حقيقي كان الرعب، وكان يبدو سخيفاً
منذ أيام وأنا أفكّر في كلمات نجمية، وعلى ما يبدو كان عادل يمضغ بصمت الأفكار ذاتها، ولكن مع خيبة أمل واضحة. كنا جالسين على سلالم منزل محترق، وما تزال تسمع في الجوار أصوات طلقات البنادق وانفجارات قذائف الهاون، كما لو كان العدوّ يريد أن يحذّرنا من أنه لا يزال هناك في انتظارنا. عندما سقطت القرية الرابعة بين أيدينا، طبّقنا حرفياً ما تنبأت به العرّافات بقوة وإدراك بدائيين، إذ أننا قتلنا جميع الكائنات الحية، ما عدا الدجاجات. ومع ذلك، لم يكن ثمة أثر لنجمية، التي اختفت فجأة في الظلام.
“اللعنة!”، بدأ عادل بإظهار علامات الغضب، “كان عليك أن تقرأ جيداً تلك الرسالة اللعينة!”
كان يشير إلى الرسالة التي وجدتها في حقيبة نادية، مخبأة في كيس من القماش، فوهتها مشدودة بخيط من النايلون. بالإضافة إلى الرسالة، كانت الحقيبة تحتوي أيضاً على صور والديها، وحقل الزيتون حيث دفنا. كانوا جميعهم ينامون الآن بسلام، بما في ذلك القناص الذي أطلق النار عليهم. على الشواهد المصنوعة من جذوع أشجار شُقّت إلى نصفين، كان يمكن قراءة أسمائهم المحفورة بالحديد المتّقد. كان علينا أن ننتظر، ونبقى على انسجام مع الومضات التي كانت تحذرنا باستمرار من الحركات المشبوهة.
كنت أسمع صوت نجمية الواهي بين الفينة والأخرى، يسري حولنا فجأة كومضة برق، لكنني لم أكن أستطيع تحديد مصدره، على الرغم من أنه كان يبدو وكأنه قادم من الجوار. كان مثل صدى تائه، يدور حولنا ويخدع حواسنا. “عزلة الحرب هذه هي التي تجعلني أفكر بالانتحار”. بهذه الكلمات المشرّبة برائحة البارود، تنهي نجمية رسالتها، دون أن توضّح ما إذا كانت عزلتها راهنة، أو تعود إلى أزمنة موغلة في القدم. ثم كان هناك شكّ حول تلك الحقيقة التي تميل إلى أن تكون مطلقة: كيف كان للجوع أن يترك لها مجالاً للشعور بالعزلة! كيف يمكن أن يحدث ذلك، طالما كانت محاصرة من كلّ الجهات بالمدفعية الثقيلة والدبابات والميليشيات المجهولة؟ ثم، بالتأكيد، لم يكن بحوزتها سكّر ولا قهوة ولا تبغ. يا لنجمية المسكينة، ويا للملل الذي شعرت به!
“كان علينا أن نستعلم عن الأمر قبل مغادرتنا”، أجاب عادل فوراً على ما كنت أفكّر به، فما لا يعرفه، كان يتكهّنه.
“نادية…”
“نادية، نادية، نادية، مرة أخرى تلك الفتاة اللعينة!”، قاطعني عادل، مكشّراً عن أنيابه.
“لقد وجدت الرسالة…”. أردت أن أشرح له القصة، لكنه انتزع الكلام من فمي.
“لقد انخدعت مثل دجاجة، ها هي الحقيقة”، قال بحدّة، ثم نهض وصّوب المنظار نحو النهر الذي كان يتدفق بهدوء في قاع الوادي. على الضفة اليمنى، كانت تشاهد بالكاد ملامح أشكال باهتة تقريباً، تبدو شفافة تحت حرارة الشمس الحارقة.
“ابن العم، هناك نساء عاريات يستحمِمْن في النهر”، وصف بمرح ما كان يراه، “قد تكون نجمية بينهم”، أضاف، وهو يسبغ بعض الجدّية على نبرة صوته.
“ماذا نفعل؟”، سألتُ بقلق. سلوكي المتردّد لفت انتباهه فوراً، لأنه لا يطيق الأشخاص الخانعين، وأولئك الذين لا يستوعبون بسرعة مغزى المستجدّات.
“أطلق قذيفتي هاون للتحقّق من سلامتهم، وأخرى لتحذيرهم من أننا قادمون”، أمر عادل مثل جنرال على وشك أن يبدأ معركته الكبرى.
“لكنهم مدنيون؟”، استهجنت، “كيف تجرؤ على قصف أناس عزل؟”.
صدرت عن عادل ضحكة عفوية، ولكنها حذرة. وسرعان ما اتخذت ملامحه طابعاً مخيفاً، كما في تلك اللحظات عندما كان يرقص في ظلّ راجمة صواريخ الكاتيوشا، المسماة أيضاً “أرغن ستالين”، متأملاً بزهو فوهاتها الأربعين وهي تبصق اللهب مثل تنين خرافي.
“أوووه!… أوووه…”، كان يصرخ، رافعاً البندقية إلى الأعلى، وهو يدقّ الأرض بقدميه على إيقاع الصواريخ التي تشق عنان السماء، “إييييه أيها الربّ، أين أنت؟… تعال وأوقفني!”
والربّ كان يجيب: “ها أنذا يا بني، انظر إلى وجهي إن كانت لديك الشجاعة!”
عندئذ، كان عادل يتوقف عن الكلام وينتابه حزن شديد، لأنه لا يستطيع أن ينظر إلى وجه الربّ.
“ميلاد”، ناداني بعد لحظة، “إنه قدَرَهم، ألا تفهم؟”.
“لكن، إن لم نقصفهم بالهاون، فلن يموتوا”، أجبته بنبرة لطيفة. حدّق عادل في الأرض الرطبة، وحفر بنظراته الحادة ثقباً في الطين ليرى أين انتهت جذور الأشجار المحروقة، ثم رفع رأسه ببطء ونظر مباشرة إلى الشمس المبهرة.
“إنهم أموات، يا ميلاد، وقصفهم بالهاون لن يغيّر شيئاً… لا شيء البتّة…”، قال وهو يضع يده اليمنى على كتفي، بينما باليد الأخرى كان يجرّ البندقية على مستوى الأرض. “هل فهمت؟”، تابع، “إنهم أموات، أموات تماماً. وبعد المرة الأولى، لن يشعروا بأيّ ألم. إنها الحقيقة، صدّقني. أنا، وأنت أيضاً، وكثيرون آخرون، نواصل الموت منذ أعوام، منذ أعوام كثيرة…”
“حسناً… أعتقد أنك محقّ”، وافقت. بدا لي أن ما يقوله كان صحيحاً.
“أرأيت؟”، هتف، “ثم، فليبق الأمر بيني وبينك، نحن لا نرتكب جرائم حرب بإطلاقنا النار على الأموات”. وكان هذا صحيحاً أيضاً.
ناشطٌ في الحركة الشبابية، كومبارس في الاستعراضات العسكرية وموزع ماء الورد خلال احتفالات مولد الرسول، كان عادل، المحارب الكئيب، قد عاش الحياة بكل أبعادها. ليس هذا فحسب، فقد مارس حفر القبور وتلقين الموتى، الذين كان يقرأ عليهم مقاطع كاملة من الكتاب الأحمر لماو تسي تونغ، حيث كانت مجلة “الصين المصورة”، تهدي نسخة منه شهرياً للمشتركين.
خلال تلك القراءات، كان لا يتبقى لأقارب المرحوم، وهم مجموعة صغيرة من الفلاحين الأميين، سوى رأفة وغفران الخالق الرحيم.
أخرجت من صندوق الذخائر قذيفة من عيار 120 مم بلهفة منقطعة النظير، وجعلتها تنزلق بتؤدة في سبطانة مدفع الهاون. انطلقت القذيفة نحو الأعلى، ثم تهاوت، بمسار منحن، ورأسها نحو الأسفل، على الهدف. عندما سمعت النساء العاريات صفير القنبلة، رفعن رؤوسهنّ نحو الأعلى، وهنّ يحمين أعينهن من الشمس، من دون أن يظهرن أدنى خوف، دليل لا جدال فيه على خلودهم.
بعد استكمال مسارها، انفجرت القذيفة على الشاطئ، محوّلة الأجساد الهشّة إلى عشرات الأشلاء. ما كنت قادراً أبداً على محاكاة عادل في تهكّمه: كان يضحك كالمهووس!
“أطلق قذيفتين أخريين، ثم الحقني إلى المطحنة، يجب أن ننقذ نجمية والأخريات قبل الغسق”.
“ما الحاجة إلى ذلك، طالما حوّلناهم إلى أشلاء؟”، سألت بتذمر.
“لقد أخبرتك، أليس كذلك؟ ليس لدينا طريقة أخرى لتحذيرهم من وصولنا، إنها اللغة الوحيدة التي يفهمونها”.
الغريب في الأمر، كان كلامه صحيحاً هذه المرة أيضاً.
وصلنا جواب القذيفتين حالاً: رشقات نارية، مع تجديف ولعنات بلغات مختلفة. كنا نسير بمحاذاة نهر الفرات، على مقربة من مدينة الرقة. المجموعات متعددة الأعراق التي كانت تفتك ببعضها البعض هناك في الأسفل، كانت هي نفسها التي نفّذت الخطة الخمسية للنظام، عبر نشر الرعب الوقائي لتهدئة الاحتجاجات التي كانت بمثابة جلبة مثيرة للأعصاب. كانت المشكلة تكمن في فهم الطرق والمعايير التي يتمّ بواسطتها تطبيق هذه الخطة الشيطانية.
بالإضافة إلى البشر العاديين، كانت الآلهة القديمة والحديثة متورطة كذلك في الحرب، وكأن السماء لم تكن كافية لها، فقررت الاستيلاء على الأرض أيضاً، ذرة في محيط من الرمال. عندما رويت هذه الحادثة لعادل، الذي كان قد أحرق في هذه الأثناء المطحنة وكوخ الطحّان، علّق قائلاً:
“لا داعي للقلق؛ هذا أمر شائع في قواعد الحرب، ويشبه إلى حدّ ما الفعل وردّ الفعل”.
“آه!”، أومأت وأنا أقطّب حاجبي، “وماذا إن لم نجدها؟”.
“إن لم نجدها، سنبحث عنها في مكان آخر”.
“مثلاً؟”.
“مثلاً على أرصفة المدينة”.
“على أرصفة المدينة؟”، هتفت مندهشاً.
“انظر يا ميلاد”، ردّ عادل بهدوء، “الحروب، بالإضافة إلى الدمار والازدهار، تنتج أيضاً أعداداً كبيرة من البغايا والقوّادين، وفي حالات نادرة جداً، جنرالات كبار، مثل أولئك الذين يسمونهم البحاثة والمؤرخين بنبرة حميمية: أولاد ….“.
بدأت أمشي، بصمت. حتى عادل كانت لديه تلك القدرة النادرة لإعداد خطط استراتيجية رائعة.
بين الأجمّة الكثيفة والنباتات التي شكّلت نوعاً من الحاجز الطبيعي، بسبب التنافس على الضوء والتفاف بعضها ببعض، تمكنّا أن نراقب، من دون عائق، بقايا النساء العاريات وهنّ يلملمن أعضاءهن المتناثرة هنا وهناك. إن رؤية مشهد كهذا عن قرب، يجعل الدم يتجمد في الأوصال. لكن الرعب، رغم كونه حقيقياً، كان يبدو سخيفاً: فلم يحدث في أي وقت مضى، رؤية أقدام وأذرع ورؤوس منفصلة عن الأجساد، تتدحرج على الشاطئ، محاولة الوصول إلى مياه النهر لغسل جروحها؟
“اصمت، إنها الحرب!”، حذّرني عادل بلا مجاملات. كنت جاثماً خلفه، مستنداً على كتفه تقريباً، أتابع باهتمام حركات النساء العاريات.
“هل تعتقد أن نجمية بينهنّ؟”، سألت بصوت منخفض.
“أجل، تلك ذات الثديين المستديرين، هل تراها؟ انظر هناك، إلى اليمين، بجانب الصخرة الصفراء”.
كانت هي بحقّ، تحمل سلّة على رأسها في طريقها إلى المعبد. كان الدرب شديد الانحدار، لكنه كان يبدو وكأنه يتضاءل تحت قدميها الجميلتين. مع كل خطوة، كانت الأرض تكشف عن سهل يخلب الأنظار: حقول من القمح وأزهار برية تشع بألف لون. كل ما كان علينا أن نفعله، هو أن نعبر النهر ونأخذها بعيداً. عملية بسيطة، لكن في اللحظة الأخيرة، بينما كان عادل يستشير خريطته العسكرية، شاهدنا عشرات الدبابات تغزو السهل بوحشية، وتحيط بنجمية من كافة الجهات.
“هجوم!”، أمر عادل، ثم ألقى بنفسه في الماء، وجرّني معه. ما كان يفترض أن يكون قفزة بسيطة من بضع سنتيمترات، تحول إلى تحليق نسر حقيقي. معلّقين في الهواء مثل طيور النورس فوق المحيط، وصلنا إلى فوهة كهف مظلم ورطب مع لسان متشعب من الصلصال الذي كان يبتلع بشراهة مياه النهر.
“لقد كانت عمّتي”، سمعت صوت عادل يدمدم في الظلام، “تحمّل، سترى بأننا سننجح”. ثم أضاف وهو يشتم “عندما نعود إلى البلدة، سأقوم بتسليمها إلى حارس حديقة الحيوانات”.
“انتظر، سأبحث عن شعلة”، قلت، كما لو أن دكان البقّال على بعد خطوتين من هناك.
“عوضاً عن ذلك، بلّل إصبعك واعرضه للهواء”، ردّ عادل.
“لماذا؟”.
“للبحث عن الطريق إلى الخارج، يا أبله”.
كانت الجدران تتكلم معه، والسقف أيضاً، ويكرّرون معاً، إلى ما لا نهاية، كلماته السخيفة.
مشينا ببطء، مع السبابة مبلّلة باللعاب، وشرعنا نتقدم ونحن ندوس على كائنات متورمة. لو احتكمت إلى الأصوات الرهيبة التي كانوا يطلقونها، لأقسمت بأنها كانت وحوشا ذات وجوه بشرية. لم تكن تصدر عنهم أيّ شكاوى، سوى أن ندعهم وشأنهم. كانوا من المعتقلين الذين تُركوا لمصيرهم منذ سنوات طويلة، ولم يكن أحد منهم يأمل في الخلاص. عادل، بالطبع، لم يشعر بأيّ رحمة تجاههم، بل أقسم بأنه، بمجرد الانتهاء من عملية إنقاذ نجمية، كان سيعود بقاذف لهب لإبادتهم.
وجدنا المخرج بالصدفة، وكان عبارة عن فتحة في سقف الكهف، مزوّد بسلّم من الحبال الغليظة. لم تكن السبابة المبلّلة عوناً كبيراً لنا، ولكن عادل ادّعى العكس.
“في الظلام”، قال، “أفضل دليل لشخص ضائع هو إصبعه. انظر هنا، على رأس هذا العود من اللحم والعظم، يوجد أحد أقوى الرادارات على سطح هذه الكوكب الغبي”.
عندما كان عادل يتكلم عن عجائب الخلق، كان حريصاً جداً على الإشارة إلى كوكبنا بهذا الاسم، مقتنع أنه في مكان ما في الكون، يجب أن يكون هناك كوكب تسكنه كائنات أكثر ذكاء وأقوى منا. كان اعتقاده هذا يزداد رسوخاً في اللحظات التي كان يشهد فيها عن كثب غباء البشر، عندها كان يعتبر قناعته أمرا مسلّما به، ولا يقبل النقاش.
“ما زلنا بدائيين للغاية… بدائيين… بدائيين…”، كرّر قائلاً بمزيج من الدهشة والغضب، عندما صادفنا في طريقنا تجمعات سكنية بحالها قد تحولت إلى أنقاض وحقول التهمتها النيران وجثث نساء وأطفال تتناثر عشوائياً في كل مكان.
“لكننا نفعل الشيء نفسه!”، لفتُّ نظره بلطف عندما اقتربنا من القرية الخامسة، وهي مجموعة صغيرة من البيوت والإسطبلات والحظائر التي تطلّ على حقل الذرة المحاصر بالدبابات.
“بالطبع”، أجاب عادل، “الحرب تجري بهذه الطريقة أيضاً، وإلّا لا معنى لها”.
كان يكذب، لأن عينيه كانتا تلتمعان بألق حزين، ولكي يحوّل دفّة الحديث، كما اعتاد أن يفعل عندما يقع في ورطة ما، بدأ يشكو من عمّته “أولاً مع الجنود البريطانيين، ثم مع أولئك الإسرائيليين، وفي النهاية مع المجاهدين، تلك العاهرة! والشيء المضحك، أنها تحاول أيضاً أن تبرّر نفسها. تقول إنها أذلّتهم: لو رأيتهم كيف كانوا يبكون في حضني. قَحْبة!… قَحْبة!… أنا سوف أقتلها”.
في تلك اللحظة، كانت ضحكات رمزية ربّي- ربّي تصبح أكثر حدّة، وهي ترقص عارية في الحقل كما خلقها الله، وسط حشد من رجال الميليشيات.
لم يلتفت عادل، كان يخشى أن ينظر إليها. هو أيضاً، بالتأكيد، مثله مثل جميع اللاجئين الذكور، كان يشعر أنه مسحوق من قوتها الجنسية. بعد كل شيء، كان الجنود الوطنيون هم الذين احتفوا بها أولاً، عندما كانت في الثالثة عشرة. رمزية ربّي- ربّي، بالإضافة إلى المتعة، عانت أيضاً من رعب بغيض لرؤيتهم يتذابحون بين بعضهم البعض للنيل من جسدها الممدّد بلا حراك على معطف عسكري. في غضون ساعات قليلة، كانت قد رأت ثلاثة وعشرين وجهاً مختلفاً يمرّ فوق جسدها الغضّ.
كان سكان القرية قد فرّوا قبل وصولنا، لما سمعوه عن شراستنا، وهو ما كان يمنحنا ميزة كبيرة على العدو. كانت استراتيجية عادل بسيطة ولكنها فعالة. كل ما كان في طريقنا، باستثناء الدجاج، كانوا أعداء يجب القضاء عليهم. ولم يكن من النادر أن يطلق رشقات من الرصاص، كلّما مررنا بالقرب من نهر أو جدول ماء، لأنه كان يخشى الأسماك وحوريات المياه العذبة. “يمكن أن يكونوا شهوداً محتملين!”، كان يبرّر فعلته.
حاصرنا القرية عند الفجر. أمسك عادل بمكبر صوت بلا بطاريات، وأطلق إنذاره المعروف:
“سأمنحكم خمس ثوان للاستسلام”. ثم بدأ العد التنازلي “خمسة… أربعة… ثلاثة… اثنان… واحد… ميلاد، أشعل الفتيل”.
رؤية المنازل وهي تتطاير في الهواء، كان مشهداً فريداً من نوعه. كانت الوسائد وأجهزة التلفزيون والصور العائلية والنعال والثريات، تتطاير في الهواء، وفي بعض الأحيان، تظلّ معلّقة في الجو، حتى لعدة أيام، مخالفة الجاذبية الأرضية.
“ربما لكي تشير للعدو عن مكان وجودنا!”، كان يفترض عادل، ووجهه تشوبه مسحة من القلق. ثم كان يستهدف تلك الأغراض بدقّة عجيبة، ويرديها على الأرض واحدة تلو الأخرى.
كان خياله الجامح يجعله يتوقع كل حركة للعدو حتى قبل وقوعها. وفي كثير من الأحيان، كان يفاجئهم في النوم، بينما يستمتعون بالأحلام المشبعة بالمجد والنصر. لذلك، كان قد خمّن بدقة مذهلة تاريخ الهجوم النهائي، ولكن من دون الكشف عنه لأيّ شخص.
“إنهم يقومون بتجهيز المدفعية الثقيلة”، أعلن فجأة، “فلنتحرك حالاً، سيتم استخدام نجمية كدرع بشري”.
ولكن هناك في الأسفل، حيث كان ينبغي أن نواجه القسم الأكبر من قوات العدو، كان يسود صمت مطلق. لقد انسحبوا بالفعل، تاركين خلفهم أرضاً محروقة. لم يكن هناك أيّ أثر لحقل القمح، ناهيك عن الغابة الصغيرة، بينما كان صوت نجمية لا يزال يتهادى في السهل المقفر، كما لو أنه يحييّ هذا العالم لآخر مرة. برؤية هذا المشهد المروّع عن كثب، بدا لنا أن لا أحد يمكنه أن ينأى عن هذا المنزلق، على الرغم من أن الأزمنة والأماكن كانت تتناوب وفقاً لخيالنا المشوش.
لو لم يكن الأمر يتعلّق بإشارات الطرق وضباط الجمارك الذين يخفون وجوههم وراء أقنعة من الشمع، لما كان بمقدورنا أنا وعادل التخلّص من هذا العبء المذلّ. خلال كل ذلك، كان الشيء الوحيد الذي يربطنا بالواقع هو ظهورنا كجنود شجعان، بالزي الرسمي المزخرف بالأوسمة والميداليات الذهبية الباذخة، التي كان عادل يصنعها بنفسه خلال أيام الهدنة. لقد كان يوماً مثالياً للعيش مثل أقراننا، ارتياد علب الليل سيئة السمعة ومضاجعة النساء على مقاعد الحدائق العامة.
بوصولنا إلى محطة القطارات في ميونيخ، كان أول ما تبادر إلى أذهاننا، هو السؤال عن أماكن مراكز الإيواء التي ترعى الفتيات الهاربات من أهوال الحرب. تقدّم أكثر من شخص لمرافقتنا إلى هناك، لأنهم كانوا يريدون مشاركة معاناتنا المستمرّة منذ سنوات عديدة. انتابتنا الدهشة عندما وجدنا كل أفراد المجموعة ينتظروننا عند موقف الحافلة لاستئناف المسيرة. كانت هناك نادية وماجدة وريبيكا وسليمة وكونغاوو وراميش وإسماعيل، بينما نجمية كانت على متن عربة يجرّها حصانان أبيضان. كان يوم زفافها.
تابع مقالات الملف: