيد إدراكه، ينظر يميناً ويساراً، يتحسس جسده، يرفع اللوحة عن الأرض وبكل هدوء يقف ويبتعد عن زوجته، يتجه للباب، يفتحه ويخرج، يعود بعد لحظات وبكل هدوء ويقترب من زوجته، يمسك يدها، تسحب يدها منه.
الزوج: ألن ننام؟
الزوجة: نم أنت.
الزوج: (باستغراب) وأنتِ؟
الزوجة: غادر النوم رأسي.
الزوج: (مرتبكاً) أنا لا أدري لمَ ما زالت تنتابني الكوابيس، كوابيس السجن وغرف التحقيق.
الزوجة: لأن الماضي لا زال يسكن رأسك، لا زالت الذكريات تنغص عليك حياتك وحياتي معك.
الزوج: (مستسلماً) لم أستطع النسيان، بل لا أستطيع.
الزوجة: لكننا تواعدنا على النسيان، تواعدنا أن نترك كل شيء من الماضي وراءنا، نفتح صفحة بيضاء جديدة، نعيش حياة أخرى.
الزوج: (يبكي مستسلماً) حاولت ولكنّني فشلت، ظلام السجن وغرف التحقيق، وحفلات التعذيب التي كان يثمل عليها المحققون لا زالت تحوم في رأسي، لا أستطيع نسيانها.
الزوجة: أنا نسيت كل شيء، نسيت الألم والوجع، نسيت لحظات الذل واللاإنسانية، محوت كل شيء من ذاكرتي. حاول أنت لنكمل حياتنا بهدوء.
الزوج يتجه لمغسلة الماء يغسل وجهه ورأسه، ينشّف رأسه من الماء، يقترب من زوجته الواقفة.
الزوج: لأجلك سأحاول، تعالي لننام.
الزوجة: لا أريد النوم.
تتجه إلى دكة على جانب من المسرح وتبدأ بحياكة صوفية.
الزوجة: سأكمل حياكة القبعتين، البرد سيكون قارساً هناك، لا بد من قبعات تحميهما.
الزوج: (يحاول المزاح) وأنا؟، ألن تصنعي لي واحدة؟
الزوجة: لا، أنت لا تبرح هذا المكان، لن تحتاج لقبعة تحميك من البرد، تحتاج لقبعة تحميك من كوابيسك ومخاوفك.
الزوج: لا تكوني قاسية عليّ.
الزوجة: (وهي تجوك) أنا لست قاسية، لو كنت كذلك لتركتك، وكنت تبرّأت من علاقتي بك، سأقول لهم إني لا أعرفك، أو سألعنك أمامهم وألعن اليوم الذي ارتبطت فيه بك، وما كنت سأعاني كل هذا بسببك.
الزوج: (باستنكار) ليس بسببي. بسبب ما فعلوه بنا طوال السنوات الماضية. هل كنت راضية بحالنا؟
الزوجة: وهل أنت راض عن حالنا الآن؟
الزوج: على الأقل لنا كرامتنا.
الزوجة: (تضحك بسخرية) أيّ كرامة يا رجل؟ نعيش لاجئين، نأكل من المعونات، نرتدي ممّا يتصدق به الأغنياء علينا من ملابس مستعملة، بعضها بالٍ، وتقول لي كرامة؟ لا تتحدث عن الكرامة رجاءً، فيكفي ما حلّ بنا من وراء الكرامة التي تبحثون عنها.
الزوج: أنت لم تتغيري، منذ سنوات ورغم أن الوقت كشف لك أيّ سلطة كانت تتحكم بنا.
الزوجة: (بإصرار، تترك ما بيدها وتقف مواجهة زوجها) ولن أتغير، سأظل أرى أنكم سبب كل ما حلّ بنا وبالبلد.
الزوجة: والسلطة؟
الزوجة: لا أبرّئها، أنتم شركاء في الخراب.
الزوج: بل السلطة وحدها بكل من فيها.
الزوجة: وأنتم معها، كنا نعيش بهدوء، كل ما ينغّص علينا كان ما نجنيه من رواتب ضئيلة، ولكنها كانت تكفينا.
الزوج: بل اكتفينا من الأحلام لأننا نعرف تماماً أنها لن تتحقق.
الزوجة: (متبرمة) آه يا زوجي العزيز، لا تقلب عليّ المواجع. يكفيني كل خيباتي. يكفيني أنني فقدت الأمل في كل شيء. أنا أحاول أن أبني حياة جديدة بعد حياة فقدتها. أنا امرأة جديدة تحاول أن تنسى كل شيء مضى.
الزوج: لكنني لا أستطيع أن أنسى. أنسى وجعي وألمي، أنسى كرامتي المهدرة؟ أنا لا أستطيع نسيان لحظة أتوا بك إلى غرفة التحقيق..
الزوجة: (تصرخ بغضب) إنسَ.. إنسَ..
الزوج: (غاضباً) لا أستطيع.. هل تفهمين لا أستطيع، المشهد كاملاً يسيطر على ذاكرتي، هو ما يجعلني رجلاً مهزوماً محطماً..
الزوجة: (بغضب، وهي تضع يديها على أذنيها) لا أريد أن أسمع، جئت هنا لأنسى.
الزوج: (وكأنه لم يسمع صراخها) لا أنسى لحظة كان الوغد يتحسس بيده جسدك كي يحطّمني، كي يهزمني.. لم يجد غير هذه الوسيلة لينتزع اعترافا؟.. صرت أشعر بأن يده من تتحسس جسدك كلما اقتربت منك، لا يدي..
الزوجة: (تهجم عليه وهي تصرخ) قلت لك إنسَ، كف عن هذا الكلام.. (تغلق فمه وهو يحاول الكلام) اصمت، اصمت..
-إظلام-
لوحة: صفوان داحول
(2)
تفتح الإضاءة على الزوج في غرفة التحقيق، حيث يجلس على كرسي وهو منهك وفي يديه الأغلال، تتّسع الإضاءة ويدخل المحقق، يقترب من الزوج، يضاء المسرح في الجانب الآخر من المسرح حيث الزوجة تجلس بنفس هيئة الزوج، ويبدو عليها الإنهاك، والأغلال بيديها وجزء من ملابسها ممزق.
المحقق: (وهو يقترب من الزوج) ما رأيك بهذه المفاجأة؟ لم تكن تتوقعها، أليس كذلك؟
الزوج: (بصوت منهك) لا ذنب لها.
المحقق: (بصوت بارد) ذنبها أنها زوجتك، وذنبك أنك تمردت على السلطة.
الزوج: ليس تمرداً، كنت أطالب بحقوقي، بحقوقنا، بكرامتنا.
يضحك المحقق بسخرية وهو يبتعد عنه ويقترب من الزوجة، يقرب وجهه منها.
المحقق: (بسخرية) وهل حصلتِ على كرامتك؟ حقوقكِ؟ يقول إنه لم يتمرد، بل طالب بحقوقكم المهدورة..
يمسك شعر الزوجة ويحرك يده على شعرها، تحاول إبعاد رأسها بخوف، ينظر الزوج بحنق للمحقق، يمسك المحقق بخصلات من شعر الزوجة ويشمها.
المحقق: (يستنشق رائحة شعر الزوجة) لشعرك رائحة الورد.
تبكي الزوجة خائفة، تحاول التكوّم على نفسها، والزوج الحانق يحاول مداراة وجهه، لكنه يسترق النظرات. يحرك المحقق يديه على أجزاء من جسد الزوجة الخائفة التي تنشق بكاءً وخوفاً..
المحقق: جسدك يبدو شهياً.. كم أحسد هذا الوضيع بأن له امرأة مثلك..
يبتعد عنها ويقترب من الزوج ويواجهه.
المحقق: (بنوع من الغضب) كم أنت محظوظ أيها الوغد، لك امرأة شهية، جميلة، ناعمة، شعرها تفوح منه رائحة الورد.. لكنك تعرّضها لأقسى ما يمكن أن تتعرض له امرأة. أنت لا تستحقها.
يهدأ المحقق قليلاً.. يبتعد عن الزوج، ويقترب من الزوجة التي تترقب خائفة..
المحقق: أنت لا تستحقها، لا تستحق هذه المرأة أبدأ (يهدأ قليلاً، ويقترب أكثر من وجه الزوجة، ويهمس لها) هل تحبينه؟
تهز الزوجة رأسها إيجاباً وكلها خوف.
المحقق: ما الذي تحبينه في رجل يتسبب لك في كل هذا الأذى؟ هل تعرفين ما الذي أنوي أن أفعله بك إن لم يعترف. أنا مخوّل من السلطة أن أفعل بكما ما أشاء حتى يخبرنا بمن يحرّضه.
يخرج سيجارة من معطفه ويشعلها، ينفخ دخانها.. يبدو القلق والترقب واضحاً على الزوجين.
المحقق: بصراحة، بدأت أشتهيكِ. ويحلو لي أن أغتصبكِ أمامه حتى أكسر عناده وكبرياءه.
تنهار الزوجة باكية، وتصرخ بهستيريا، يصرخ الزوج بالمحقق.
الزوج: (بغضب) اتركها، إنها زوجتي ولا يحق لك أن تمسها بسوء، مشكلتك معي أنا.. اتركها أيها الوغد.
يهجم المحقق على الزوج، ويبدأ بضربه بغضب.
المحقق: (بغضب) أنا الوغد أيها الوضيع؟ سأغتصبك أمامها لتعرف أيّ رجل هي تحته.
يرميه على الأرض ويبدأ بركله، وسط بكاء الزوجة وفزعها..
-إظلام-
(3)
نفس المنظر في المشهد الأول، الزوج والزوجة يقفان بمواجهة الجمهور، هي شاردة وفي يديها أغراض الحياكة، تحوك بعصبية واضحة، الزوج منكسر وشبه شارد..
الزوج: كلما مددت يدي إليك، صرت أرى يده اللعينة مكان يدي.
الزوجة: (وهي تحوك بعصبية وبشرود) إنسَ.
الزوج: كلما قرّبت شفتي لأقبلك أحسست أنني أصبحت هو، شفتاي أصبحتا شفتاه.
الزوجة: (تقاطعه بعصبية ولكن بذات الشرود) إنس.. قلت لك إنسَ.
الزوج: صار يزور أحلامي، أرى فيه كل هزائمي وانكساراتي..
الزوجة: (بنفس الوضع) إنس.. قلت لك إنس.. إنسَ
الزوج: كلما تحسست جسدي شعرت بيده على فخذي وأحسست بأشيائه..
الزوجة: (تقاطعه) قلت لك إنسَ.. فرّغ رأسك من كل هذه الذكريات .. إنسَ.
الزوج: لمَ توظف تلك السلطة المجرمة أولئك المحققين، إنهم ينتصرون بانكساراتنا، ننهزم نحن لينتصروا هم.
الزوجة: تذكّر أشياء أجمل، تذكر القادم الذي سيكون أفضل، إنس الماضي بكل ما فيه.. نحن هنا لننسى. النسيان نعمة، النسيان رحمة الله بنا.
الزوج: (منكسراً) ومن أين آتي بالنسيان؟ الذكريات لازالت محفورة في رأسي كوشم لا يزول.
الزوجة: (تواجه زوجها) لأنك لا تريد أن تزيله. تعجبك لعبة التذكر التي تمارسها مع ذاتك ومعي. اترك لي فرصة النسيان، كلما انتابك كابوس نفخت في جمر الذاكرة الذي خمد. حرام ما تفعله بي.
الزوج: (متوسلاً) ارحميني أرجوك، ساعديني حتى أنسى.. (يمسك بيدها التي تمسك بسنارة الحياكة ويقربها من رأسه) أفقئي ذاكرتي حتى أنسى. أغرزيها في رأسي أرجوك.. (يبكي منهاراً)..
الزوجة: (تبعد سنارة الحياكة وهي خائفة) يبدو أنك لن تنسى أبدأً، ويبدو أنني لن أنسى أيضاً ما دمنا معاً.
يتوقف الزوج عن البكاء وينظر للزوجة مصدوماً.
الزوج: (مصدوماً) تتركينني؟
الزوجة: لا أستطيع، لو كنت أستطيع لتركتك منذ الساعة الأولى التي شعرت فيها بأن حياتنا مهددة.
الزوج: (برجاء) إذن ساعديني على النسيان.
تصمت لبرهة، تفكر ملياً، تبتعد عن زوجها الذي يراقبها تتجه للدكة وتجلس عليها. تبدء بالحياكة وهي سارحة. يراقبها بصمت.
الزوجة: (مستسلمة) سأساعدك.. لكن على التذكّر، ربما بهذه الطريقة تفرغ كل ما في ذاكرتك وتنسى. سأسمعك، سأشاركك كل ما في ذاكرتك من حكايا. سأتمثل معك كل ألم حلّ بجسدك وأنت تحت وطأة التعذيب. أنت زوجي، سأتحمل كل الألم الذي سيحلّ بي وأنا أتذكر معك. لنبدأ.
تبدأ بالحياكة وعليها يبدو القلق وبعض العصبية.
الزوج: أنت امرأة نبيلة. أشعر بالذنب لأجلك، كيف تحولت حياتك إلى جحيم بسببي وبسبب قناعاتي؟
الزوجة: (وهي تواصل الحياكة) قناعاتك لم تتغير ولن تتغير، ولا زلت مصراً بأنك فعلت ما يتوجّب عليك فعله.
الزوج: (وهو ينظر لزوجته بتمعن، يبتسم) رغم كل شيء، وكل ما حدث، لم تتغيري، أنت كما كنت، مشرقة، جميلة.
الزوجة: (وهي مشغولة بالحياكة) بل تغيّر كل ما فيّ، جسدي، ملامحي، غزتني التجاعيد مبكراً واشتعل بياض رأسي. والروح مثقلة بالوجع، تغالب حتى تتخفف من كل هذا.
الزوج: لا، لم تتغيري.. صدقيني، أنت كما كنت في أول مرة رأيتك تخرجين من بوابة المعهد، عرفتك من بين كل المعلمات والطالبات، قادتني ملامحك التي تشبه عزفك.
الزوجة: (تتنهد بحسرة وهي تنظر لأصابعها) أيّ عزف؟ أصابعي باتت مترهلة، لو وضعتها على مفاتيح بيانو الآن لما سمعت سوى النشاز. أصابعي التي أنهكتها خيوط الصوف ومساحيق الغسيل، وخدمة الأغنياء.
الزوج: كم أشتاق لعزفك، أشتاق لموسيقاك.. أشتاق لغنائك.
الزوجة: (بإحباط وهي تواصل الحياكة ببعض العصبية) أنا لم أعد عازفة ولا أستاذة موسيقى. لست سوى امرأة عادية أخذتها لعنة السياسة إلى ملجأ بعيد عن بيتها، لست سوى لاجئة تحاول أن تمرّ أيامها بهدوء دون منغصات.
الزوج: (يحاول التبسم) بل كنت أفضل عازفة بيانو، كنت أفضل معلمة موسيقى في المعهد، بل في كل معاهد البلد. عشقتك من عزفك قبل أن أراكِ، لعزفك إيقاع يهز القلب. كنت أهرب من الصيدلية بحجة تدخين سيجارة لأقف عند نافذة صفّك، أستمع لعزفك، أرسم ملامحك من نغمة تخرج من بين أصابعك. اكتملت تفاصيلك في ذاكرتي، وعرفتك من بين كل المعلمات.
تترك الزوجة ما بيدها وتتذكر، ويبدو عليها الحزن، تبدأ بالبكاء وهي تنظر لأصابعها.
الزوج: كنتِ أنيقة وأنت تعزفين لشوبان، تأخذينني إلى عالمك.
الزوجة تحرك أصابعها، تحركهما كأنها تعزف على البيانو، تنطلق ألحان مقطوعة لشوبان (المقطوعة رقم 20.. مثلاً) وتترافق مع حوار الزوج.
الزوج: (حالماً) كنت أعيش بلا جدوى، لم أكن أفكر فيما سيأتي، أعيش يومي، ولكن بموسيقاك اكتشفت أن لي حياة أخرى، وأن المرأة التي تتهادى بين أصابعها موسيقى شفافة لا بد أن تكون زوجتي.
تواصل الزوجة تحريك أصابعها على أنغام المقطوعة، حالة من التجلي مع الموسيقى والعزف وحوار الزوج، تبدأ المرأة بالبكاء، تعزف بكل مشاعرها وهي تبكي بحرقة..
-إظلام-
لوحة: صفوان داحول
(4)
المسرح إظلام تام، بقعة ضوئية على الزوج وهو يروي. تتواصل موسيقى شوبان.
الزوج: كنت أتردد يومياً لأرتوي من موسيقاك، أدخّن سيجارتي تحت نافذتك، أتحمل غضب صاحب الصيدلية لأنني تأخّرت، بالموسيقى كان حلمي يكبر ويكبر معك. قرأت على بوابة المعهد أن حفلة موسيقية ستقام هناك، كانت صورتك وبعض طلابك على بوستر الحفلة. تهيأت لمساء الحفلة، ارتديت أجمل ما لديّ، ودخلت المسرح حاملاً باقة زهور.
يجلس على كرسي، بقعة ضوء أخرى على الجانب، الزوجة بملابس أنيقة، بشكل يبدو أصغر من عمرها في المشاهد الأولى، تجلس عند بيانو وتبدأ بالعزف، تعزف مقطوعتها والزوج يستمع بكل سعادة، تنتهي من العزف، تقف يسمع صوت تصفيق، يقف الزوج ويصفق بحماس.
الزوج: حاولت أن أقترب منك، لم أكن قلقاً من ردة فعلك.. اقتربت.
يقترب الزوج من الزوجة، يقدم لها باقة الورد مبتسماً، تأخذ من يده الورد بابتسامة ودهشة..
الزوج: أنا صيدلي في الصيدلية التي تجاور المعهد، منذ شهور وأنا أقف عند نافذة صفّك. أستمع لموسيقاك.
برهة صمت، إظلام وتضاء الإضاءة على منظر الكونتينر كما في المشهد الأول. الزوجة على ذات الدكة، وهي تحوك الصوف.
الزوجة: (وهي مستغرقة في الحياكة) انتبهت لوجودك بعد الحفلة، كنت أراك تتابعني كلما دخلت إلى المعهد وخرجت منه، انتبهت لوجودك خلف نافذة الصف، رأيتك مرات ومرات تدخّن سيجارتك هناك وأنت تنتظر العزف. صرت أتعمد أن أعزف في أيّ وقت. كانت الموسيقى لغتنا المشتركة، عرفتني على الصيدلي الذي أصبح عشيقي وزوجي.
الزوج: كانت المرة الثانية التي تلتقي أعيننا بشكل أقرب، وأشعر بك أقرب، أشمّ عطرك حين دخلت الصيدلية.
تقترب الزوجة من الزوج الذي عدّل وقفته كأنه يقف خلف كاونتر صيدلية..
الزوجة: (تكح وبصوت شبه مبحوح) لو سمحت، هل أجد لديك ما يخفف الكحة، إنها تنتابني منذ يومين.
الزوج: (يقف أمامها مشدوهاً ويبدو عليه الحزن) أنت مريضة؟
الزوجة: ليس إلى هذا الحد، هي كحة مزعجة.
الزوج: (بحماس) سأعطيك أفضل ما بالصيدلية.
يعطيها علبة دواء، تأخذها من يده.
الزوج: ثلاث مرات في اليوم، داومي على هذا الدواء. ستزول الكحة.
الزوجة: (تبتسم وتعطيه مبلغاً من المال) شكراً.
تأخذه وتغادر المكان، يلحقها.
الزوج: (ينادي) يا آنسة.
تتوقف مستغربة، يقترب منها.
الزوج: لا تنسي شرب الأعشاب الدافئة، إنها تريح الحلق. مثل البابونج واليانسون.
تبتسم الزوجة وتغادر، يبدو على الزوج الفرح وعلى الزوجة أيضاً بعض الفرح المشوب بالخجل.
الزوجة: تأكدت في هذا اللقاء من مشاعرك، لهفتك، خوفك عليّ حتى من الكحة التي انتابتني، اهتمامك بي. حتى وجدتك في اليوم التالي عند باب المعهد تنتظرني لتسألني عن صحتي.
الزوج: لم أترك باب المعهد ساعتها ونافذة صفك حتى سمعت موسيقاك. اطمأننت ساعتها أنك بخير.
الزوجة: كنت أعرف ساعتها أن الموسيقى هي جوابي على سؤالك عن صحتي. أدركت أنك لن تطمئن حتى تسمع عزفي.
الزوج: كل شيء تغير حين عرفتك، كان للعمل طعم رغم ضيق الحال وقلة الزبائن، كان للحياة طعم بعد أن كانت بلا طعم ولا رائحة، كانت رمادية وتلوّنت بعد أن كنت جزءًا من هذه الحياة، بل كل الحياة.
الزوجة: تزوجنا، بعد قصة حب كانت حديث المعهد والمدينة، زواجنا ذاته كان حديث الناس.
الزوج: (يضحك) الزواج الذي عزفت فيه السيمفونيات والموسيقى الكلاسيكية بدل الأغاني والرقصات الفلكلورية أكيد سيكون حديث الناس.
الزوجة: كانوا يعتقدون أنني سأرتبط بموسيقيّ أو عازف. أحد زملاء المعهد مثلاً (تضحك) لكنهم تفاجأوا بزواجي بصيدلاني لا علاقة لعمله بالموسيقى.
الزوج: ليست الموسيقى للموسيقيين وحدهم، نحن أيضاً نملك آذاناً تطرقها الموسيقى فتصل لشغاف الروح. ثم إننا لا نختلف، أنا مهنتي الدواء ليطيب الناس من عللهم، وأنت مهنتك الموسيقى وهي دواء لعلل الأرواح.
الزوجة: وهذا ما أعجبني فيك، أنا أملك لغة الموسيقى وأنت تملك لغة الكلام. لا أملك قدرتك على ترتيب الجمل وصف الكلام.
الزوج: كنا نسكن شقة صغيرة، بسيطة، على قدر ما نملك من مال. أتذكرينها؟
الزوجة: أذكرها تماماً، أراها كما أراك الآن. أتذكر كيف زينّا جدرانها بالصور، صور حفلاتي، صور زواجنا، صورتك وأنت في الصيدلية، صور من نحب من عائلتينا (تتجه للصورة المعلقة على الجدار وتشير لها) لم آتِ منها إلا بهذه الصورة. أتذكرها؟
الزوج: نعم، أذكرها. كنت قلقاً عليك. لم تكوني على ما يرام على خشبة المسرح. كانت يداك ترتجفان وأصابعك تداعب مفاتيح البيانو. لم تخذلك أصابعك رغم ذلك. لكن كان التعب باد عليك.
الزوجة: (تضع يدها على ظهرها كهيئة الحامل) كان حملي الأول، كان متعباً جداً، لم أكتشف أني حامل في أول شهوري إلا ليلة الأمسية، لم أستطع تفسير شعوري بالغثيان، شعوري بالتعب والارتباك.
الزوج: كبر بطنك، كبر الحلم الأول، كنا نفرش كل ليلة تفاصيل حلمنا بطفلنا الأول، كيف سيكون شكله. يشبهني؟
الزوجة: لا سيشبهني أنا.
الزوج: (معترضاً) بل سيشبهني، إنه ولد.
الزوجة: (معترضة) ومن قال لك إنه ولد؟ إنها بنت، وتشبهني وستصبح موسيقية مثلي، بل أفضل مني. سأعلمها العزف وأحببها بالموسيقى منذ الآن.
الزوج: وأنجبنا أول طفلة، كانت جميلة كأمها.
الزوجة: ملأت حياتنا بهجة، صغيرة كانت حين بدأت معها دروس الموسيقى. كانت تردد معي بلثغة الطفل “دو، ري، مي، فا..” (تضحك).
الزوج: لم تكن كالأطفال تحبّ الدمى، كانت تحب الموسيقى، تحب الآلات الموسيقية. لم تكن تشبهني في شيء. كانت نسخة من أمها.
الزوجة: (تبتسم) نسخة أجمل.
الزوج: وبعد سبعة أشهر، بدأ بطنك يكبر ثانية.
الزوجة: (مصدومة وهي تمسك ظهرها كهيئة الحامل) مرة أخرى؟ لم تكبر الطفلة بعد. كيف سأعتني بطفلين وأنا مشغولة في التدريس، طلابي ينتظرون دروسي.
الزوج: هذه المرة ولد.
الزوجة: (تبتسم) سلمت بالأمر، لم يعد صادماً. وتمنيت معك أن يكون ولداً. بنت وولد. ما أجمل هذه العائلة الصغيرة.
الزوج: وجاء الولد، وبدأنا رحلة التعب والمعاناة، مع طفلين صغيرين.
صوت بكاء أطفال يرافق حوار الزوج والزوجة.
الزوجة: (وهي كمن يهدهد طفلاً) الولد حرارته مرتفعة، نحتاج لأخذه إلى المستشفى.
الزوج: (كمن يحمل طفلاً على كتفه) البنت تحتاج إلى غيار.
الزوجة: غيّر لها حفاظتها حتى أسكت أخاها المريض.
الزوج: (مرتبكاً) لكنّني لا أعرف.
الزوجة: تعلّم، أنت أب، ومثلك مثلي. تعلّم كيف تلقّم الطفل رضاعته وكيف تغيّر للبنت حفاظتها.
الزوج: وتغيرت حياتنا، لم يكن ثمة موسيقى سوى بكاء الأطفال.
الزوجة: لم يعد لي مزاج للعزف على البيانو، لم تعد النوتة شغفي. كنت أفكر كثيراً في طفلَي. كيف أخفض حرارة هذه، وكيف أعتني بالآخر. لم يعد نومي مستقراً، أنام حين ينامان، واستيقظ إذا استيقظا.
لوحة: صفوان داحول
الزوج: لم أكن أنام أيضاً، لم يكن ثمة مكان للهرب من ضجيجهما.
الزوجة: تركت المعهد.. (تستدرك) لم أتركه بل طلبت إجازة بلا راتب لمدة سنة كاملة.
الزوج: أنتِ تضحين يا حبيبتي لأجل الطفلين. كم أنت نبيلة.
الزوجة: إنهما طفلاي. من يعتني بهما؟
الزوج: لم تكن الحياة كما تصوّرتها، لم تكن سهلة ولم تكن ساعاتها مليئة بالحب والشموع والعشاءات الرومانسية والموسيقى. كانت أكثر واقعية مما تصورت.
الزوجة: (بصوت متعب) لقد انتهى الحليب من العلبة، لم يعد لابنك حليب ليشربه.
الزوج: (حانقاً) لا أدري لماذا لم ترضعيه من صدرك كبقية الأمهات؟ لم نضطر لهذا الحليب المصنّع لأطفالنا؟
الزوجة: (بغضب) وهل نبع ثدياي حليباً لأطعمه الطفل ولم أفعل؟
الزوج يبدو عليه الغضب، يبتعد، توقفه الزوجة.
الزوجة: ولا تنس الحفاظات.
الزوج: (يتوقف ويقترب من الزوجة بغضب) والحفاظات التي اشتريتها قبل أسبوع؟
الزوجة: انتهت.
الزوج: من أين لي المال الكافي لكل هذا؟ الراتب لا يكفي، صاحب الشقة اللعين رفع الإيجار، والأسعار تزداد وتزداد.
الزوجة: وما الذي أفعله أنا؟ ما شأني بكل ذلك؟
الزوج: (بغضب وعتاب) أنت التي حملت وأنجبت طفلين يحتاجان مصروفات لم نضعها في الحسبان، إجازتك طالت.. اللعنة على هكذا سلطة.
الزوجة: وما شأن السلطة؟، ثم رجاءً لا تدخلنا في السياسة. دعنا نعيش بما لدينا بعيداً عن شتمك للسلطة.
الزوج: بل الشأن شأنها، اقتصاد الدولة يضعف وهم يعيشون كملوك، لا يشعرون بحاجتنا وجوعنا وفراغ جيوبنا.
الزوجة: (لا تولي لحديثه اهتماماً) المهم.. لا تنس الحفاظات والحليب عند عودتك.
الزوج: خرجت من البيت حانقاً كارهاً نفسي وزوجتي وأطفالي، كنت أشد الحزام أكثر وأكثر، الراتب لم يكن يكفي لحاجات الأطفال ومصروفات البيت والمعيشة. زوجتي تركت المعهد لسنة كاملة كانت كفيلة بانهياري.
الزوجة: (بحزن) أعلم أني كنت أثقل عليك، وأعلم قدر الألم الذي يسكن صدرك، والهموم التي ترهقك. لكن ما باليد حيلة. لا أستطيع أن أرى الطفلين في الجوع والعطش. لا يهم إن أكلنا نحن أو شربنا. المهم الطفلان. كنت فكرت في العودة للمعهد، ولكن من يعتني بالطفلين في مدينة بعيدة عن قرية أهلي.
الزوج: دخلت الصيدلية وفي نفسي تجول حكايات وأفكار، كانت الحفاظات وعلب الحليب على الرف. كانت بين أصابعي ولم يكن يمنعني عنها أحد. اقتربت من الرف، تلفت يميناً ويساراً لكن لم يكن أحد يراقبني أو ينظر إليّ حتى. الصيدلية لا يمر بها إلا القليل من الزبائن. سحبت العلبة تفحصتها وأعدتها على الرف.
الزوجة: كنت أنتظر عودتك، ربما يفتح لنا الله طاقة فرج. (تبتسم فرحاً) وكان الله كريماً علينا عدت بعلبتي حليب وكيسي حفاظات.
الزوج: نعم، عدت بعلبتي حليب وكيسي حفاظات، وعدت كل أسبوع بعلبتي حليب وكيسي حفاظات، استمرّت عودتي من الصيدلية بعلبتي حليب وأربع وست وثمان، وكيسي حفاظات وأربعة وستة، خف ضغط الحاجة عليّ. لم أعد أهتم كثيراً بمصروف الطفلين.
الزوجة: وأنا لم أسألك من أين لك. كنت أحاول أن أنسى أو أتناسى السؤال المرّ. السؤال الذي يأتي بإجابة صادمة.
الزوج: (بحزن) نعم، كنت أسرق حليب طفلَيّ وأكياس الحفاظات من الصيدلية.
الزوجة: (بصدمة) كنت تسرق؟ كيف؟ ولماذا؟
الزوج: (بأسى) وتسألينني لماذا؟ كأنك لا تعرفين الحال.
الزوجة: أعرفه، لكن لم أتصور أن تمد يدك. تسرق الصيدلية التي تعمل بها منذ سنوات طويلة؟
الزوج: هذا ما وقع في يدي، أنا أعمل في مكان مليء بعلب الحليب وأكياس الحفاظات. همّ الحاجة أكبر من قدرتي على كف يدي عن السرقة.
الزوجة: تطعم الطفلين حليباً مسروقاً؟ كيف تفعلها؟
الزوج: (بحدة) ولمَ لا أفعلها؟ أتركهما يموتان جوعاً وعطشاً، السرقة هي الطريقة الأفضل.
الزوجة: لهذا عدت بعد أيام محبطاً حزيناً وأخبرتني بأن صاحب الصيدلية طردك من العمل لأن الصيدلية لا تعمل.
الزوج: بل طردني لأنه اكتشف السرقة.
إظلام وإضاءة سريعة للانتقال لمشهد الصيدلية، الزوج يهم بالخروج وفي يده كيس كبير مليء بالأغراض، وهو يهمّ بإغلاق الصيدلية.
ص. الصيدلية: إلى أين؟
يتفاجأ الزوج بوجود صاحب الصيدلية، يحاول مداراة ما بيده.. وبارتباك.
الزوج: (مرتبكاً) إلى البيت.. لقد انتهى دوام الصيدلية. ما الذي أتى بك الآن؟
ص. الصيدلية: لا شيء سوى أنني أشك في أن سرقة تحدث في الصيدلية، هناك أغراض تختفي من الصيدلية دون أن يُدفع ثمنها، راجعت الحسابات منذ أسبوع.
الزوج: (بارتباك) ليس صحيحاً، كأنك تتهمني.
ص.الصيدلية: نعم، ومن غيرك في الصيدلية؟
ينتبه لما في يده.
ص. الصيدلية: (بنوع من الشك) ما الذي تحمله في الكيس.
الزوج: (مرتبكاً يحاول التهرب) إنه.. إنه لزبون، نسيه في الصيدلية وسأمرّ عليه الآن لأعيده له.
ص.الصيدلية: أرني ما في الكيس.
الزوج: (وهو يبعد الكيس مرتبكاً) لا، لا.. إنها أغراض خاصة.
ص. الصيدلية: (بإصرار) ليست لزبون، وليست أغراضاً خاصة.. أعرف أنها علب الحليب والحفاظات التي تسرقها من الصيدلية.
الزوج: (بعصبية وارتباك) أنت تتهمني زوراً، أنا لست سارقاً.
ص. الصيدلية: بل سارق. لم أكن أتخيل أن تمد يدك على أغراض الصيدلية. لقد أمّنتك عليها لسنوات.
الزوج: (محاولاً التهرب) قلت لك لم أسرق شيئاً. أنت تتهمني بلا دليل.
ص. الصيدلية: ما جئت في هذا الوقت إلا لأمسك بك متلبساً بسرقتك.
الزوج تبدو عليه بداية الانهيار..
الزوج: (منهاراً) أنا.. أنا لم أفعل..
ص. الصيدلية: أنا أعرف أن ظروفك صعبة، لكن لا شأن لي حتى تطمع طفليك من مالي. فلترضع زوجتك طفليك كأيّ أم طبيعية.
الزوج: (منهاراً) لا تقسو عليّ أكثر ممّا قست الظروف.
ص. الصيدلية: لست جمعية خيرية لأتصدق بمالي على الفقراء.
يصمت قليلاً بينما يظل الزوج عاجزاً عن الكلام.
ص. الصيدلية: اترك ما في يدك وغادر المكان.
الزوج: (مصدوماً) إلى أين أغادر؟
ص. الصيدلية: (يواجه الزوج ويمسك بخناقه) قلت لك غادر المكان، لا أريدك.
الزوج: (وهو يحاول الفكاك من قبضة صاحب الصيدلية) ما الذي تعنيه؟
ص. الصيدلية: لا معنى لها سوى أنك مطرود.
موسيقى مناسبة، وإظلام.. ثم إضاءة سريعة على الزوجين في الكونتينر.
الزوج: (منكسراً) عدت مكسوراً إلى البيت، بعد أن صرت أدور في شوارع المدينة دون وعي. تأخرت على العودة للبيت.
تستقبله الزوجة وعليها يبدو الخوف.
الزوجة: (بخوف) أين كنت يا رجل؟ لقد أرعبتني. لم تأخرت كل هذا الوقت؟
الزوج: (منكسراً) لقد طردني صاحب الصيدلية.
الزوجة: (مصدومة) ولمَ؟ ما الذي فعلته.
الزوج: (مرتبكاً) لم.. لم أفعل شيئاً.. هو يقول أن السوق راكدة ولا أرباح للصيدلية. إنه يفكر بإغلاقها.
الزوجة: وما الذي ستفعله الآن وأنت بلا عمل؟ ما الذي سنفعله؟
الزوج: لا أدري، ربما أبحث عن عمل جديد.
الزوجة: لا أظن الأمر سهلاً..
الزوج: بالفعل لم يكن الأمر سهلاً، تعبت وأنا أدور من صيدلية إلى أخرى. بعضها احتج على الحالة الاقتصادية وبعض الصيدليات وصلها خبر طردي بسبب السرقة، أسابيع من البحث لم أتمكن من الحصول على وظيفة.
الزوجة: عدت للمعهد وأصبحتَ أنت جليس الأطفال. وليتك لم تكن.
-ظلام-
(5)
إضاءة على منظر الشقة، الزوج يجلس بمعية شخصين على طاولة، يتناقشون وعلى الطاولة بعض الأوراق. صوت مفتاح الباب، يفتح الباب، تدخل الزوجة، ينتبه الزوج. يرتبك ويسرع بلملمة الأوراق من على الطاولة. يقف الشخصان، تدخل الزوجة وتقترب باستغراب من الطاولة.
الزوجة: مرحبا.
شخص 1: (متهرباً، للزوج) حسناً نراك مجدداً، سنتفق بالتأكيد.. إلى اللقاء.
يخرجان بسرعة وسط استغراب الزوجة.
الزوجة: من يكونان؟
الزوج: إنهم زملاء.
الزوجة: وعلى ماذا ستتفقون؟
الزوج: (بارتباك) على.. على .. هما يبحثان لي عن وظيفة.
الزوجة: ولماذا لم يردّوا على تحيتي؟!
الزوجة: لا أدري.. سأسلهم بالتأكيد.
يبدأ الزوج برفع فناجين القهوة من على الطاولة وهو يحمل أوراقاً تحت إبطه.
الزوج: (وفي يده الفناجين) سآخذهم للمطبخ.
يتحرك باتجاه الداخل تسقط منه ورقة دون أن يشعر. تتجه الزوجة للورقة وتأخذها تبدأ بالقراءة، الصدمة بادية على ملامحها، تحرك رأسها أسفاً، يدخل الزوج. ينتبه للورقة في يدها يأخذ الورقة منها بعصبية. تنتبه الزوجة.
الزوجة: (يبدو عليها الصدمة) ما الذي قرأته في هذه الورقة؟.
الزوج: (متهرباً بارتباك) لا شيء.
الزوجة: لم أكن مرتاحة من الشخصين اللذين غادرا. ما الذي تنويه؟
الزوج: قلت لك لا شيء.
الزوجة: (بعصبية) بل في عينيك كل شيء. لا أخطئ حدسي أبداً.
الزوج: أنت واهمة، إنهم يبحثون لي عن عمل.
الزوجة: (ترفع صوتها غاضبة) بمنشورات ضد السلطة؟
يبدأ الارتباك والخوف على الزوج، يتلفت يمنة ويسرى.. يقترب منها ويهمس.
الزوج: (بصوت خافت) ما الذي تقولينه؟ هل تريدينهم أن يسمعوك ويعتقلوني؟
الزوجة: (تخفض صوتها، وبنوع من الرجاء) يا حبيبي نحن في غنى عن المشاكل، خاصة مع السلطة. يكفي ما بنا، فلا تورط نفسك مع أحد.
يهدأ الزوج، ويجلس على كرسي الطاولة، ويلوذ بصمت طويل، تحاول الزوجة الهدوء، تجلس بمقابلته. بعد فترة من الصمت.
الزوجة: ألن تخبرني؟
الزوج: (ينظر إليها ثم يشيح بوجهه) بماذا؟
الزوجة: بكل شيء، بالشخصين اللذين غادرا للتو. بالمنشور الذي قرأته. بدوامة الأسئلة التي تطوف في رأسي الآن، بالقلق المميت الذي أوقعتني فيه.
الزوج: لا شيء عندي لأقوله.
الزوجة: (تبكي) لماذا أشعر الآن بأنك غريب. لست كما كنت، لست العاشق. لست زوجي الذي يفتح لي كتاب أفكاره. أنت الآن كائن لا أعرف عنه شيئاً، لا أعرف ما يخبّئ لي.
لوحة: صفوان داحول
الزوج: لا تبالغي في الأمر. كانت مجرد تسلية وتنتهي، أو اعتبريها فضفضة رجل مكبوت، يسير بخطوات سريعة نحو الفقر.
الزوجة: ليس مبرراً يجعلك تورط نفسك.
الزوج: (يتنهد) ليست ورطة. أنا أفرغ كل ما بداخلي من حنق ضد هذا العالم بهذه الطريقة. لا تقلقي، لن يصيبك أذى.
تتنهد الزوجة وتلوذ بالصمت. إظلام سريع، وإضاءة خفيفة تدل على حلول الليل. صوت الزوجة وحده يروي.
الزوجة: كان يطلب مني أن لا أقلق، لكن القلق أكبر من أن أتجاوزه. مرت أسابيع والقلق يكبر ويكبر، صار يثقل صدري.
صوت طرقات قوية وسريعة على الباب، يخرج الزوج والزوجة من غرفتهما بملابس النوم مستغربين.
الزوجة: من هذا الذي يطرق علينا الباب في هذه الساعة؟
الزوج: (يهم بالتحرك نحو الباب) سأفتحه.
يسمع صوت من الخارج.
صوت: اقتحموا الشقة.
تزيد وتقوى الطرقات على الباب، يدخل بعض عناصر الشرطة مدججين بالأسلحة.
الزوج: من أنتم؟ وماذا تريدون؟
شرطي: اعتقلوه.
يهجم بعض الشرطة على الزوج الذي يحاول المقاومة، يركل الشرطي الزوج في بطنه، ينهار الزوج ويجرونه. بينما يبدو الرعب على الزوجة.
الزوجة: (بصوت خائف) أين تأخذونه؟
الشرطي: (بغضب) لا شأن لك.
يخرجون وهم يجرون الزوج وسط خوف الزوجة. هدوء لفترة.
الزوجة: شهران لم أعرف أين مكانه، ولا أيّ شيء عنه. حيّ هو أم ميت. لا أدري ما يأكل وما يشرب، لا أدري كيف ينام، جرّبت كل شيء لأصل إليه، دخلت مكاتب مخابرات ومكاتب شرطة، المعهد والموسيقى كانا جواز دخولي للمكاتب للبحث عن الزوج الغائب، ساعدني بعض الزملاء. أهملت الطفلين، فأنا بين المعهد وزوجي المعتقل فقدت قدرتي على التواصل مع الطفلين. الحمد لله أني وجدت جارة نبيلة اعتنت بهما. غابت أخباره عني شهرين، حتى رأيته هناك.
إظلام سريع وإضاءة على الزوج على كرسي، يقابله محقق في الطرف الآخر. يبدو على الزوج التعب والانهاك.
المحقق: أنت اضطررتنا لأن نعتقلها، ونأت بها هنا أمامك. كان يجدر بك أن تعترف وتخبرنا بكل شيء منذ البداية دون أن تعرّض زوجتك المسكينة لكل هذا الأذى.
الزوج: مشكلتكم معي، وليست معها.
المحقق: نعرف، ونعرف تماماً أنها ليست مثلك، إنها وطنية وتحب هذا البلد رغم كل شيء. أما أنت فقد خنته.
الزوج: أخبرتك بالذي دفعني لذلك.
المحقق: لا يبرر فقرك وحاجتك خيانتك للبلد. منشورات توزعها ضد السلطة، تدعو للثورة ضد سلطة تسمّيها ظالمة، تدعو للعدالة وتوزيع الثورات، تنادي بإنهاء الإقطاع، وتنادي بانتخابات. ماذا تسمي كل هذا؟
الزوج: (منهاراً) لقد أنهكني القهر يا سيدي، متعب أنا جداً وأنا بلا وظيفة. اضطررت للسرقة لأطعم أطفالي. لست مؤمناً بكل هذا، ولكنّي خدعت.
المحقق: حتى وإن خدعت، فأنت أجرمت بحق الوطن والسلطة. أين أصحابك الذين جعلوا منك أداة؟ هل تعرف أنهم هربوا لخارج البلد؟
الزوج: (مصدوماً) كلهم؟
المحقق: كلهم، تركوك وحدك تحمل خطيئتهم لتحاسب عنهم كلهم.
الزوج: أين وعودهم إذن؟ كانوا يقولون إنهم سيحمونني.
المحقق: بل حموا أنفسهم وهربوا. وأنت مصيرك السجن يا عزيزي (يضحك بسخرية).
إظلام سريع، وإضاءة على الزوجة.
الزوجة: رأيته منهكاً لا جسد كجسده ولا روح كروحه، رأيته محطماً والمحقق يحاول التحرش بي لينتزع منه اعترافاً. لم أكن أريد أن أراه على هذه الصورة. كانت موجعة صورته. أخذت كل ما بقي لي من روح.
الزوج: مرت سنة أو أكثر، لا أتذكر بالضبط، وأنا في الحبس الانفرادي، لا أرى الشمس ولا أشم هواءً، ولا أدري في أيّ جحر أنا موجود. لا محاكمة ولا حكم صدر ضدي سوى البقاء في زنزانة لا طعم لها ولا لون. كانت أيامي تمر ثقيلة لدرجة نسيت أن أعد ما مر منها، وكان يثقلها أكثر خوفي على زوجتي وطفليّ. ما الذي حدث بعد أن غادرت زوجتي غرفة التحقيق؟ كيف تعيش، كيف تطعمهما، كيف يمر الليل عليهم؟
الزوجة: كانت الأيام تمر ثقيلة، فلم يكن الأمر سهلاً عليّ، خرجت من غرفة التحقيق، بقيت بعض أيام لم أغادر البيت، كنت أحاول التعافي، أحاول أن أنسى كل ما مرّ بي. لم أكن أستطيع، كان كابوس غرفة التحقيق يجتاحني حتى في يقظتي، صرت أتحسس يد المحقق على جسدي فأنفر من هذا الجسد.
الزوج: لحظة نقلي من الانفرادي لسجن أكثر اتساعاً، ينزل فيه آخرون، نتشارك الحمام والطعام والمنام، كانت على ما فيها لحظة ولادة جديدة.
الزوجة: قررت العودة للعمل، للمعهد والبيانو لطلابي الذي اشتقتهم، أودعت طفليّ عند جارتي مرة أخرى، كانت تشفق عليّ، وهذا ما جعلني أطلب منها الاعتناء بهما.. (تمشي قليلاً إلى يسار المسرح) كنت سعيدة لأن المعهد والموسيقى لا بد أن تبرئ جرحي. مشيت من الشقة إلى المعهد على بعد المسافة، دخلت، وصلت لباب الصف.
صوت أستاذ يشرح درس موسيقى لطلاب، تتوقف الزوجة.. تستمع باستغراب. تقترب منها معلمة موسيقى أخرى. تنتبه الزوجة لها.
المعلمة: (بصرامة) ماذا تفعلين؟
الزوجة: (تنتبه وتحاول الابتسامة) أهلاً أستاذة. لا شيء، عدت اليوم للمعهد. ولكن يبدو أن صفّي قد شغل بمدرس آخر.
المعلمة: إنه أستاذ الموسيقى الجديد الذي أخذ مكانك.
الزوجة: (باستغراب) مكاني؟، وهل سأنقل إلى مكان آخر؟
المعلمة: لا مكان لك في المعهد.
الزوجة: ما الذي تعنينه؟
المعلمة: لقد صدر قرار فصلك من المعهد.
تبدو الصدمة على الزوجة وعدم الاستيعاب.
الزوجة: ولمَ كل هذا؟ كيف أفصل وأنا لم أرتكب ما يستحق الفصل.
المعلمة: كل هذا الغياب وتقولين لا تستحقين.
الزوجة: غيابي كان بعذر، أرسلت رسائل للمديرة أكثر من مرة. كانت إجازات دون مرتب.
المعلمة: لم يصل للمديرة أيّ رسائل.
الزوجة: أنا واثقة أنك وراء كل هذا. أنت وحدك من يكرهني.
المعلمة: لا تتهمينني، يكفي اعتقالك من قبل السلطة. هذا الأمر يستحق الفصل دون نقاش. لقد وصل الخبر لإدارة المعهد وتقرر فصلك.
الزوجة تبدأ بالبكاء وتهم بمغادرة المكان، تنظر للمعلمة الذي يبدو عليها التشفي.. تغادر.
الزوجة: انتهت علاقتي منذ تلك اللحظة بالمعهد، عدت للبيت وأنا كغريق يبحث عن نفس ينعش صدره. كنت أختنق. وأغرق. كنت على وشك الموت. بقيت أياماً لا أعلم كيف أدير حياتي.
الزوج: في السجن، كنت أميل للهدوء، لم أتبادل الأحاديث مع أحد لأن الشك في الجميع كان هو دافعي للصمت. ما الذي يضمن أن لا يكون أحد المخبرين موجوداً في الزنزانة.
الزوجة: فكرت في تدريس الموسيقى في البيوت، نشرت إعلاناً في الصحف، لم يتصل أحد. هل عرف الناس بأني اعتقلت أيضاً وأن زوجي معتقل؟ لا أدري لكن لم يتصل أحد. فكرت في البحث عن أيّ وظيفة.
الزوج: طال الصمت، وثقلت الروح بالهموم، خوفي على عائلتي كان أكبر من التفكير في التعرف على أحد زملاء الزنزانة، لم يستلطفوا صمتي أبداً، ولم أستلطف أحداً منهم.
الزوجة: ودارت بي دائرة الأيام، ووصلت إلى أن أصبح خادمة. معلمة موسيقى تتحول إلى خادمة في البيوت، أيّ سخرية كانت. كانت حاجة طفلي تدفعني لفعل أيّ شيء. حتى لو كان الخدمة في البيوت.
-إظلام-
(7)
نفس المنظر، الزوجة تجلس على ذات الدكة وهي تحوك بالصوف، الزوج يروح ويجيء ويبدو عليه الغضب.
الزوج: (غاضباً) كيف وصل بك الأمر لأن تصبحي خادمة.
الزوجة: (وهي منهمكة في الحياكة) ومن أخبرك؟
الزوج: لا يهم، المهم أنك جرحتِ كبريائي.
الزوجة: وكبريائي أنا؟
الزوج: وكبرياؤك أيضاً. كيف رضيتِ بهذا؟
الزوجة: (بذات الهدوء) ومن قال إني راضية. لكن ما الذي تفعله امرأة معتقل دخلت غرفة التحقيق وحُسبت أنها وزوجها ضد السلطة؟
الزوج: هذا لا يبرر أن تعملي كخادمة.
الزوجة: من كان بحاجة ملحّة مثلي قد يتنازل عن كبريائه. كان يمكن أن أعمل في أيّ وظيفة توفر لنا لقمة عشاء وثمن إيجار شقة.
الزوج: لم أكن أظن أن كل هذا سيحدث.
الزوجة: أنت من اخترت هذا الطريق.
الزوج: لست أنا، الظروف، الجيب الخالي.
الزوجة: دعنا ننسى الظروف والجيب الخالي. أنت خرجت من المعتقل سليماً بلا عاهات وهذا يكفي. لنفكر في الأيام الآتية.
الزوج: من قال بلا عاهات، روحي كلها عاهات، كلها ندوب.
الزوجة: وهكذا عاد من المعتقل، وليته لم يعد. أتعبني أكثر بهذا المزاج الحاد والكوابيس التي تزور نومه. ومع كل هذا أكملت عملي كخادمة، فقد زاد عليّ الحمل أكثر، شخص رابع يجب أن أطعمه.
الزوج: قاربت اليأس، لم أعد قادراً على مواصلة الحياة في المدينة. كنت أخاف الخروج ورؤية شرطي صدفة، كان جسدي يرتعش لدرجة التبوّل على نفسي. كنت أخاف من كل ما يمتّ للسلطة بصلة. حتى من رجل المرور.
الزوجة: كان قرار الهروب من البلد صعباً، لا أدري كيف وافقته. بدأ بالتخطيط للهروب، كنت خائفة ممّا سيأتي. خائفة على الطفلين، وعليه أيضاً. كيف سيهرب بنا وهو بكل هذا الخوف والقلق. ما الذي سنفعله في بلد غريب. ولغة غريبة؟
الزوج: (للزوجة) وجدت من يأخذنا من هنا.
الزوجة: (باستغراب) ومن يكون؟
الزوج: وسيط، ولكنه يحتاج للمال لتدبير كل ما يلزم.
الزوجة: وكيف نضمن أنه سيوصلنا؟
الزوج: إنه عمله، ندفع له وسيوفر لنا طريق الهرب من هنا، أنا لم أعد أقوى على الحياة في هذا البلد. أريد أن أنسى كل شيء.
الزوجة: وجهدت طوال أشهر كي أجمع المال الكافي، كنت أعمل في البيوت خادمة، وفي البيت أحوك قمصان الصوف والقبعات. وجمعنا مالاً كان يكفينا أن نعيش بشكل أفضل أو نفتح مشروعاً تجارياً صغيراً، لكن رغبته هو في الهرب وليس رغبتي بددت كل ما جمعته. لم أكن أريد الهرب من البلد. كنت متصالحة مع وضعي.
الزوج: لم أتصالح أبداً مع هكذا بلد، لم أشعر بعد الاعتقال بأيّ انتماء إليه. بل إني شعرت بكراهيته ورغبة ملحة في الهرب منه.
الزوجة: كنت أحاول إقناعه بالبقاء، لكنّي لم أتمكن. الفكرة تسيطر عليه. لم أجد بداً من الموافقة.
الزوج: كان لا بد أن نهرب، فلم يعد لي في هذا البلد من مكان، لا وظيفة ولا طمأنينة.
الزوجة: (بحزن) إنه بلدنا، وطننا، كيف نغادره؟
الزوج: حين نفتقد الطمأنينة في أوطاننا فإن الوطن لا معنى له.
الزوجة: وكانت لحظة الهرب، كانت لحظة مغادرة الشقة التي لم أغادرها منذ سكنتها إلا إلى مركز الاعتقال، لم أغادر المدينة التي جئتها من قرية بعيدة لأدرس فيها وأدرّس وأحب وأتزوج، وأنجب (تردد حوارها بنوع من اليأس والحزن)وأجوع وأشعر باليأس وأشقى وأعتقل وأعمل خادمة. المدينة التي سكنتها وسكنتني كان من الصعب عليّ مغادرتها.
الزوج: (بفرح) كانت لحظة مغادرة المدينة لحظة الفكاك، شعرت بأني يومها فقط تحررت من سجني.
الزوجة: (بضيق واضح) كانت رحلة مخيفة، كنا نواجه الموت، رأيناه بأعيننا.. كائناً بلا ملامح، له فم مفتوح على اتساع السماء، يبلع كل ما يقترب منه.
الزوج: (بفرح) رغم صعوبة الرحلة، رغم الخوف. وصلنا إلى أرض الأمان، أرض الأحلام. تلقفتنا يد سلطة البلد، احتضنونا أضافونا في مخيمات اللاجئين.
الزوجة: (تبدأ بالبكاء) كم هو موجع أن ترى أحلامك تتبدد. أحلامي بالشهرة وحفلات الموسيقى والأسطوانة الخاصة. أحلامي بأطفال يعيشون حياة أفضل. كلها تبددت، كلها راحت إلى الفناء.
الزوج: (بفرح) كم أنا محظوظ لأنّي تخلصت من بلد يقسو على أبنائه، ما فائدة بلد نعيش فيه ونحن في حاجة. هنا لا شيء ينقصنا، طعام وبيت.
الزوجة: (تبكي) أيّ بيت هذا وأيّ طعام؟ إنه مجرد كونتينر. وأيّ طعام ذلك الذي تتصدق علينا به المؤسسات الخيرية؟ أيّ أمل وأيّ حلم ذلك الذي تركناه وراءنا. حتى الطفلان فقدناهما. بحثوا لهم عن أب وأم غيرنا بحجة التبني. بحجة البحث عن مستقبل أفضل.
الزوج: (سعيداً) أكملي، لقد بدأت أنسى، أشعر بالسعادة. بدأت أتخفف من الماضي.
الزوجة: (تصرخ باكية) لن أكمل، أنت تتخفف من الماضي ولكنك ترهقني به.
الزوج: أنت تساعدينني بلعبة التذكر هذه. أنا أفرغت كل الذكريات القاسية من رأسي.
الزوجة: (منهارة تمسك رأسها) ولكنك أفرغتها في رأسي. كل اللحظات التي مرّت بي وبك تحلّق أمام عيني، لا أستطيع أن أفتح عيني ولا أغمضها. شريط من الذكريات الموجعة.
الزوج: (يحاول تهدئتها) لا بأس، أنت قادرة على التخلص وعلى النسيان. لست مثلي. يكفي أنك عالجتِ كل عاهاتي بهذه اللعبة الممتعة.
الزوجة: (تبعد يده بغضب) ممتعة؟ أيّ متعة تجدها في الضغط على رأسي بذكرياتك؟ لقد تعبت حتى نسيت كل شيء، وها أنت تعيدني لذات اللحظة.
الزوج: أنت من اقترحتِ هذه اللعبة، وقد نجحت. أنظري، أنا إنسان آخر، لا كوابيس ستزور نومي، ولا خوف من طرق باب ولا من زوار ليل.
الزوجة: (بهستيريا) ولكني بتّ أخاف، أخاف من يد تلمسني، أخاف من ظلام، ومن كل شيء. أنا لا أستطيع البقاء هنا.
الزوج: (باستغراب) وأين تذهبين؟ إنه بلد غريب عنا.
الزوجة: (بهستيريا) أريد أن أعود.
الزوج: إلى أين؟
الزوجة: إلى بيتي ومدينتي وصفّي، إلى البيانو والموسيقى وأوراق النوتة. إلى حياتي الحقيقية. أنا لا أريد أن أكون لاجئة في كونتينر. أنا امرأة أحبّت الحياة.
الزوج: سنجد الحياة هنا، سنطلب لجوءاً. سننتقل من هذا الكونتينر.
الزوجة: (وهي تبكي بهستيريا) لن أنتقل إلى أيّ مكان سوى إلى بيتي. سأعود إلى قريتي. اشتقت لقريتي ولأمّي.
الزوج: لن تغادري المكان. سنبقى هنا، حتى تأتي الفرصة.
الزوجة: لا أريد فرصاً يكفيني فرصاً.. أفهمت؟
تبدأ بحمل بعض الأغراض والملابس في يديها.. وتهمّ بالخروج
الزوج: ما ذا تفعلين؟
الزوجة: لن يخف ثقل رأسي سوى بالعودة إلى البيت.
الزوج: والطفلان؟ وعدناهما أن نأتي لهما.
الزوجة: بل سيأتيان هما، لن ينسياني أنا متأكدة، سيدلون طريقي يوماً ما، سيبحثان عنّي بالتأكيد.
تهرب مسرعة جهة الباب.. يلحقها وهو ينادي .. يترك الباب مفتوحاً.
الزوج: (ينادي) تعالي.. لا تذهبي.. تعالي..
يخرج، هدوء، صوت ريح خفيفة.. وطرقات على الباب كما في مستهل المسرحية.
-نهاية-